جبال الحزن .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993
لا أعلم هل لي
الحق فيما أشكو منه أم لا؟ فمنذ ثلاث سنوات فقدت ابني الكبير بلا مقدمات وهو
ممتلىء شبابا وقوة وعافية ودون سبب معلوم إلا أنها إرادة الله سبحانه وتعالى وكان
عمره حين غاب عنا فجأة ثمانية عشر عاما . لقد كان الله رحيما بنا فتوفي ابني إلى
رحمة ربه وهو في فراشه ببیته وأمام أعيننا وفي لحظات ، ورغم فداحة المصاب فقد
ألهمنا الله التسليم بقضائه وقدره وأعطانا القوة فلم يرتفع صوت بكاء ولم نلبس
السواد ولم نقم سرادقا للعزاء ليأتي إليه من يأتي غالبا مضطرا ويجلس وهو يتعجل
انتهاء التلاوة ليسارع بالخروج منه ولم ننشر نعيا للتفاخر بالأنساب .. ولا صورته
لتثير المواجع وتبرعنا بتكاليف كل ذلك وأكثر منه لأوجه الخير ونفعل ذلك كل عام في ذكراه
السنوية راجين أن يتقبل الله منا وأن يشمل روحه الطاهرة برحمته وعفوه .
وأنا رجل مؤمن
بالله وبقضائه وقدره وبأن لكل أجل كتابا وموقن بما جاء في آي الذكر الحكيم بسورة
الحديد من أنه "ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من
قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير . لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بها
آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور" صدق الله العظيم . .
وما يحيرني
بعد ذلك هو أنه بالرغم من كل هذا مازال حزني على ابنی كبيرا وعميقا عمق قاع البحر
ويملأ کیاني کله ويفقدني حماسي للحياة والعمل ، ويسوى عندي بين كل الأشياء بحيث
أصبح لا أهمية لشيء عندي ولا طعم لأي شيء . ولأني قد تعودت أن أناقش مع نفسي کل
الأمور بهدوء فإني أجد أن حزني هذا غير منطقي .. إذ كيف أحزن على ابني وقد متعنا
الله به ثمانية عشر عاما كاملة وغيرنا مثلا لم ينجب ولم يعرف طعم الأبوة ؟.
وكيف أحزن كل هذا الحزن وقد كنا معه في البحر الأحمر قبل وفاته بثلاثة أيام ، وكنت معه وهو يمارس هواية الغطس أمام ناظري وأراه يهبط إلى عمق سحيق ثم يصعد منه كالفهد القوي وأسأل نفسي الآن وماذا لو كانت وفاته قد حدثت في تلك اللحظة .. وكيف يكون الأمر لو كان ذلك قد حدث .. وكيف كنت سأتصرف في هذه الحالة .. وأقول لنفسي أليس لطف الله بنا كبيرا أن يموت بعدها بأيام في بيته .. وفي فراشه .. وليس في عرض البحر ؟
وكيف أحزن وقد اختاره الله لجواره في لحظة كلمح البصر وغيره تعذب عذابا أليما في كوارث وحوادث وانهيارات ثم مات أيضا في النهاية .
ولكاتب هذه الرسالة أقول :
بكى أحد
الحكماء على قبر ولده .. فقيل له : كيف تبكي وأنت تعلم أن الحزن لا يفيد ؟ فأجاب
متنهدا : إن هذا هو ما يبكيني !
وهذا صحیح یا سیدي
فنحن نحزن ونحن نعلم جيدا أن الحزن لا يفيد
ولن يعيد
غائبا من غيبته ونحزن لفراق الأعزاء وللأيام الجميلة التي ذهبت ولن تعود ، ولكن
إلى أي مدى يحق لنا هذا ؟ .. وإلى متى!
إن أرقى
مميزات الإنسان هي التفكير .. والتفكير العاقل ينبئنا أن الإنسان لابد له بعد أن
يسلم بقضاء الله وقدره ويمتثل له أن يسلم أيضا بأن ما جرى ما كان ليتأخر عن موعده
لحظة واحدة .. ولو اجتمع الإنس والجن على أن يحولوا دونه لأنه أجل محتوم وموعد
مسطور من قبل أن يخرج الجنين من ظلام رحم أمه .. وله بعد ذلك أن يبكي أعزاءه
ويطفيء النار الحية المشتعلة في كبده بماء الدموع ولا بأس في ذلك بشرط ألا يقول
إلا ما يرضي ربه .. فالدموع : "مطافيء الأحزان" ، ولم يخلقها الله لنا
عبثا وهو أدری بلوعة الحزن ، كما يقول الشاعر ، وبعد أن يشتفی لابد له أن يتجمل
بالصبر .. وأن يستعين بالصلاة على أمره .. وبالانشغال عن أحزانه بكل ما يخفف من
لوعتها عليه .. وأن ينخرط في دوامة الحياة ويشغل كل أوقاته بالعمل .. وبالنشاطات
الاجتماعية المختلفة وبالاهتمام بالآخرين .. ولا بأس بأن يسعى إلى تجديد حياته
والبعد لفترة قصيرة عن موطن الأحزان .. ويسعى لاكتساب صداقات جديدة واهتمامات
جديدة تصرف ذهنه عن التركيز فقط فيما يثير أشجانه ، فيهدأ لهيب النار تدريجيا ..
وتخف حدة الأحزان .. ثم تصبح مع الأيام کندوب الجراح القديمة .. لم تعد تؤلمنا ..
لكنها أبدا لا تزول .
وهذا هو مصير كل الأحزان مهما طالت إذا أعان الإنسان نفسه عليها وأنعم عليه ربه بنعمة النسيان .. وفقد الولد من نكبات الحياة الأليمة .. وفضل الصبر عليها يفتح لأصحابه أبواب الرحمة ويعلي من درجاتهم عند ربهم ويغفر لهم من ذنوبهم ، وهو من المواجع الإنسانية القديمة حتى لقد خصص له بعض الأئمة فصولا طويلة في مؤلفاتهم عن فضل الجلد عند فقد الولد ، والجلد لا يمنع العين من أن تبكي أعزاءها عند الصدمة الأولى لكنه يحمي النفس من الاستسلام للحزن إلى ما لا نهاية ومن شلل الروح وفقد الحماس للحياة ، لقد فقد سلیمان بن عبد الملك ابنا له وكان معه عمر ابن عبد العزيز قبل أن يلى الخلافة ورجل آخر فقال لهما مستنصحا : إني لأجد في كبدي جمرة لا تطفئها إلا عبرة ، فنصحه عمر بأن يذكر ربه ويستمسك بالجلد ، وتلفت للرجل الآخر يستنصحه فنصحه بأن يبكي إذ لا بأس في ذلك وقد دمعت عينا الرسول الكريم ﷺ عند فقده لولده إبراهيم .. فانتحى سليمان جانبا وبكى حتى اشتفى ، ثم عاد إليهما وقال : والله لو لم أذرف هذه العبرة .. لانصدع کبدي.
وهذا ما ينبغي
أن يفعله الإنسان المؤمن مثلك .. أن يبكي عند الصدمة الأولى بكاء صامتا ثم يستعصم
بالصبر والصلاة .. ويغالب أحزانه .. إلى أن تطفيء الأيام جذوتها ثم يمضي بعد في
الحياة حاملا ذكرى أحبائه في صدره .. ملتمسا السلوى والعزاء في وجوه التعويض
الإلهي الأخرى .. وفي صور الألطاف الإلهية العديدة كالتي تتحدث عنها ، وفي الأمل
في رحمة الله .. وعونه للمهمومين.
إن عالم النفس
الكبير وليم جيمس يقول : إن الأفعال والإحساس يسيران جنبا إلى جنب ، فإذا نحن
سيطرنا على العقل الذي يخضع لسلطان الإرادة أمكننا بطريق غير مباشر أن نسيطر على
الإحساس .
وعلى هذا فإن
الطريق إلى الابتهاج والنسيان هو أن نتصرف كما لو كنا مبتهجين وناسين ، لأن
السعادة لا تخضع لأي عوامل خارجية وإنما تتأثر بالعوامل الداخلية للإنسان فقط ،
فإذا سيطرنا على العقل بالإرادة وحثثناه على التفكير في وجوه التعويض الإلهي التي
تحيط بنا وعلى ما في حياتنا من أسباب أخرى تدعو للابتهاج أو على الأقل لالتماس السلوى
والعزاء .. استجاب الإحساس تدريجيا .. واستشعر السلوی والابتهاج .. ثم لا يلبث بعد
حين أن يتعمق إحساس الابتهاج وینزوي إحساس التعاسة في الخلفية ، لهذا قيل : أنت
كما تفكر .. فكر في السعادة تستشعر ریاحینها وفكر في أحزانك دائما تدميك أشواكها .
والإنسان مطالب دائما بأن يتشاغل عن أحزانه ..
وبأن يستشعر السعادة في أوهی أسبابها .. ولابد أن تفعل ذلك أو تحاول على الأقل
وسوف يخفف عنك أحزانك ويردك إلى معركة الحياة الصاخبة من حولك أما أسئلتك المعبرة
فلا تعليق لى عليها سوى ما قاله الشاعر متفجعا على ابنه :
ولما دعوت الصبر بعدك والأسى
أجاب الأسى
طوعا .. ولم يجب الصبر
وأنت يا صديقي بإيمانك العميق بالله وقضائه وقدره .. وإدراكك لما في حياتك من وجوه التعويض الأخرى .. وبحزنك العظيم أيضا على ولدك قد دعوت الصبر والأسى معا .. فأجابك الأسى طوعا ، ولم يجبك الصبر .. ولهذا تحس بتفكيرك العاقل أن استمرار حزنك بنفس حدة الصدمة الأولى لم يعد منطقيا وهو كذلك بالفعل فكرر الدعوة للصبر .. وتمسك بأن يلبي لك النداء .. وتأسى بالألطاف الإلهية التي أحاطت بك .. وضع ابنك الغالي في حشاشة القلب واستمد من ذكراه دافعا جديدا للحياة ولإسعاد أخويه وأمه ، ولمواساة المكلومين والإحسان إلى الحياة والإضافة إليها .. وسوف تشعر دوما أنه رفيقك الذي يؤنس حياتك رغم غيابه ويمسح دمعتك .. ويجدد إقبالك على الحياة من جدید بإذن الله ، وإذا أذنت لي فلسوف أعطى اسمك وعنوانك لبعض الأصدقاء من جرحى الحياة الذين رزئوا مثلك بفقد الولد ليكتبوا إليك بعصارة تجربتهم مع الألم وكيف تغلبوا عليه وتعايشوا معه وواصلوا الحياة بقلب يخفق بالإيمان بالله والحب للحياة والبشر عسى أن تجد في ذلك ما يعينك على أمرك .. ويأخذ بيدك معهم على طريق السلوى .. فهل تأذن لي في ذلك ؟
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر