الأب الحقيقي .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2000

 الأب الحقيقي .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2000

الأب الحقيقي .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2000


إن في الدنيا بالفعل رجالا من هذا  النوع يمكن أن يكونوا آباء حقيقيين لمن لم ينجبوهم وآخرين ليسوا آباء لأبنائهم في الحقيقة ولو كانوا قد أنجبوهم بالفعل من أصلابهم‏.

عبد الوهاب مطاوع


أبكتني رسالة البيت الجميل للطفلة الحائرة التي تعيش مع شقيقها البالغ من العمر 12 عاما فقط في مسكن مستقل بعيدا عن أمها وأبيها‏,‏ وتشكو افتقادها وافتقاد شقيقها لأمهما‏,‏ لأن والدها يرفض بإصرار أن يسمح للأم المطلقة أن تعيش مع أبنها وأبنتها في المسكن الذي وفره لهما ولا يسمح لها برؤيتهما إلا مرة كل أسبوعين ويحرم عليها الاتصال بها تليفونيا‏,‏ كما أن الأم لا تستطيع توفير مسكن يجمع بينها وبين الطفلين‏,‏ في حين يعيش الأب في بيت جميل مع زوجته الجديدة وأطفاله منها‏.‏ وفي ختام رسالتها المؤلمة هذه تطلب منك الطفلة أن تجد لأمها رجلا متدينا يتزوجها ويقبل أن يعيش معها الطفلان ويصبح أبا لهما لكي يجتمع شمل الأم وأبنها وأبنتها تحت  سقف واحد‏.‏


وقد يتساءل بعض القراء‏..‏ هل هناك مثل هذا الشخص الذي يرحب بسيدة مطلقة وأبنائها ويصبح أبا رحيما وعادلا لهؤلاء الأبناء ويتكفل بهم ماديا ومعنويا ويحنو عليهم بعد أن يكف الأب الطبيعي يده عن الإنفاق عليهما تنفيذا لشرطه إذا ضمتهم الأم لحضانتها ؟‏..‏ ورسالتي هذه قد تجيب على هذا السؤال‏.‏


فأنا شاب انفصل أبي عن أمي منذ أكثر من‏ 22 عاما‏..‏ وتنبهت للحياة فوجدتني طفلا صغيرا يلهو في بيت مزدحم بالبنات والأولاد‏..‏ وأمي الشابة الجميلة ترعاني وأنام على صدرها كل ليلة في غرفة تنفرد بها في المسكن المزدحم‏,‏ وفي البيت أم أخرى أكبر منها سنا وأكثر تفرغا لملاعبتي ورعايتي‏,‏ وأب كبير السن لا يراني مرة إلا ويعطيني شيئا من الحلوى‏,‏ وهناك رجل آخر يظهر كل أسبوعين أو ثلاثة في صالون الشقة‏..‏ فيتكهرب الجو في البيت وتختفي أمي في غرفتها‏,‏ وتسرع الأم الأخرى الكبيرة بمساعدتي على ارتداء ملابسي وهي توصيني بالتزام الهدوء والأدب مع هذا الرجل الذي يجلس في الصالون لأنه أبوك‏,‏ وتدفعني دفعا إلى مصافحته والخروج معه من البيت فأخرج بعد شيء من المقاومة‏,‏ وفي الخارج يحاول هذا الرجل إرضائي وشراء الحلوى واللعب لي ‏..‏ فأنسى مخاوفي بعض الشيء وأتجاوب معه‏..‏ ونتمشى في الشوارع‏..‏ أو نذهب إلى الملاهي‏..‏ أو نزور رجلا كبيرا آخر وسيدة كبيرة أخرى يقول لي أنهما جدي وجدتي‏,‏ ثم يعيدني إلى البيت‏..‏ فأرجع ومشاعري تتراوح بين الابتهاج بهذه  الفسحة وبين الارتياح لعودتي إلى أمي الشابة .


وفي غرفة النوم تنفرد بي أمي وتسألني باهتمام عما فعلت مع هذا الرجل وماذا قال وماذا قلت له‏..‏ وهل سألني عنها ؟ وألم يقل لي شيئا عنها ؟ وألم يطلب مني إبلاغها أي شيء؟‏..‏ فأجيبها على تساؤلاتها بما يعن لي وقتها ويفوتني لصغر سني بالطبع وإدراك ما وراء هذه التساؤلات المحرومة ولا أفهم إلا بعد سنوات سبب اكتئابها ووجومها حين أقول لها أنه لم يسألني عنها ولم يطلب مني أن أسلم له عليها أو أبلغها بأي شيء‏!‏
وتمضي بي الأيام على هذا النحو‏,‏ ثم يظهر في بيتنا رجل آخر ألاحظ اهتمام أمي الكبير وأبي الكبير به وحفاوتهما الزائدة بزيارته والجلوس معه في الصالون ‏..‏ وألاحظ أيضا أن أمي تطلب مني حين يجيء الخروج من غرفتها وتغلق بابها عليها فيها لفترة طويلة ثم تخرج بعدها وهي كالعروسة في كامل زينتها وملابسها‏,‏ وتدخل الصالون وأتبعها إليه‏..‏ وأجلس إلى جوارها وهي تتبادل الكلام مع هذا الرجل‏..‏ وأجده يحاول دائما الحديث معي وسؤالي عن ألعابي وأصدقائي‏,‏ وأشعر بعد قليل من النفور المبدئي منه بالاعتياد عليه وأبدأ في الاستجابة لمداعباته‏,‏ وأرى وجه أمي الجميل يشرق بالبهجة حين تراني أتحدث إليه وآلفه‏..‏ ثم ينشغل البيت بأشياء جليلة‏..‏ وتكثر أمي الصغيرة والكبيرة من الخروج دون اصطحابي معهما‏..‏ وأفتقد أمي‏..‏ وأشكو للأب الأخر الكبير فينظر إلي بهدوء ويقول لي أنه سيحدثني كرجل ويتوقع مني أن أكون عند حسن ظنه‏..‏ ثم يسر إلي بالخبر المهم وهو أن أمي سوف تتزوج من هذا الرجل الذي أراه في الصالون خلال أيام وسوف يسافران معا في أجازة‏,‏ وبعد عودتهما سوف أعيش معهما في مسكن جميل‏..‏ وأتمتع بحنان أمي وعطف هذا الرجل الطيب‏..‏ ولا أفهم مما يقوله شيئا إلا أنني سوف أعيش مع أمي في مسكن آخر وإن المطلوب مني هو الصبر علي غيابها بعض الوقت قبل أن يحدث ذلك‏.‏


ويتحقق كل ما قاله لي بعد فترة من الانتظار‏..‏ وأنتقل إلى أمي في مسكن جديد‏..‏ ويصبح زائر الصالون هذا عضوا دائما في حياتنا الجديدة‏..‏ وأتعامل معه كما كنت أتعامل مع الرجل الكبير في بيتنا السابق‏..‏ وأبي الآخر الذي يدعوني للخروج معه مرة كل أسبوعين‏..‏ وأدرك رغم صغر سني أنه قد وافق على بقائي مع أمي وزوجها الجديد‏,‏ لأنه قد تزوج ورفضت زوجته أن يضمني إليه وحسنا فعلت لكيلا تحرمني من أمي وفي سن مبكرة أدرك أن ظروفي تفرض علي أن أكون مؤدبا ومطيعا مع زائر الصالون الذي أعيش معه‏..‏ ومع أبي الآخر كلما طلب أن أزوره وأن أشكره على ما يرسله لأمي من نقود كل شهر لتكاليف حياتي‏.‏


وشيئا فشيئا بدأت أتعود على وجود زائر الصالون في حياة أمي وحياتي وبعد عامين أصبح لي أخ صغير أحبه وألاعبه‏..‏ كما أصبح لي في البيت الآخر أخت أخرى لا أراها إلا حين أزور أبي وشيئا فشيئا أيضا بدأت أحب هذا الرجل الذي تزوج من أمي‏,‏ وأتقبل كل توجيهاته لي بصدر رحب وألاحظ أنه رجل طيب ويصلي ولا ينهرني ولا يضربني أبدا ولا يصيح في وجه أمي‏,‏ وإنما ينفذ كل رغباته بالهدوء والكلام الطيب‏.‏ كما بدأت ألاحظ أيضا أن أمي تحبه وترعاه وتقول لي عنه أنه تعويض ربها لها وتلفت نظري إلى أنه يحبني ويخاف علي‏,‏ ولا يبخل بشيء من مطالبي‏.‏ وبالفعل فلقد أدخلني الرجل مدرسة لغات وأشرف على تعليمي وتربيتي وعلمني أن أعرف ربي وأن أصلي الفروض في أوقاتها ثم بدأ يؤمني في الصلاة ويرفع يديه بالدعاء بعدها ويطلب مني أن أفعل مثله وأدعو الله أن يحفظني وأخوتي وأمي وأبي وجدي وجدتي من كل سوء
وحين بلغت مرحلة المراهقة‏..‏ وبدأت أتمرد على بعض الأشياء‏..‏ كان هذا الرجل هو الذي يتدخل بيني وبين أمي ويصلح بيننا ويجلس معي في الشرفة وينصحني ويطلب مني أن أكون رفيقا بها لأنها قاست الكثير‏,‏ فلا عجب أن أحببته حبا من القلب لأني وجدت لديه حنان الأب الحقيقي‏..‏ ولم أجد مثله لدى أبي الطبيعي الذي يكتفي بإرسال المبلغ الشهري‏,‏ ولا أجد حين أراه ما أتحدث فيه معه فيحل الصمت بيننا بعد تبادل السؤال عن الأحوال‏.‏


وبعد فترة أخرى‏,‏ طلب أبي الآخر أن أنتقل إلى بيته لكي أكون تحت إشرافه في هذه المرحلة الحرجة من العمر‏,‏ ولم أرحب بذلك في أعماقي لكن من كانت ظروفه مثلي لا يكون له حق الاختيار‏.‏
وانتقلت للإقامة معه مع زوجته وأخوتي منه‏,‏ وعانيت الآمرين من زوجة أبي التي عاملتني من اليوم الأول على أنني أبن ضرتها وليس كأخ لأطفالها‏,‏ وانزويت في غرفة يشاركني فيها أخوتي معظم الوقت ولم أرو لأمي وأبي الحقيقي شيئا مما أعانيه من زوجة أبي لكيلا أزيد من همومهما‏,‏ إلى أن مرضت مما تفعله بي زوجة أبي ولاحظ هو اكتئابي واصفرار لوني الدائمين فسألني‏:‏ هل أريد العودة إلي بيت أمي‏,‏ ولم أجب على سؤاله خوفا من إغضابه "فكرر السؤال " فلم أتمالك دموعي لكني لم أنطق بشيء فهز رأسه وأبلغني بأنني سأعود لأمي‏..‏ وكان يوم رجوعي إليها وإلى أخوتي وأبي الحقيقي عيدا‏..‏ وسرعان ما استرددت صحتي ولوني الطبيعي‏,‏ وحصلت على الثانوية العامة وضغط علي أبي لكي ألتحق بإحدي كليات الفن التي يفضلها لي ولم أكن أرغب في ذلك‏,‏ لكني كتمت رفضي لكيلا أغضبه كعادتي معه ومع غيره وظللت عدة أيام لا أنام‏..‏ وأبي الحقيقي يسألني عما بي‏..‏ ويلح علي في السؤال‏..‏ وأنا لا أبوح بشيء إلى أن رجع من الخارج ذات مساء وبادرني متهللا بأنه أقنع أبي بعد رجاء طويل وعناء شديد أن يدع لي حق اختيار دراستي وكانت ليلة سعيدة في حياتي‏..‏ والتحقت بالكلية التي أرغبها بالرغم من احتجاج أبي وأمضيت سنوات الدراسة بتفوق وأبي الفعلي يشجعني ويسعد بنجاحي ويحتفل به احتفالا صاخبا ويطلب من أبنائه أن يقتدوا بي إلى أن تخرجت متفوقا وأديت الخدمة العسكرية عملت بوظيفة لائقة وبدأت أتطلع لما يتطلع له الشباب في مثل سني‏,‏ وارتبطت عاطفيا بزميلة لي وفاتحت بمشورة أمي أبي الذي أحمل أسمه في رغبتي في خطبتها‏..‏ فرفض ذلك رفضا باتا وبغير أن يسمع أية تفاصيل قائلا لي أن الوقت مبكر جدا للتفكير في مثل ذلك‏.‏ ولم يقتنع بكل ما قلته له من أنني أرغب فقط في تقديم الشبكة لفتاتي وأن أمامنا أربع سنوات إلى أن نتزوج وصارحت فتاتي بما حدث وأعفيتها من عهدها معي‏..‏ لكنها لم تقبل ذلك‏,‏ وفوجئت بأمي بعد يومين تقول لي أنها اتصلت بها وأبلغتها استعداد أسرتها لقبول دبلتين فقط إلى أن تتحسن الأحوال‏,‏ ووجدت أبي الحقيقي يدعوني للجلوس معه في الشرفة كعادته كلما أراد أن يتحدث معي في شيء مهم ويسألني هل تحبها حبا حقيقيا ؟ وأجيبه بالإيجاب فيقول لي‏:‏ إذن لا تفرط فيها لكيلا تندم على ضياعها من يدك ولسوف يعينك الله سبحانه وتعالى على تكاليف الزواج‏,‏ ثم يقول لي أنه حاول مع أبي كثيرا لإقناعه بالتقدم لأسرة هذه الفتاة‏..‏ وأصر على الرفض فأستأذنه في أن ينوب عنه في أن يخطبها لي لأنه كما قال له والد أيضا لي فلم يجب بالرفض أو الإيجاب وإنما قال له أفعلوا ما تشاءون لكني لن أساهم في هذا الزواج‏!‏


واتفقنا في هذه الجلسة على أن نتقدم للأسرة بالدبلتين‏..‏ وفي الموعد المحدد ذهبنا إلى بيت فتاتي أنا وأمي وأبي الحقيقي وأخوتي منه‏,‏ وفي الطريق فاجأني الرجل الطيب بإخراج علبة مجوهرات قدمها لي سعيدا وهو يقول أنها هديته لي في مناسبة الخطبة‏,‏ وفتحتها فإذا فيها أسورة ثمينة فصرخت من المفاجأة وطفرت الدموع من عيني‏..‏ وخطفت يده من على مقود السيارة لأقبلها شكرا وعرفانا‏,‏ وذهبنا إلى بيت خطيبتي وقدمنا الشبكة وسعدت سعادة طاغية‏.‏
وفي الأيام التالية سعدت بحياتي وخطيبتي وأمي وأسرتي‏,‏ ولم يكدرني شيء سوى إصرار أبي على ألا يزور أسرة خطيبتي أو يسمح لي باصطحابها معي في زيارة لبيته لكي تتعرف عليه‏..‏ وبدأت أسرة خطيبتي تتحدث عن الشقة‏..‏ وأجبت بأني أدخر نصف مرتبي وآمل أن استطيع دفع مقدم لشقة صغيرة خلال ثلاثة أعوام‏,‏ كما أن أمي سوف تساعدني ببعض مدخراتها من عملها‏..‏ وقد يساعدني أيضا أبي الطبيعي وهو قادر على ذلك‏.‏ ورويت لأبي الفعلي وأمي هذا الحديث‏..‏ فإذا بأمي تكشف لي عن فضل جديد من أفضال زوجها علي‏..‏ وهو أنه منذ عشر سنوات قد رفض بعد أن تحسنت أحواله المادية أن يسمح لها بإنفاق المبلغ الشهري الذي كان أبي يرسله لي وأصر على أن تفتح به دفتر ادخار باسمي في البنك لأستعين به على أمري بعد الزواج وفتح لأختي وأخي منه دفترين مماثلين في نفس الفرع وواظب خلال السنوات العشر الماضية على وضع المبلغ الذي يرسله أبي لي في دفتري‏..‏ وبالتالي فلن يكون حلم الشقة بعيد المنال إن شاء الله مع ما أدخره من مرتبي ولا يمكن أن تتخيل عمق ما أحسست به من حب وعرفان لهذا الرجل‏,‏ ولا يمكن أيضا أن تتصور ما أصابني من هلع صادق حين رجعت من عملي ذات يوم فعلمت أنه قد فاجأته وهو في عمله أزمة قلبية نقل على آثرها للعناية المركزة‏..‏ فهرولت إلى المستشفى‏.‏ وأمضيت الليل واقفا علي باب الغرفة‏..‏ واعتصمت بالمكان ثلاثة أيام حتى تحسنت حالته ونقل إلى غرفة أخرى وقضيت معظم الوقت معه وشعرت بالفخر والاعتزاز وأنا أرى باقات كثيرة من الورد تنهال عليه وزوارا عديدين يطمئنون على سلامته‏.‏


ومضت المحنة بسلام واسترددت اطمئناني للحياة وتعاقدنا على شقة لكي نتسلمها بعد عامين ودفعنا مقدم  الثمن وواظبت على زيارة أبي الطبيعي مرة كل شهر في بيته بالرغم من تحفظه معي وجفاء زوجته لي وبرود مشاعر أخوتي منه تجاهي‏,‏ وبالرغم أيضا من تمسكه رغم كل ما حدث بعدم زيارة بيت خطيبتي أو التعرف على أهلها‏..‏ وقد فعلت ذلك طلبا لرضا ربي‏..‏ وأيضا لأن أبي الحقيقي كان يوصيني دائما بألا أقطع صلتي بأبي مهما حدث منه وأقترب موعد استلام الشقة وساهمت أمي بمدخراتها من عملها في دفع المهر‏..‏ ورفض أبي الطبيعي المساهمة فيه بدعوى أنه لم يكن راضيا عن الارتباط في هذه السن المبكرة وحددنا موعد الزفاف في شهر مارس من هذا العام عقب استلام الشقة وبدأنا نستعد للزواج‏,‏ ثم فجأة أصيب أبي الحقيقي بنوبة قلبية أشد من الأولى ودخل العناية المركزة وأجريت له جراحة عاجلة‏..‏ وساءت حالته بشدة لمدة‏10‏ أيام ثم رحل الرجل الطيب عن الحياة مبكيا عليه كل من عرفوه‏,‏ ووقفت في السرادق أتلقى العزاء فيه وأنا مكسور الظهر وأشعر باليتم الحقيقي والضياع والخوف من المستقبل‏.‏ وبعد انتهاء الأيام العصيبة‏..‏ احتضنت أختي وأخي الصغيرين وقلت لهما أن أباهما وأبي لم يمت لأنه ربي رجلا سوف يتحمل مسئوليتهما من بعده ويرد إليه فيهما جميله الذي أسداه له وطلبت منهما ألا يبكيا أباهما لأنه رجل صالح‏..‏ والصالحون في نعيم بالآخرة‏,‏ وأعلنت أسرة خطيبتي أني لن أتزوج قبل مرور عام على رحيل أبي الذي لم أشعر بحنان الأبوة إلا معه‏.‏ وأصبحت أخرج من عملي فلا أذهب للقاء خطيبتي كما كنت أفعل في الأيام السعيدة وإنما أرجع إلى البيت‏..‏ وأتناول طعام  الغداء مع أخي وأختي وأمي وألبي طلباتهم‏..‏ وأشرف على مذاكرة الأخوة‏..‏ ولا أخرج في المساء إلا إذا اطمأننت على كل شيء في حياتهم‏.‏


ولقد مضت الآن خمسة شهور على وفاة أبي ولم تفارقني صورته ولا رنين صوته الهاديء الرزين في مخيلتي‏,‏ وفي كل المواقف التي تواجهني فإني أتمثله‏..‏ وأتسمع صوته وهو ينصحني ويرشدني وأعمل بما كان سيقوله لي لو كان على قيد الحياة‏..‏ وقد بدأت أمي تتمالك نفسها‏,‏ وتقول لي أنها لم تسعد بالحياة وبالزواج إلا مع هذا الرجل الطيب‏..‏ وهي تضع صورته وهو يحتضنني من ناحية ويحتضن أمي وأخوتي من الناحية الأخرى في صدر الصالون وتفتح بيتنا لأهله وأخوته وأبنائهم وتستقبلهم بحفاوة وحب وتقول أنها تشم رائحته في وجوههم‏.‏
ومازلت كما عاهدت هذا الرجل الطيب في حياته أحرص على زيارة أبي مرة كل شهر ولا أحفل بتحفظه معي أو حتى تجهمه في وجهي أحيانا إعلانا عن استيائه غير المفهوم أسبابه مني‏,‏ كما لا أحفل أيضا بالمشاعر العدائية الصامتة التي تكنها زوجته ضدي بلا سبب معلوم‏,‏ وأعتبر هذه الزيارة واجبا دينيا أؤديه في صبر وأرجو من أدائه رضا ربي ومغفرته كما علمني أبي الحقيقي‏.‏
ولقد كتبت رسالتي هذه بعد أن قرأت رسالة الطفلة الصغيرة التي تطلب أبا لها ولشقيقها‏,‏ وأبوها الطبيعي يعيش في بيته الجميل غير بعيد عنهما في المكان‏,‏ لكي أقول لمن لا يصدق أن في الدنيا بالفعل رجالا من هذا  النوع يمكن أن يكونوا آباء حقيقيين لمن لم ينجبوهم وآخرين ليسوا آباء لأبنائهم في الحقيقة ولو كانوا قد أنجبوهم بالفعل من أصلابهم‏..‏ فأرجو أن تجتهد في إيجاد أب آخر كذلك الأب الطيب الذي تربيت أنا في أحضانه‏,‏ لوالدة هذه الطفلة الحائرة‏..‏ وأرجو أن تعلم أن لك أجرا كبيرا بإذن الله إذا وفقك الله في إغاثة هذه الطفلة وشقيقها الحائرين‏.‏ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.‏

 ولكاتب هذه الرسالة أقول:

‏ كان أمير الشعراء أحمد شوقي يقول‏:‏
ليس اليتيم من انتهي أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له أما تخلت أو أبا مشغولا
وبهذا المفهوم فما أكثر يتامى الحياة المعنويين الذين يكابدون أقدارهم مع أم تخلت أو أب مشغول‏..‏ وما أرحم السماء بمن تعوضه عن أبيه أو أمه بأم حقيقية أو أب حقيقي‏..‏ لم ينجبه من صلبه فيحدب عليه ويتحمل مسئوليته الإنسانية والتربوية بهذا القدر من الأمانة التي تحملها عنك هذا الرجل الطيب‏.‏ ولا عجب في أن تشعر عند رحيله عن الحياة باليتم الحقيقي والخوف من المجهول بعد أن انكشف عنك غطاء هذا الأب الأمين‏.‏
لقد تذكرت وأنا أقرأ رسالتك ما قاله الإمام المحدث ابن ماجه من أنه‏:‏ خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه‏,‏ وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه‏.‏


الرجل الصالح حقا وصدقا بك قد حماك من كثير من  غوائل اليتم المعنوي وآثاره السلبية نفسيا وتربويا على من يكابده‏.‏ والآن فلقد جاء دورك يا صديقي لكي ترد الدين لصاحبه فتكون كما أراد لك أن تكون إنسانا بمعنى الكلمة يرعى حدود ربه وينثر بذور الخير والعطف والرحمة والعدل في مجتمعه المحيط به‏.‏
فلقد أعطاك أبوك الحقيقي المثل في أن تكون إنسانا يضيء الحياة بوجوده فيها‏..‏ ويزيد من مساحة الحب والعطف والرحمة والعدل الإنساني في الدائرة التي يتحرك في مجالها‏.‏ وعلمك كيف تكون إنسانا يعطي للآخرين فيجني ثمار عطائه لهم وللحياة حبا صادقا وعرفانا مخلصا له ووفاء لذكراه‏.‏ والوفاء بالدين من شيم الأوفياء وأصحاب المروءات‏,‏ فأد دينك على خير وجه للحياة ولهذا الرجل الطيب الذي أحبك ورعي حدود الله فيك‏,‏ ولم يفرق بينك وبين من أنجبهم من صلبه‏..‏ وقم بواجب الأب الحقيقي مع إخوتك منه‏..‏ بل ومع إخوتك الآخرين من أبيك الطبيعي إذا احتاجوا ذات يوم إلى مساندتك لهم في معركة الحياة‏..‏ فمن عرف قلبه الرحمة الصادقة لا يفرق بين الضعفاء حتى ولو كانت الحياة قد أبعدتهم عنه في بعض الفترات‏..‏ والإنسان هو ما يفعله كما قال ذات يوم المفكر الفرنسي اندريه مالرو وليس ما يفعله به الآخرون‏..‏ ولقد لمست أنت كيف خلف أبوك الحقيقي وراءه كل هذا الأثر الطيب وهذه الذكرى العطرة له بما قدم لحياته وبما التزم به في رحلته معها من قيم دينية ومثل أخلاقية‏,‏ فكن مثله في نهجه مع الحياة وأحسن رعاية والدتك التي أخلصت لك الحب والعطف والرعاية ورعت مصالحك بأمانة مع هذا الرجل  الفاضل‏,‏ والتزم ببرك بأبيك الطبيعي حتى ولو لم يحسن الآن فهم طبيعتك الخيرة‏,‏ فلسوف يأتي يوم قريب يعرف لك فيه قدرك وطيب معشرك وكريم خلالك‏,‏ ولقد علمت أنت من البداية أنك لا ترجو ببرك به رضاءه بقدر ما ترجو به رضا من هو أعلي قدرا منه وأعظم شأنا سبحانه وتعالى‏.‏

 

 واستفد بتجربة أبيك الحقيقي في حسن معاشرة والدتك وفي الأثر العظيم الذي خلفه في نفسها ووجدانها في إحسان عشرتك لزوجتك حين يجمع بينكما عشكما الصغير‏,‏ كما لا تنس أيضا ما كنت تشعر به وأنت طفل حائر فرضت عليه ظروفه الخاصة أن يكون قليل المطالب‏,‏ شاعرا بالانكسار النفسي ويكتم رغباته الحقيقية اتقاء لغضب الآخرين‏,‏ ويحس إحساسا مبهما ومؤلما في نفس الوقت بأن من كان مثله لا يملك حق الاختيار أو حق التعبير عما ينطوي عليه صدره من رغبات وأمنيات‏,‏ وحاول بكل ما تملك من جهد أن تجنب أخويك الصغيرين مرارة هذا الانكسار النفسي وآثاره السلبية الغائرة علي الشخصية‏,‏ فللصغار دائما ومهما كانت ظروفهم حق التعبير عن أنفسهم ورغباتهم وأمنياتهم بغير خوف من أثر ذلك علي من يرعون شئونهم ولهم أو ينبغي أن يكون لهم دائما ما يكون لغيرهم ممن يعيشون حياتهم الطبيعية من حق الرفض والقبول وحق الاختيار‏.‏ وبذلك تقدم للحياة أخوة أسوياء تجنبهم مرارة ما أحسست به أنت وأنت تقف أمام أبيك الطبيعي عاجزا عن التعبير له عن رغبتك في العودة للإقامة مع والدتك أو وأنت تكتم رغبتك الخفية في الالتحاق بكلية بعينها توهما منك أن مثلك لا يكون له حق الاختيار‏.‏ وخير الدروس هو ما نتعلمه من تجاربنا المؤلمة في الحياة وخير البشر هم من يسعون دائما لأن يجنبوا عزاءهم والآخرين ما عانوا هم من قبل مرارته وخبروا قسوته عليهم حين كانوا ضعافا حائرين‏..‏ والسلام‏.‏ 

رابط رسالة البيت الجميل

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2000

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات