الشئ المجهول .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994
إننا نركز أبصارنا - غالبا - علي ما نعاني
منه، ولو كان هیئا بسيطا، ونتصور أننا تعساء ونستحق
الرثاء، لأن بعض وجوه حياتنا ليست على ما يرام، ولو تناسيناها
قليلا وأدرنا أنظارنا حولنا؛ لأدركنا أن هناك من يغبطوننا عليها .
عبد الوهاب مطاوع
منذ سنوات وأنا أفكر في الكتابة إليك، لكي
أروي لك تجربتي، عسى أن يجد فيها قراؤك بعض ما يزيد خبرتهم بالحياة، قصتي باختصار
هي: أنني رجل في الخامسة والأربعين من العمر، نشأت في أسرة ريفية تعرف فضل احترام
الوالدين، وأمضيت معظم مراحل تعلیمی بعيدا عن أسرتي التي تعيش في قرية صغيرة،
وكانت أمنيتي أن أتم تعليمي وأعود للاستقرار في بلدتي بين أمي وأبي، لأعوضهما
اغترابي الطويل عنهما، خصوصا أمي، لكن القدر لم يمهلها لتستمتع باجتماع شمل بنيها
حولها طويلا؛ فعقب تخرجی بعام واحد، وعودة أخي من بعثة الدكتوراه في الخارج، رحلت
عن الحياة راضية عنيا، وكأنما كانت تنتظر هذين الحدثين لتنتهي رحلتها مع الدنيا .
وبعد رحيل أمي - رحمها الله - وأثابها عنا
أفضل الثواب، تزوجت من إنسانة فاضلة من أسرة صديقة لأسرتي، وأنجبت بنتا فكانت هذه
المولودة فاتحة خير كبير في حياتي، إذ وفقني الله إلى فرصة عمل طيبة بأحب أرض الله
إلى الله - مكة المكرمة - وأحببت عملي و تفانيت فيه، ووفقني الله إلى استحداث
أسلوب جديد فيه، وفر كثيرا من الجهد البشري وحقق الجودة، فسعد به رؤسائي کثیرا
وسعدت به أكثر، وأشار علي بعض أصدقائي بطلب مكافأة خاصة من جهة عملي، عن الجهد
الكبير الذي بذلته في تطبيق هذا الأسلوب الأول مرة، لكنني لم أفكر في ذلك لأنني -
کنت ولازلت - مؤمنا بأن جائزة الإنسان على إخلاصه لعمله، إنما تأتيه من ربه وليس
من البشر، وعشت في هذه الأيام أسعد فترات حياتي، وكأن الله قد رزقني - بعد بداية
عملي في الخارج - بولد تفاءلت بمقدمة خیرا وتقاسم حبنا مع شقيقته، وكانت زوجتي
تقضي معظم وقتها في التدريس لهما بالبيت، حتى تفوقا تفوقا كبيرا في دراستهما، وحتى
كان ابني وهو في الثامنة من عمره يحفظ كثيرا من سور القرآن الكريم، ويتلوها بطلاقة
أمام زوارنا، ثم أصيب بنوبة برد عابرة، وظهرت عليه أعراضها المألوفة فذهبنا به
للطبيب الذي أعطاه بعض المضادات الحيوية، لكن نوبة البرد كانت شديدة بعض الشيء فلم
تنته أعراضها، ورأينا أن نعرضه على طبيب آخر، فكتب له دواء مختلفا ولم تتحسن
الأعراض أيضا، ولاحظت فجأة أن ابني يزداد شحوبا ، فبدأت لأول مرة أحس ببعض القلق
عليه، وذهبت به إلى مستشفى خاص، وأجريت له فحوص وتحليلات، فقال لي الطبيب المعالج
إنه يشتبه في وجود شيء ما لا يعرفه في بلعوم الطفل، ولابد من أخذ عينة منه
لتحليلها لمعرفة هذا الشيء المجهول، وتمت العملية وأخذت العينة ، وكان على أن
أنتظر يومين لمعرفة النتيجة، والله وحده يعلم كيف عشت هذين اليومين ، ثم ذهب إلى
طبيبة التحاليل وسألتها عن نتيجتها، فنظرت إلى صامتة لحظات ثم طلبت مني التوجه
بالتحاليل الطبيب المعالج، الأعرف منه
النتائج، لكنني رجوتها أن تراجعها وتخبرني بها بنفسها، فنظرت إلى لحظات أخرى وبدا
عليها التردد، ثم قالت لي أخيرا إن هناك ورما في بلعوم ابني الصغير الوحيد، وخفق
قلبي خفقة مؤلمة، حين سمعت هذه الكلمة المخيفة وسألتها - وأنا لا أجد صوتی - عما
إذا كان حميدا أم ..؟ فعادت للنظر إلى بإشفاق ثم قالت : آسفة: إنه للأسف غیر حمید..!
واستندت على ذراع صدیقي حتى لا أسقط على الأرض،
وجرني صديقي وهو يكاد يحملني إلى خارج المعمل، وعدت إلى بيتي فما إن دخلت حتى
استقام جسمي المنحني مرة أخرى، وقلت لزوجتي متماسكا و متظاهرا بالاستهانة : إن
الأمر بسيط للغاية ويحتاج البعض العلاج.
وذهبت إلى
الطبيب المعالج، الذي نصحني بالتوجه إلى مستشفى متخصص، وكانت الساعة الثامنة
والنصف مساء، وعيادته الخارجية تغلق أبوابها في التاسعة مساء، فقررت أن أذهب فورا
عسى أن ألحق بها قبل موعد الإغلاق، وكان ذلك من إلهام الله سبحانه و تعالی لی،
فلقد وجدت طبيبا استشاريا مصريا كبيرا كان يزور المستشفى لإلقاء محاضرة واحدة،
ويسافر صباح اليوم التالي، فما إن رأى أطباء العيادة ابني حتى اتصلوا به في غرفته
وهو يحزم حقيبته استعدادا للسفر، وأبلغوه بالحالة فنزل لرؤيتها، وقال لي بعد الفحص
: إنه برغم ندرة الحالة وخطورتها، فإن الأمل في رحمة الله لا ينقطع، ونظرا
لاستحالة إجراء جراحة في هذا المكان من جسمه، فسوف نبدأ على الفور علاجه بالجرعات
الكيماوية ، ولیعنك الله على تكاليفها ويعين طفلك على تحملها!
وبدأ على
الفور بإعطائه الجرعة الأولى، وسافر في اليوم التالي تاركا لتلاميذه في المستشفى
تعليماته باستكمال العلاج، ومهما كتبت لك یا سیدی عن مشاعري في هذه الفترة، فلن
أستطيع أن أصف لك شعور الإنسان حين يجد نفسه فجأة في قلب كارثة تهدده في فلذة كبده
، وفكرت في الأمر قليلا بيني وبين نفسي، وقررت أن أستفيد من المهلة المتاحة لي
للاستمتاع بصحبة ابني الوحيد، بأكبر قدر ممكن وقررت ألا أفارقه لحظة، وأن أباشر
معه مراحل العلاج دقيقة بدقيقة، كأنما أريد أن أشبع من رؤياه وصحبته قبل أن يحين
الفراق.
وصارحت مديري
في العمل بالمحنة التي أعيشها فقال لي - جزاه الله على كل خير - «الزم ابنك في
مراحل علاجه ولو اضطررت لأن تغيب عن العمل بالشهر، واتصل بي تليفونيا فقط وأبلغني
بمكانك».. وشكرت له موقفه النبيل مني الذي لا أنساه له ما حييت، وتفرغت لعلاج ابني
وصحبته في البيت وفي المستشفى، ولم أستطع أن أخفي عن زوجتي حقيقة الحالة أكثر من
ذلك، بعد أن بدأت تشك فيما يجري حولها، و تستحلفني أن أصدقها القول فيه، ولعلمي
أنها إنسانة مؤمنة بربها فقد صارحتها بالحقيقة، وقلت لها: إن الله سبحانه وتعالى
قد شاء أن يختبرنا أصعب اختبار، ولن يريد لنا في النهاية - مهما كانت النتيجة -
سوى الخير ، فإما أن نثبت للاختبار فننال عفوه، وإما أن نرسب فيه فنبوء بالخسران،
ولن يغير فشلنا من النتائج شيئا، وتواعدنا بالدمع الغزير على أن نثبت للامتحان
وننجح فيه إن شاء الله.
نوينا ذلك أو
حاولنا جهد طاقتنا، أن نكون عند حسن ظن ربنا بنا.. ولست أزعم أنني قد نجحت في ذلك،
فأنا في النهاية بشر من نسل سیدنا آدم، حين توعدهم الشيطان
بأن يقعد لهم ويأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم.. إلخ.
وكان من سوء
الحظ أن مدرسة ابني ملاصقة لعملي، فكنت حين أذهب للعمل كل بضعة أيام أمر على
المدرسة، وأرى الأطفال يلعبون ويلهون ويمرحون، فأستعيد صورة الراقد في البيت عاجزا
عن الحركة، بعد أخذ الجرعة ويفح الشيطان فحيحه السام في أذني، وكذلك في باطنی : في
المدرسة ألفان من التلاميذ، لماذا لم يختر الله سوي ولدك ليحدث له ما حدث؟
وماذا ارتكبت
في حياتي من ذنوب ليعاقبني الله عليها، بهذا الاختبار الأليم؟ ثم أفيق النفسي
واستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وأجيب عن تساؤلي قائلا : أو ليس هؤلاء الأطفال
أبناء لآباء مثلي يسوؤهم في فلذات أكبادهم ما يسوؤني في فلذة كبدي؟ و أستغفر الله
كثيرا وأمضى إلى عملی داعيا لابني ولكل الأبناء بالسلامة من كل سوء.
وتعمدت بعد
ذلك ألآ أنظر ناحية مدرسة ابنی، كلما مررت بها، وبدأت في التفكير في وسائل جديدة
للعلاج، إلى جانب علاج الأطباء، وبدأت أقرأ لطفلي قبل نومه كل ليلة القرآن لفترة
طويلة حتى ينام، وأضع يدي على رقبته حيث موطن الداء، وأقرأ المعوذتين داعيا له و
مبتهلا إلى الله برجاء الشفاء، إلى جانب الفداء بذبيحة وتوزیع کثیر من الصدقات .
وقطعنا عدة
شهور من العلاج، استدنت خلالها لمواجهة النفقات، ثم قررت أن تعود به زوجتي إلى
مصر، لعرضه على الأطباء الكبار واستكمال العلاج في المعهد المتخصص في هذا
المرض بالقاهرة، فكان ذلك أيضا من توفيق الله، فلقد رأت أمه في المعهد من الحالات
ما جعلها تلهج بالحمد والشكر لله، أن كان امتحانا في هذه الحدود، وهدانا الاكتشاف
حالة ابننا مبكرا و قبل فوات الأوان .
واستمر
العلاج، ولن أطيل في وصف ما قاساه إبنى من عذاب وآلام خلاله، خصوصا حين كانوا
يسحبون من ظهره - بإبرة طويلة - عينة من النخاع الشوكي لتحليلها ومعرفة هل وصل
إليه المرض أم لا؟ لكنه يكفي أن أقول لك إن صراخه كان يهز المبني خلال هذه
العملية، وإن عمه قد حضرها معي ذات مرة في البلد الذي أعمل فيه، فما إن وضع الطبيب
الإبرة في ظهره وبدأ يسحب النخاع وابني يصرخ صرخات مزلزلة، حتى سمعت صوتا عنيفا
بجواری والتفت وأنا أمسك ابني فإذا بشقيقي - أكرمه الله - راقد فوق الأرض مغشيا
عليه، والطبيب يصرخ في مساعديه بغضب غير مفهوم لإخراجه من حجرة العمليات !
وتحملنا كل
شيء أملا في الشفاء والنجاة، وازداد ابنی نحولا وذبولا وعزوا عن الطعام، حتى كانت
أمه تضع له الطعام في فمه كما يطعم الطفل الرضيع.
وفي إحدى
الليالي كان نائما، وذهبت إلى فراشه ووضعت يدي على رأسه لأقرأ له بعض آيات الذكر
الحكيم كعادتي كل ليلة، وانتهيت من القراءة ورفعت يدي فإذا بخصلة من شعره تخرج
فيها، فذهلت وعرفت مما قرأته في الكتب التي جمعتها عن هذا المرض اللعين، أننا قد
دخلنا في كارثة أخرى من نتائج العلاج، ولم تمض أيام حتى خلا
رأسه من الشعر، وتحول إلى شبح صغير يمشي على ساقين لا تقويان على حمله، وضاعفت من
ابتهالي لله سبحانه وتعالى، أن يمدني و أمه بالقوة لتحمل المشوار حتى النهاية بغير
أن تنهار، وكنت أراقب ابني وهو ينظر إلى شكله في المرآة، ويعجز عقله كطفل في
العاشرة من عمره عن أن يستوعب أو يفهم أسباب ما يحدث له، فأضع يدي على كتفه وأطمئنه
إلى أنها حالة مؤقتة وسوف تنتهي بإذن الله، والحمد لله أنه لم يكن یعی شيئا من
خطورة حالته، لأن من أكبر أخطار هذا المرض الخطر النفسي على من يدركون ويعون
تماما، أنهم يحاربون وحشا ضاريا يحاول أن يفتك بهم.
وعلى هذه
الحال عشنا ثلاث سنوات كاملة ، نرى ابننا يذبل أمامنا ويتألم، وكنت قد أخطرت مدير
المدرسة بحالته حين انقطع في البداية عاما کاملا عن الدراسة، فقال لي - أكرمه الله
- إنه يعرف تفوق ابنی وسوف يعطيه درجاته التي كان سيحصل عليها لو لم يختبره الله
بهذه المحنة، فنجح ابني في السنة الثانية الابتدائية بتقدير ممتاز ، دون أن يدخل
الامتحان - كما اعتاد أن ينجح كل سنة - وفي العام التالي بدأ يذهب إلى المدرسة
كلما تحسنت حالته بعض الشيء وينقطع بعد أخذ الجرعة.
ثم شيئا فشيئا
بدأ ابنی - وهو في الحادية عشرة من عمره - يتماسك قليلا، وبدأ شعره ينمو تدريجيا
بعد أن توقف عن تناول العلاج، فعاد للظهور بنفس لونه السابق ونعومته، ثم بدأ جسمه
ينمو وطوله يزيد حتى أصبح الآن - والحمد لله - أطول منى، ثم أنعم الله علينا
بنعمته المدخرة عنده لنا، وأبلغنا
الأطباء بأنه قد شفي شفاء کاملا من مرضه الخطير، وهو الآن بحمد الله ونعمته في
السنة الثانية الثانوية ، يذاكر ويقرأ ويجالس، زوارنا ويذهب لمدرسته ويقوم الأطباء
بإجراء فحص دوري له كل أربعة شهور في العام الأول، من باب الاطمئنان فقط ، ثم كل
ستة شهور في العام الثاني ، ثم مرة كل عام بعد ذلك لمدة ثلاث سنوات قادمة،
والنتائج خلال العامين الأولين اللذين مضيا سليمة تماما و الحمد الله، ونسألك
ونسأل قراءك الدعاء لنا بأن يتم الله علينا نعمته، وتنتهي فترة السنوات الثلاث
الباقية بالنتيجة نفسها إن شاء الله.
ولقد أردت أن
أكتب لك، لكي أسعدك وأسعد قراءك ، وأبعث الأمل في نفوسهم بإحدى التجارب التي يتعلم
الإنسان منها الكثير، وجاءت نهايتها والحمد لله بأفضل ما تمنينا، ورجونا الله أن
يحققه لنا، وقد كسبت من تجربتي هذه الكثير والكثير ، وأوله هو أن الله سبحانه
وتعالى قد أدخل السكينة والاطمئنان إلى نفسي، وأيقنت أنه قد أراد لي بهذا البلاء
خيرا، وقد عرفت أن وجه الخير الذي لم أتبينه في بداية المحنة، هو أن أعرف أن أطماع
الدنيا كلها لا تساوي قلامة ظفر، وأن صغائرها وصراعاتها لا تستحق أن نتوقف أمامها
لحظة ، وخرجت من المحنة وقد أسقطت كل صغائر الدنيا وأطماعها من حساباتی، بعد أن
لمست غدرها المفاجئ، وعرفت أن ما قد يجمعه الإنسان في سنين طويلة ، يمكن أن يضيع
منه في لحظة واحدة، وأن الصحة ورضا الله والستر والقناعة هي الأمنيات الجديرة بأن
يتمناها الإنسان لنفسه ولأسرته، وأن أفضل الدعاء هو دعاء الرسول صلى الله عليه
وسلم: «اللهم إني أسألك العفو والعافية» وهو ما أدعو
لك به ولكل قرائك الأكرمين، وأهم من كل ذلك أنه حتى في أحرج اللحظات و أشقاها،
ينبغي ألا يفقد الإنسان أبدا أمله في الله.
ولقد أدركت ابنتنا بعد أن كبرت وأصبحت طالبة جامعية، أسباب ذلك الآن،
وفهمتها ولعلها التمست لنا العذر فيه، وأنني لأجد من واجبي كأب -
برغم ذلك - أن أقول لها الآن وبعد أن خرجنا من المحنة : عفوا يا ابنتي فلقد كان ما
عانيناه فوق قدرتنا على تحقيق التوازن المطلوب في توزيع الاهتمام بالعدل عليكما
معا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
رسالتك يا
صديقي لا تحتاج مني إلى تعليق طويل، فهي من الرسائل التي يقرأها الإنسان فتستغرقه
من سطورها الأولى، ويتمثل وقائعها فيبتهج بالبداية المثيرة، ثم يكتئب بالمحنة وکروبها،
ويضيق صدره وتتزايد مخاوفه من استحکام الأزمة وتصاعد آلامها، ثم تنفرج أساريره
فينتظم تنفسه مع نهايتها السعيدة غير المتوقعة، فيضع الرسالة جانبا ويستسلم لتأملاته
مفضلا الصمت على الكلام.
لقد كان هذا
إحساسي وأنا أقرأ تجربتك الإنسانية ، المشحونة بالآلام والآمال ، وكان أول ما
استدعته إلى ذهنی، بعد أن انتهيت من قراءتها هو الآية الكريمة : "وكان فضل
الله عليك عظيما" .
نعم فلقد كان
فضله عليك عظيما حقا، وكنت جديرا بأن تناله، أما دروس المحنة التي استخلصتها منها،
فصائبة كلها وحكيمة، وحري بنا جميعا أن نتعلمها، والفائز حقا هو من يكتسبها من
تجارب الآخرين، بغير أن يدفع ما دفعوه من ثمن باهظ لكي يستخلصوها، لكننا في معظم
الأحيان تنطبق علينا كلمة المفكر الذي قال : من تؤلمه ضروسه يظن أن كل من لا يشكون
من أسنانهم سعداء!
وهذا صحيح للأسف،
لأننا نركز غالبا أبصارنا على ما نعاني منه ، ولو كان هنا بسيطا، ونتصور أننا
تعساء ونستحق الرثاء، لأن بعض وجوه حياتنا ليست على ما
يرام، أو ليست كما نحبها أن تكون، أو كما تمنيناها لأنفسنا، ولو تناسيناها قليلا
وأدرنا أنظارنا حولنا لأدركنا أن هناك من يغبطوننا على «آلام الضروس» المحتملة
هذه، ويتمنون أن لو كانت اختباراتهم في رهافة اختباراتنا ورقتها، إنها قصة قديمة
جديدة، لكنها تكرر نفسها كثيرا، وتحتاج دائما إلى من ينبهنا إلى غفلتنا وتهافتنا
على الرثاء لأنفسنا بلا مبرر حقیقی لذلك بين حين وآخر، ولاشك أن رسالتك من هذه
المنبهات المفيدة، التي نحتاج إليها كل حين، لكي نتعلم كيف نفرق بين ما يستحق أن
نشقى من أجله، إذا فقدناه ، وما لا يستحق، وبين ما يستحق أن نسعد به ونرضى عنه وما
لا يستحق أن تأسي على فواته إذا فاتنا.
أما الدرس
السلبي الذي تشير إليه في ختام الرسالة ، فعذركما فيه لا يحتاج إلى بيان، فإن
إحساسك المرهف بالمسئولية الأبوية قد زاد من همك به، وإنني أقول لك صادقا وعلى غير
معرفة بابنتك الفاضلة ، إنها لابد الآن قد أدركت كل شيء وفهمت كل الأسباب، وربما
أسفت كثيرا أيضا لأنها لم تقدر معاناتكما - وهي صغيرة عاجزة عن الإدراك - حق
تقديرها.
أما الآن فليس
لكم في قلبها سوى الإعزاز والإشفاق علیکم، من قسوة معاناتكم الطويلة السابقة، ولا
عجب في ذلك فهي فرع من شجرتك الطيبة، ومن نشأت بين أبوين فاضلین متدینین مثلك أنت
وزوجتك، لابد أن تهديها فطرتها الصحيحة إلى كل ذلك بغیر بیان، وما أسفك لعجزك وقت
المحنة عن توزيع اهتمامك بالميزان الحساس، بين ابنك
وابنتك إلآ تعبيرا عن رغبتك في تحقيق أعلى درجات العدل بينهما، حتى في جحيم
المعاناة، فثق يا صديقي في نقاء قلب ابنتك وصفاء سريرتها، ولا تحمل نفسك مالا طاقة
لها به، وأنت لم تكد تتنفس أول نسائم الراحة بعد العناء، فلا يكلف الله نفسا إلا
وسعها في النهاية .
أما علاجك الإيمانی لابنك إلى
جانب علاج الأطباء له، فلقد توقفت عنده طويلا وأعجبت به كثيرا، لأنه لا يعترض طريق
العلم، وإنما يضيف إليه علاج القلب ، ولقد سئل من أوتي الهدى والعلم والفضل:
- أرأيت رقی
نسترقيها ودواء نتداوى به ، هل يرد من قضاء الله؟
فأجاب : إنه
من قدر الله. أي أن الداء والدواء كليهما من قضاء الله وقدره، فلا بأس إذن بأن
يلتمس الإنسان الأسباب، ويتوسل بالوسائل، ويضيف إليها علاج القلب والروح، ويبتهل
لربه كل لحظة راجيا الشفاء .
أتم الله على
ابنك الغالي نعمته، وحفظ لك ابنتك العزيزة .. وشكرا لك على رسالتك القيمة .
شارك في
إعداد النص / محمد عايدين
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر