دفء الذكرى .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2001

دفء الذكرى .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2001 

دفء الذكرى .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2001

للقلب الحزين فى ذكرياته الجميلة مع الأعزاء بعض السلوى وبعض العزاء عن خسارته فيهم .
وفى استشعار وجودهم فى الوجدان والخواطر كل حين ما يخفف بعض وحشة افتقادهم والحنين إليهم .
عبد الوهاب مطاوع

أنا رجل أبلغ من العمر 45 عاما، تزوجت منذ 11 عاما من فتاه رائعة تحمل اسم "زهرة" تشتهر بجمال رائحتها وقصر عمرها , ويوم التقينا أحس كل منا بأنه خلق للآخر وأصبحت هي لي كل أحلامي , ويحضرني هنا يوم ذهبنا لشراء الشبكة وكان يوم جمعة وفى أثناء الشراء أذن لصلاة الجمعة فأصرت على الخروج من عند الجواهرجي للصلاة وهى تهمس في أذني "وذروا البيع" وطلبت أن  تكتب تاريخ أول مرة رأى فيها كلا منا الآخر على الدبلة بدلا من تاريخ الخطبة وتزوجنا وأصبحت حياتي هي السعادة بعينها مع زوجه صافية النفس بيضاء القلب مبتسمة السريرة رائعة الجمال , جعلتني امتلك الدنيا كلها وأحب الحياة بحبها , ومع ذلك كانت لا تحب أن تستأثر بى لنفسها بل تغضب مني إذا ما قصرت في صلة رحمي .

 

 ولقد كنت يا سيدي مصابا بالسكر وبالرغم من إنني اعمل في الحقل الطبي إلا إنها كانت طبيبتي الحريصة على دوائي , ومواعيد الحقن وكانت دائماً تذكرني بأن المرض المزمن يدخل صاحبه الجنة , كانت مثالاً للرضا والقناعة وما من أحد تعامل معها إلا وأحبها قريبا كان أو نسيباً أو صهراً .. كانت تستيقظ لصلاة الفجر وتوقظني وهى مبتسمة قائله لى إنها تكسب ثواباً على حسابي وتذكرني بقراءة القرآن , فإذا ما تلعثمت أو أخطأت صححت لي خطئي .. وأقمت بعد الزواج مع والدتي فتره قبل أن يتوفاها الله وكانت آخر كلماتها وهى تنظر لزوجتي إنني راضية عنك بعدد كل شعره في بدني وعلى زوجتك .


ورزقني الله بطفلين ربتهما على نفس طباعها من تربية دينية وعواطف جياشة واستمرت الحياة هكذا وأنا اشعر بقلق داخلي لأنني تعودت أن أي سعادة أو فرحة في حياتي قد يعقبها حزن أو تعاسة ولن استطرد في ذلك كثيراً فقد كان ما خشيت منه وبدأت الزهرة في الذبول , فمرضت بمرض سريع ولكنه خطير وكعادتها كانت الصبور الراضية بقضاء ربها بلا تذمر ولا شكوى فتخفى عني ألمها وتقول لي أنت عطية الله لي ونور حياتي وملاذها , أتريد أن تدخل الجنة بمفردك كلانا مريض وما من شوكة تصيب المؤمن إلا وتكتب له بها حسنة أو ترفع عنه خطيئة ويتعجب الأطباء من قوة احتمالها وصبرها وفى لحظات التعب الشديد تطلب مني بعض الرمل لكي تتيمم للصلاة وتطلب مني أن أسامح بعض القريبين منها الذين قصروا معها .

 

وتمر الأيام سريعة وتذبل الزهرة ويسترد الله وديعته ويتركني وحيدا مع الطفلين اللذين يبلغ أحدهما العاشرة والآخر الثامنة وأبكى فيقول لي طفلي الأكبر : كيف تبكى وهي في الجنة ؟!
إن الحزن يطاردني في كل مكان كانت لنا فيه ذكرى واشعر بالحنين إليها واسمع من الأهل أن الموت هو المولود الوحيد الذى يولد كبيرا ويصغر مع الأيام .

 

ولكاتب هذه الرسالة أقول :

تهدأ الأحزان دائما يا صديقي كلما بعدت الذكرى وطالت الأيام .. وهدوء الأحزان بعد حين ضرورة إنسانيه لا مفر منها لكي يطرد تيار الحياة العام ويستمر في طريقه المقدور له كماء النهر الذي يمضى إلى الأمام دائما ولا يرجع إلى الخلف أبدا , كما انه لا يعنى أبدا نسيان الأعزاء الراحلين أو عدم الوفاء لذكراهم .. وإنما يعنى فقط تحول الحزن الحارق الذي يكوى الجسد والنفس إلى حزن رفيق نبيل ينطوي عليه القلب لكنه لا يمنع صاحبه من التعامل مع الحياة .. ولا يقعد به عن أداء رسالته فيها أو التفتح لاستقبال مؤثراتها والتفاعل معها بطريقه سليمة .
وللقلب الحزين فى ذكرياته الجميلة عن هؤلاء الأعزاء بعض السلوى وبعض العزاء عن خسارته فيهم .وفى استشعار وجودهم فى الوجدان والخواطر كل حين ما يخفف بعض وحشة افتقادهم والحنين إليهم .. فتقبل أقدارك راضيا يا صديقي .. واصبر على لسع اللهب الحارق إلى أن يخمد أواره بمرور الأيام .. وبالتسليم بالقضاء .. واعتياد الأمر الواقع مهما يكن مؤلماً وبقدرة الإنسان على التكييف مع الأوضاع .. والصبر على المكاره .. وبعد ذلك تستطيع أن تفكر بهدوء فى مستقبل طفليك وحياتك الشخصية إن شاء الله .

رابط رسالة فيض القلب تعقيبا على هذه الرسالة

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2001

شارك في إعداد النص / علا عثمان

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات