الصخرة الثقيلة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

 الصخرة الثقيلة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

الصخرة الثقيلة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

 

الإيمان بالله والأمل الأبدي في رحمته، هما أعظم أسلحة الإنسان في صراعه مع شتى أنواع الوحوش الضارية التي تحاول اغتيال حياته، وأمانه، وسعادته.

عبد الوهاب مطاوع

 

أكتب إليك بعد قراءتي لرسالة «الشيء المجهول»، للأب الفاضل الذي يروي عن الظروف المؤلمة لمرض ابنه بالمرض اللعين في البلعوم، ثم شفائه و انتظاره الآن السنوات الثلاث الباقية للتأكد من تمام الشفاء بإذن الله، وأريد أن أحكي له قصتي لعله يجد فيها - هو وأمثاله - بعض ما يفيدهم .

فحين كان عمري 42 عاما، كنت أعمل طبيبا بالبلد نفسه الذي يعمل فيه كاتب الرسالة الآن، ثم بدأت أشكو من بعض الأعراض كاحتقان الأنف وصعوبة التنفس، وآلام بسيطة بالأذن، وثقل وصداع متوسط لكن مستمر؛ فبدأت أتردد باستمرار على قسم الأنف والأذن بالمستشفى الذي أعمل به، ويصف لي زملائی الأخصائيون بعض الأدوية، ولكن بلا أي تحسن، ثم قرر الأستاذ رئيس القسم أن يجري لي عملية استكشاف تحت تأثير المخدر الكامل، وأجريتها، فأخبرني أنه قد وجد في بلعومی قرحة صغيرة جدا أرسل عينة منها للتحليل، فأثار ذلك شکوکي كطبيب، وكنت أقضي إجازة مرضية في بیتی، فانتابني الأرق وبعد يومين أبلغني زميل أن الأستاذ رئيس القسم سيزورني في البيت، ومعه بعض كبار الأخصائيين، فانقلب الشك عندي إلى يقين ، وبرغم ذلك فما إن سمعت منهم التشخيص الحقيقي لحالتي حتى أغمى علي أمامهم، والتفوا حولي لإسعافي، وبعد مغادرتهم للبيت لم أنم لحظة واحدة طوال الليل أنا وزوجتي، واستسلمت للتفكير المؤلم في المصير المجهول لأبنائي الثلاثة، وأكبرهم في الثالثة عشرة وأصغرهم في الثالثة من عمره، ومضت الليلة الكئيبة علي كأنها دهر .

 

وفي الصباح عدت إلى عملي فأخبرني الزملاء بتحويلي إلى المستشفى الوحيد الذي يعالج هذا المرض اللعين، وتوجهت إليه ففوجئت برفض قبولی فيه، إلا بموافقة من وزير الصحة شخصيا، ورجعت مكتئبا وقد استقر عزمي على الاستقالة من عملي، والعودة لبلدي للعلاج فيه، مهما كانت تضحيتي المادية ، وفي المساء زارني صدیق متفقه في الدين، وعلمني صلاة التسابيح، وأوصاني أن أصليها قبل نومي، عسى أن تخفف عني اكتئابی ففعلت واستسلمت للنوم في تلك الليلة ، وفي الصباح ذهبت إلى عملي لأبدأ إجراءات الاستقالة، فإذا بي أجد كل الأبواب التي كانت مغلقة في وجهي أمس قد فتحت أمامي فجأة، وإذا مدير المستشفى يستدعینی ويبلغني بأنه قد تحدث مع وزير الصحة بشأني، وإذا بعميد الكلية يستدعيني ويبلغني بالشيء نفسه، وإذا بالموافقة على علاجي بهذا المستشفى الحديث تصل إلي مكتوبة، وبدلا من تقديم استقالتي، توجهت في اليوم نفسه إلى المستشفى، واستسلمت للفحوص العديدة ، وبعد انتهائها استقر رأي الأطباء على علاجی بالإشعاع، وبدأت أتردد كل يوم على هذا المستشفى بسیارتی لعمل جلسات الإشعاع، وأنا أخفي كل شيء عن أطفالي طبعا، ثم بدأت قواي تنهار بعد فترة من العلاج، وانخفض وزني عشرين كيلو جراما، ولم أعد أقوى على قيادة السيارة للمستشفى، فبدأت أذهب إليه بسيارة الإسعاف، وأصبحت ، كلما توجهت إلى غرفة الإشعاع بالمستشفى - وهي غرفة داخل غرفة مصفحة بالرصاص لعزل الإشعاع - أصاب بالغثيان فور اقترابي منها، وبعد أن يقوم الأطباء والفنيون بضبط الأجهزة فيها يخرجون منها، ويتم إغلاق بابها علي، فلا يبقى معي غير رب العالمين فأتوجه إليه بالدعاء أن يشفيني ويشفي كل مريض بهذا الداء العضال، وبكل داء.

 

ويبدأ العلاج و أنا أردد «لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، يا أرحم الراحمين ارحمنا . اللهم رب الناس اذهب البأس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك» ..وأردد ما أحفظه من آی الذكر الحكيم، وأحس بأنني سجين في مغارة مظلمة تسد بابها صخرة ، وبأن دعائي هذا واستحضار ما قدمت من خير في حياتي، كأنها معاول تحاول زحزحة هذه الصخرة عن باب المغارة لأخرج منها، فتزداد مناجاتي لربي وأهتف : ربي أنت أعلم بأني لم أفقد صحتي في معصيتك، فإن شئت أن ترحم فاعطف وارحم وأنت خير الراحمين ، وأظل مستغرقا في دعائي ومناجاتي ، إلى أن ينتهي وقت الجلسة العصيب، وأغادر المغارة أو الغرفة الحصينة منها، واستمر علاجي بهذه الطريقة فترة طويلة ، عانيت خلالها الكثير من الآثار الجانبية للعلاج، کسقوط الشعر والألم والصعوبة الشديدة في بلع الطعام، وعانيت ما كان أشد مرارة من ذلك ، وهو استقرار الاكتئاب والقتامة في روحي و أعماقي .

 

وفي هذه الفترة الكئيبة من حياتي، وفي لحظة ازدادت فيها حالتي النفسية اكتئابا ، فوجئت ذات صباح بابنتي ذات الثلاثة عشر عاما .. التي لا تعرف شيئا عن طبيعة مرضى أو متاعبي الصحية.. تقول لي إنها قد رأت حلما عجيبا لا تجد له تفسيرا، فقد رأتني وأنا أصارع أسدا ضاريا في الغابة ، فظل يصارعني طويلا ويطرحني أرضا لينهشني، وأنا أقاومه وأدفعه عني بكل قوتي، إلى أن نجحت في النهاية في إبعاده عني ثم قتله ! وسألتني عن تفسير هذا الحلم العجيب فإذا بدموعي تغلبني وأحاول حبسها وإخفاءها عنها بجهد جهيد، وتعجبت معها لهذا الحلم الذي لا معنى له وأنا أدعو ربي في باطني: اللهم اجعل حلمها رؤيا صالحة وبشيرا بالأمان لها ولأخوتها ولأسرتي، ثم انتهت فترة العلاج أخيرا وبدأ الألم الذي أحس به عند بلع الطعام يخف تدريجيا ثم توقف، وبدأ شعري ينمو من جديد ووزنی یزید شيئا فشيئا، وقال لي الزملاء - كما قالوا لكاتب رسالة الشئ المجهول عن ابنه - إن العلاج قد انتهى وستبدأ فترة الملاحظة لمدة 5 سنوات، يتم خلالها فحصي مرة كل عام في السنوات الثلاث الباقية، وإنه حين تمضي هذه الفترة بسلام يكون الشفاء تاما ومؤكدا بإذن الله.

فعشت الشهور الأولى من هذه المهلة ، يفترسني القلق والخوف من عودة الوحش الضاري، لمصارعتي من جديد، حتى تعجب من كانوا يعرفونني قبل مرضي، ويقولون عني إنني دائم الابتسام لرؤية هذه الملامح الكئيبة المستقرة في وجهي، وأخيرا أذن الله لعبده بالخروج من مغارة الخوف والقلق المظلمة، و تزحزحت الصخرة الثقيلة تدريجيا عن بابها.




ولكاتب هذه الرسالة أقول:

هناك شيء ما في طبيعة كل إنسان ، يدفعه للتشبث بالحياة والتعلق بأهدابها حتى اللحظة الأخيرة منها، فللحياة كما قال صادقا الأديب الألماني العظيم «توماس مان» قيمة سحرية غامضة ، والخليفة الزاهد الورع المبشر بالجنة عمر بن الخطاب نفسه قد قال وهو يتردد بين الصحو والغيبوبة في لحظاته الأخيرة - متعجبا من نفسه - إن للحياة نصيبا من القلب ، وإن للموت لوحشة!

والحياة تكتسب جزءا كبيرا من قيمتها - في رأی توماس مان - من أنها محدودة بفترة معينة، مهما طالت فهي قصيرة بالنسبة لعمر الأشياء ، ولعلها لو كانت حياة سرمدية بلا نهاية لفقدت قيمتها والدافع الذاتي للدفاع عنها والتشبث بها.

والإيمان بالله والأمل الأبدي في رحمته، هما أعظم أسلحة الإنسان في صراعه مع جميع أنواع الوحوش الضارية، التي تحاول اغتيال حياته وأمانه وسعادته، واليأس ورفع الراية البيضاء أمامها هما أسرع الطرق الفناء الإنسان وشقائه ، وإذا كنا نسلم جميعا بأنه لا أحد يستطيع أن يضيف إلى عمره بضعة أعوام زائدة، ولا حتى بضع ساعات، فإنه من الأفضل للإنسان دائما أن يعيش عاما واحدا سعيدا، من أن يعيش مائة عام معذبا باليأس والقنوط من أي أمل في السعادة وبلوغ الأهداف .

 

ولهذا فمن واجب الإنسان دائما أن يستنفر كل قدراته على مقاومة الأخطار، التي تهدد حياته وسعادته وأمانه، وأن يصارعها بكل قواه ، كما صارعت أنت الوحش الضاري في رؤيا ابنتك الصادقة، وأن يتلمس كل الأسباب للانتصار في هذا الصراع الدامي ويستعين عليه بسلاح الإيمان، وبروح الأمل والتفاؤل حتى اللحظة الأخيرة من عمره المقدور .

وبعض علماء النفس يقولون لنا الآن : إن كل الكائنات الحية تخضع العملية التعليم المستمر ، وتغيير السلوك وفقا لمستجدات الحياة والطبيعة ، لكن أقدرها على ذلك هو الإنسان الذي ميزه ربه بالوعي والإدراك .

رابط رسالة الشئ المجهول 

 

                   ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1994

شارك في إعداد النص / محمد عايدين

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 

 

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات