رسالة من المدرسة الداخلية .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986

 

رسالة من المدرسة الداخلية .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986

رسالة من المدرسة الداخلية .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986


هذه رسالة من الرسائل التي أفضل نشرها بنص حروفها وكلماتها لكي أحافظ على صدقها التلقائي المؤلم .. إنها رسالة من فتاة في سن السادسة عشرة لا تكتب لتسألني بعض الأسئلة الساذجة عن الحب والحياة كما تفعل بعض الفتيات في مثل هذه السن وإنما كتبت إلي لتلقي على كتفي بمسئولية كبيرة هي الإجابة على سؤال حياتها "الذي يواجهها الآن" وأترك الرسالة لتروي قصتها.

 

اسمي منى أمي متزوجة "على" أبي وأبي أيضا متزوج "عليها" وأنا الحائرة بينهما في سن الـ 16 سنة .. وقد ذهبت لأعيش مع أمي فلقيت معاملة سيئة من زوجها فهو يضربني ويقول لي ألفاظا لا أحب ذكرها وأمي أيضا دائما معه ولا تقدر على مخالفة رأيه ولم أتحمل الحياة معها فذهبت إلى أبي لأعيش معه فكانت زوجته "تشقيني" و"تشغلني" في البيت كثيرا كأني خادمة أو أقل لأن الخادمة سوف تعاملها معامله حسنة .. فلم أتحمل ذلك وطلبت من أبي أن يقول لزوجته أن ترحمني قليلا فرفضت وبعد ذلك جاءت لي وقالت لتشتكيني لوالدك؟

ولست أقول لك على ما جرى بعد هذا .. لكن بعد فترة قال والدي أنه يجب أن يدخلني مدرسة داخلية فوافقت ودخلت حجرتي وبكيت وحجرتي في بيت أبي هي المطبخ فكنت أنام في المطبخ رغم وجود حجرة خالية "ليس يوجد" بها أحد وبعد أن بكيت كثيرا قلت سوف أذهب واجرب رغم أني كنت غير موافقة, وما كنت خايفه منه فإنه حصل! فالبنات في المدرسة الداخلية دائما "يقولوا" لي إذا كان أبوك وأمك كويسين ليه مش عايشه معاهم .. لازم عملتي غلط سرقتي أو كدبتي أو أي شئ آخر .. وكنت أرد عليهم بأنه مفيش حاجه من دي أبدا.

 

وفي كل يوم خميس كانت جميع البنات تخرج إلا أنا لأن والدي ووالدتي كانوا دائما ينسوني .. وكنت أجلس في الحجرة بعد خروج البنات لوحدي .. وأبلة الناظرة لاحظت أني دائما منطوية على نفسي لا أضحك ولا أغني ولا ألعب مع البنات فأرسلت لأبي وأمي كثير لكنهم لم يحضروا, والمرة الوحيدة التي حضروا فيها كان أبي يقترح على الناظرة أن يتبناني أحد وأمي نفس الرأي وكانت تؤيد ذلك لأن زوجها في أزمة وتحتاج نقود .. وقالت لهم أبلة الناظر أن "كثير" قد طلبوا ابنتكم لكنها رفضت لأن لها والدين محترمين، ولأنها تحبني فقد قالت لأبي وأمي أنها لن توافق على طلبه إلا بعد موافقة الابنة .. وأنا طبعا رفضت فهدد أبي ألا يدفع مصروفات المدرسة ..

وجئت وتوسلت لأبي وأمي ألا يتركوني لأحد يتبناني فرفضا.

 

تصور ذلك "وهل في الدنيا أب" بجشاعة أبي أو أم بوحاشة أمي أنا خائفة الأب والأم المتبنيان لي يكونا مثل أبي وأمي وأنا طالبة في سنة ثانية ثانوي علمي علوم بالمدرسة الداخلية والجميع من المدرسين يقولون لي أني سوف أنجح بتفوق .. وأنا أقرأ بريدك وأعجب بحلولك فأرجوك أن تقول لي ماذا أفعل.

 

ولكـاتـبة هـذه الـرسالة أقـول:

اقبلي يا ابنتي أبوة أب غير أبيك وأمومة أم غير أمك وتأكدي أنها ستكون أفضل بكثير وأقرب إلى مفهوم الأبوة والأمومة من حالك مع أبيك وأمك الحقيقيين بل لعل "أبلة الناظرة" التي لا تربطك بها صلة دم ولا قرابة هي الآن أكثر أمومة لك عن أمك التي حملتك وهنا على وهن .. ولعل أي راغب في التبني يكون أكثر رحمة بك وأكثر اهتماما بشأنك من أبيك هذا .. فالأبوة والأمومة ليستا مجرد أمر واقع فرضته الأقدار .. وإنما هي مسئولية مستمرة وممارسة دائمة لهذه المسئولية..

وراغبو التبني عادة ما يلتمسون تعويض حرمانهم من البنوة في رعاية ابن او ابنة لم ينجبوه .. ويفرغون فيه حنانهم ومشاعرهم الأبوية المحرومة من التعبير عن نفسها .. ورب أب لم ينجبك .. ورب أم لم تعان فيك آلام المخاض.

تماما كما أنه رب أب لك لا يحمل من معاني الأبوة سوى الاسم ولا بأس بكل ذلك بشرط أن تظلي منسوبة لأبيك الذي لا يستحقك لأن ديننا يحرم علينا أن ينسب الابن لغير أبيه حتى لو كان هذا الأب جاحدا لنعمة ربه وظالما ظلوما لمن أنجبهم من صلبه .. احتراما لرمز الأبوة رغم كل شئ ومنعا لاختلاط الأنساب .. ودفعا لشبهة التجارة في أثمن ثروة خلقها الله على الأرض وهي البشر

فما دام الأمر كذلك فاتركي أمر اختيارك الأسرة التي  تتبناك للسيدة ناظرة مدرستك الرحيمة .. وسلميها أمانة المسئولية عنك سواء أبقيت في المدرسة الداخلية أم خرجت إلى رعاية أسرة جديدة فإذا رفضت أن تقبلي مشروع التبني ولك كل الحقوق أن ترفضي .. فإذا أباك مسئول شرعا وقانونا عن كفالتك ماديا .. وإذا كان ضعيف الإحساس بالمسئولية عمن أنجبه أو راغبا في الاستفادة المادية من هذا المشروع كما يبدو لي فلمثله أنشئت المحاكم وسنت القوانين لتضبط حركة المجتمع .

وبعد شهر من النشر تم نشر تعليقات القراء

↓↓↓↓

 

رسائل إلى المدرسة الداخلية

أثارت رسالة الطالبة منى ابنة الـ 16 عاما التي نشرتها منذ أسبوعين بعنوان "رسالة من المدرسة الداخلية" اهتمام عدد كبير من القراء الذين كتبوا إلي يعرضون عليها الانضمام إلى أسرهم والتكفل بمسئوليتها المادية والأدبية إلى حين انتهاء رحلة تعليمها .

فمن إحدى المدن بالوجه القبلي كتب إليَ قارئ كريم بهذه الرسالة :

 

قرأت رسالة من المدرسة الداخلية ولا تتصور التمزق الذي أحدثته هذه الرسالة في نفسي فما أصعب أن يكون الإنسان يتيما وأبواه على قيد الحياة ولن أطيل عليك وإنما أود أن أبلغك أنه يسعدني أن أتكفل بهذه الابنة من إقامة وتعليم حتى نهاية الجامعة ومن ملبس وجميع لوازم الحياة حتى تتزوج بمشيئة الله تعالى وتنتقل إلى بيت زوجها ويسعدني أن تكون "منى" الابنة الثالثة لي وأنا والحمد لله اشغل منصبا مرموقا إذ أعمل رئيسا لمركز ومدينة في الوجه القبلي ولكن زوجتي وابنتي يقمن في القاهرة لوجودهن بمدارس أجنبية ولا يجتمع شمل الأسرة إلا في الصيف والاجازات والأعياد ومع ذلك فنحن أسرة سعيدة والحمد لله وسوف تزداد سعادتنا بإنضمام الابنة منى إلى الأسرة التي ستعيش مع زوجتي وابنتي في القاهرة وبعد عام أو عامين سوف يجتمع شملنا جميعا في القاهرة لأني أصلا منها وأرجو أن أتلقى منك خبرا قريبا بموافقة منى على الإقامة معنا ولست في ذلك متفضلا بشئ من عندي وإنما رزقي ورزقها على الله .. عليه توكلنا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

ومن القاهرة كتب إلي قارئ شاب بهذه الرسالة المؤثرة :

أنا يا سيدي أشغل مركزا مرموقا بإحدى شركات الاستثمار ذات الطابع الإسلامي المعروفة بحسن السمعة لدى الجميع وعمري 33 سنة .. وقد قرأت مأساة الأخت الصغيرة منى وتأثرت بها لأسباب عديدة من بينها أن ابنتي الوحيدة وعمرها عامان كان يمكن أن تواجه نفس المصير لو كنت قد استجبت لنصيحة الناصحين .. فقد تزوجت يا سيدي ولكن زواجي لم يكتب له النجاح ولله الأمر من قبل ومن بعد وتم طلاقي من زوجتي في عام 1983 وتنازلت لها عن الشقة وهي من 4 حجرات بكل ما فيها من جميع الكماليات وعن عقد الايجار واتفقنا علي كل شئ بحضور مجلس صلح حكم بيننا ثم بعد أسبوعين فقط فوجئت بإعلان من المحكمة, لكن هذه قصة أخرى وقد تذكرتها حين قرأت رسالة هذه الطالبة الحائرة وحمدت الله أني لم أستمع لنصح الناصحين ولم أتزوج لكيلا يكون مصير ابنتي الوحيدة كمصير الطالبة منى .

وأنا على استعداد لأن أستضيف الأخت الصغيرة لكي تعيش مع والدتي في شقة واسعة ليس بها غيرها فتؤنس وحدتها وتجد فيها أما حانية وسأتكفل بجميع نفقاتها بشرط عدم التبني لأن الله قد حرم أن ينسب الابن لغير أبيه وعلى أن تكون لها الحرية في أن تزور والديها وأن يكون لوالديها حق زيارتها في اي وقت .. وإن رأيت أنت حلا غير هذا فاستحلفك بالله الا تحرمني من هذا الأجر لأني كما قلت لك أشعر بمشكلة هذه الفتاة على نحو خاص يتعلق بخوفي على ابنتي والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

وتليفونيا اتصل بي القارئ اللواء وأبلغني رغبته في ضم منى إلى أسرته التي تقيم بحدائق القبة والمكونة منه ومن زوجته وابنة طالبة وقال لي أنه يسعده أن يجد لابنته الوحيدة شقيقة جديدة تشق معها طريقها إلى النجاح والسعادة بإذن الله.

 

ومن بورسعيد اتصل بي القارئ السيد وهو مدير بإحدى شركات الملاحة هناك وأبلغني برغبته في أن تصبح منى عضو جديدا في أسرته المكونة من ابنه في سن الثانية عشرة و3 أبناء أكبرهم في الثامنة في بورسعيد إلى أن تصل إلى نهاية تعليمها بإذن الله تعالى.

 

كما اتصل بي مشكورا وكيل وزارة التربية والتعليم وقال لي أنه يرحب باستضافة الطالبة في بيته وبانضمامها إلى أسرته لكي يرعاها تعليميا إلى حين انتهاء دراستها بإذن الله.

 

 ومن القاهرة كتب إليّ طبيب يقول : قرأت رسالة الطالبة منى التي تركها أبوها وتركتها أمها ولا أريد أن أعلق على موضوعها لكني أريد أن أسهم في حل مشكلتها بطريقة عملية أنسب كثيرا من أن يتبناها أحد .. فأنا يا سيدي أمتلك مستشفى بالهرم وأحتاج فعلا لفتاة مثل هذه الطالبة تقيم إقامة كاملة في المستشفى وتعمل في الأجازة الصيفية عملا مناسبا لها بمرتب مناسب ثم تستمر في دراستها عند افتتاح المدارس مع عمل خفيف جدا خلال الدراسة لا يتعارض مع دراستها ولا يؤثر عليها وبنفس المرتب بل أن جو المستشفى نفسه في الهرم يساعد على الاستذكار والتفوق وإني أفضل لها هذا العمل لأنه سيجعلها تعتمد على نفسها وتواصل دراستها بغير الاعتماد على أحد ..ولأن استقرارها في مثل هذا العمل قد يفتح الباب لاستمرار العلاقة الطبيعية بينها وبين أبويها حين تصبح غير محتاجة ماديا لأي منهما .

 

ومن بينهم كتب إلي قارئ آخر ليقول لي : شعرت بالمرارة بعد قراءة رسالة الطالبة منى ووجدت نفسي مدفوعا للكتابة إليك راجيا عرض طلبي عليها..

وإني أرغب في أن تقيم معنا وأن أتكفل بكل نفقات دراستها إلى النهاية بإذن الله فأنا أبلغ من العمر سبعين عاما وقد تزوجت معظم بناتي ومن بقي منهن يرحبن بأن تكون لهن شقيقة وترحب زوجتي بأن تكون لها أما كما يسعدني أنا أيضا أن أكون لها أبا.

 

ومن الرياض كتب إليّ مهندس مصري بهذه الرسالة : قرأت مشكلة "رسالة من المدرسة الداخلية" وأرجو إبلاغك أني على استعداد تام لتسديد مصروفات المدرسة الداخلية التي يهدد الأب بالامتناع عن سدادها وذلك إلى أن تحصل هذه الطالبة على الثانوية العامة وعلى استعداد أيضا لأن ادفع لها مصروفا شهريا مناسب اترك لك تقديره فأرجو موافاتي بالمطلوب لإرساله بشرط أن يتم كل ذلك عن طريقك بغير أن تعرف صاحبة المشكلة اسمي حرصا على مشاعرها والله اسأل أن يتقبل مني ومنك والسلام.

 

وها أنا أؤدي الأمانة وأقدم كل هذه العروض للابنة منى وللمربية الفاضلة ناظرة مدرستها وأرجو أن تتصلا بي أو أن تتفضلا بزيارتي مساء يوم الاثنين القادم لترتيب هذا الأمر .

وشكرا لكل أصحاب هذه المبادرات الكريمة .. وأبدا يا بلادي لن أمل القول والتكرار في كل موقف مماثل .. ومع كل لمسة خير تسعى لإسعاد الآخرين. 

عمـــــــار يا مصر.

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1986

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات