فيض القلب .. رسالة من بريد الجمعة عام 2001
هل يستطيع
الإنسان أن يزعم لنفسه حقا أنه يتحكم في مسار حياته ويوجهها وفقا لإرادته المطلقة؟
إنني أقول لك أنه لا يملك من أمره الكثير, وأن هناك مصادفات وعوامل كثيرة قد
تحدد مسار حياته على غير سابق توقع منه, وأحسب أن هذا هو ما حدث معي حين التقيت
بهذه الإنسانة فجأة منذ 25 عاما, فلقد كنت في ذلك الوقت مجندا في البحرية
بالرغم من أنني قاهري وأقيم بالعاصمة.. ثم دعيت خلال إحدى إجازاتي لحضور حفل
ميلاد لأحد الأقارب المقيمين بالثغر, وتوجهت للحفل فرأيتها فيه وشعرت شعورا
غامضا غريبا بأن هذه الفتاة التي لا أعرفها ولا تعرفني وتدرس بكلية الهندسة جامعة
الإسكندرية, ستكون ذات يوم ولو بعد بضع سنوات الإنسانة التي أشاركها رحلة
العمر! ولم تكن ظروفي في ذلك الوقت تسمح لي بالزواج فأنا موظف حديث ببكالوريوس
التجارة بإحدى الهيئات الحكومية ومجند بالقوات المسلحة, وليس لدي ما أستطيع أن
أبدأ به أي مشروع للارتباط فلم أبح لأحد بهذا الإحساس الغريب.
وظللت طوال الحفل أشعر بها بشدة حتى وأنا لا
أراها.. وأختلس من حين لآخر نظرة فاحصة لها, وأتخيلها بفستان الزفاف الأبيض إلى
جواري ـ ويدي تمسك بيدها. وانتهي الحفل ـ ورجعت إلى وحدتي البحرية.. وأديت
خدمتي العسكرية وعملت بوظيفتي في القاهرة لبضعة أشهر, ثم انتقلت منها إلى وظيفة
أفضل بشركة بترول ـ وعملت بها لفترة قصيرة, ثم وجدت فرصة عمل أحسن في شركة جديدة
لخدمات الطيران فانتقلت إليها.. ووجدت بين يدي بعض المدخرات البسيطة التي تصلح
كبداية لمشروع الزواج.. فاتخذت أن أنفذ ما كنت قد فكرت فيه قبل عامين وكتمته في
صدري وركبت القطار في الصباح الباكر للإسكندرية, وتوجهت من المحطة إلى كلية الهندسة,
وطلبت من فراش الكلية أن يبلغ الآنسة فلانة أن لها قريبا ينتظرها خارج قاعة
المحاضرة, وغاب الرجل بضع دقائق ورجع ومعه الفتاة التي رأيتها في حفل عيد
الميلاد والتي دهشت كثيرا لرؤيتي في الكلية, لكنها سألتني بأدب عما أريده
فصارحتها على الفور أنني أفكر في الارتباط بها منذ رأيتها لأول مرة في حفل عيد
ميلاد قريبي.. وأريد أن استئذنها في التقدم لأبيها إذا كانت تقبل بي.. فابتسمت
في حياء وفكرت لحظات ثم قالت لي إن أسرتها يسعدها أن تستقبلني في أي وقت أشاء,
وشكرتها كثيرا وأنا لا أتمالك نفسي من الفرح والسعادة.
وفي المساء كنت في صالون مسكنها أطلب يدها من
أبيها, وتمت قراءة الفاتحة.. ومن هذه اللحظة تفجرت ينابيع الحب في قلبينا
وفاضت مياهها العذبة.. وتساهلت علي فتاتي وأبويها كثيرا في مطالب الزواج, حتى
لقد قبلوا بأن نتزوج في شقة مفروشة بالإسكندرية إلى أن تنهي فتاتي دراستها بكلية
الهندسة, ثم تنتقل معي للإقامة في شقة بالقاهرة.
وتزوجنا وأصبحت أمضي أيام الأسبوع في العمل بالعاصمة وأطير علي جناح الشوق إلى
زوجتي الحبيبة بالإسكندرية في نهاية الأسبوع وأيام العطلات, ووهبنا الله طفلة
جميلة ثم طفلا رائعا ووجدت زوجتي حلوة المعشر تنشر الحب والعطف والتسامح حولها
وتكره الخصام والشقاق والنكد وتنسى الإساءة سريعا, وتحب الناس وتبادر بتقديم
خدماتها لكل من هم حولها.
ومضت بنا الأيام, وانتقلت من عملي بشركة البترول للعمل بهيئة دولية في مصر,
وتحسنت أحوالنا المادية كثيرا حتى أصبحنا من ذوي الأملاك واكتشفت زوجتي ذات يوم
أنني قد اشتريت باسمها قطعة أرض, فلم يكن منها إلا أن أعطتني رغما عني كل ما
ورثته من مال عن أبيها وظل دستورنا في علاقتنا كزوجين هو ما قلته لزوجتي بعد إنجاب
الطفلين وهو أنني لن أتمسك بك ذات يوم كزوجة لمجرد أننا أنجبنا طفلين, ولا أريدك
أنت أيضا أن تتحمليني من أجل ذلك, وإنما سوف أتمسك بك لشخصك أولا وأخلاقك وطباعك
الجميلة ومن بعد ذلك من أجل الأبناء وأريد منك أن تفعلي الشيء نفسه, وإذا حدث لا
قدر الله أن تعذر علينا أن نستمر معا فلسوف أسرحها بإحسان وأعطيها نصف ما أملك دون
طلب.
ومضت من حياتنا معا عشرون عاما كلمح البصر,
وترقت زوجتي في عملها كمهندسة حتى تولت منصب مدير إدارة, وكانت تسافر كل أسبوع إلى
موقع عملها وترجع, بيتها وأسرتها وزوجها متلهفة, ولم يمنعها عملها من أن تكون
زوجة كاملة لزوجها وأما رءوما لطفليها وربة بيت ناجحة, واستأثرت بحب كل إخوتي حتى
لقد كان بعضهم يقولون لي إنهم يحبونها أكثر مما يحبونني فيسعدني ذلك كثيرا, لأنه
يتضمن إطراء ضمنيا لي ولحسن اختياري لشريكة حياتي.
ثم كانت زوجتي جالسة ذات يوم في مسكننا تحتسي الشاي وقت الأصيل فإذا بها تصاب فجأة
بنوبة قيء شديدة استمرت لمدة ساعة, وتم إجراء الفحوص اللازمة علي الفور.. فقيل
لنا إن لديها حصوة في المرارة وتحتاج إلى عملية عاجلة, وتم إجراء الجراحة,
وأمضت 22 يوما في المستشفى, ثم تحسنت حالتها وسافرنا لقضاء فترة نقاهة
بالإسكندرية استردت خلالها زوجتي صحتها تماما, واتصلت بالشركة وطلبت إرسال سيارة
العمل إليها لكي تذهب إلى مكتبها ـ وقبل أن تصل السيارة كانت نوبة القيء الشديدة
قد عاودتها مرة أخرى ورجعنا للمستشفى وتم إجراء جراحة أخرى ثم توالت المتاعب بعد
ذلك.. ونوبات المرض والعلاج والعذاب المؤلم, ودخلنا في دوامة عصيبة لا أريد أن
أزعج بها أحدا, وسأكتفي بأن أقول إن زوجتي الحبيبة قد قاومت المرض الغادر بشجاعة
كبيرة وأمل أكبر في الشفاء لمدة خمسة أشهر, ثم فاضت روحها الطاهرة فجأة وعمرها
ثلاثة وأربعون عاما و27 يوما.
وبالرغم من إيماني الشديد بقضاء الله وقدره وتقبلي له, واقتناعي بردك على كاتب
رسالة دفء الذكري الذي فقد شريكة حياته أيضا بعد رحلة حب ووفاق جميلة, فإنني
أتذكرها في كل وقت وفي كل مكان تحركت فيه وأعيش في ذكرياتي الجميلة معها, وأشعر
بوجودها إلى جواري.. وأتذكر كيف كنت أحس وأنا عائد إلى البيت كل يوم أنني ذاهب
إلى موعد غرامي يومي سألتقي فيه بحبيبتي لأول مرة, ثم أفيق من تخيلاتي على
الحقيقة المرة وأشعر بأن جزءا مني يرفض تصديق ما حدث فاستغفر الله وأدعوه أن يلطف
بنا في قضائه.
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
جاء في الكتاب المقدس, أنه من فيض القلب يتكلم الفم!ولأن ما يصدر عن القلب يكون دائما صادقا وأمينا, فلقد جاءت كلماتك عفوية ونابضة بالحب والوفاء والإعزاز لشريكة الحياة الراحلة يرحمها الله.
فأما ذلك الإحساس الغامض الذي امتلأت به فجأة حين رأيتها لأول مرة في ذلك الحفل القديم, فهو إحساس صادق قد ينتاب البعض بالفعل حين يلتقون على غير موعد بأشخاص يشعرون في أعماقهم ولغير أسباب واضحة في أذهانهم بأنه سوف يكون لهم شأن معهم ذات يوم, ولاشك أنه صورة من صور تآلف الأرواح اللحظي.. أو الحدس.. أو التمني, فإذا جمعت الأيام بين الطرفين ذات يوم, فإن الأغلب الأعم هو أن تتشابك خيوطهما معا.. وتتمازج القلوب والمشاعر.. ويتشارب الطرفان رحيق الوفاق والسعادة.
ولا عجب في ذلك, فالصوفية يقولون لنا إن المحبة هي الموافقة, أي الطاعة له
فيما أمر والانتهاء عما زجر, والرضا بما حكم وقدر ومع أنهم يتحدثون في هذه
العبارة عن الحب الإلهي, إلا أن الحب البشري كذلك لا يخرج عن حدود الموافقة أو
الوفاق.. والطاعة المتبادلة فيما يحب كل طرف من الآخر.. والانتهاء عما يكرهه
له أوفيه ويأباه.
ولاشك في أن تفكيرك في إجراء هذه الصدقة الجارية على روح شريكة الحياة الراحلة قد
جاء في هذا الإطار, وهو إطار أن يفعل المرء ما يعرف جيدا أن المحبوب الراحل كان
سيسعد كثيرا به لو كان مازال في الجوار.
بل إن توافرك علي كتابة هذه الرسالة نفسها قد جاء أيضا في سياق الرغبة في إسعاد
المحبوب حتى ولو كان قد انتقل من عالمنا إلى العالم الأفضل!
لقد قال الروائي الإنجليزي جراهام جرين ذات يوم إنه ليس من السهل أن يفقد الرجل
امرأة طيبة وجميلة.
والمؤكد أنه ليس من السهل أيضا على المرأة أن تفقد رجلا طيبا وعطوفا, لكن تجارب
الألم والفراق قد علمتنا من ناحية أخرى أن الأشخاص الذين نحبهم بصدق لا يرحلون عنا
أبدا ولو غابوا بأجسامهم عن ناظرينا, وعلمتنا كذلك كيف نقول وداعا للأشياء
الجميلة في حياتنا حين تحين لحظة الوداع ويسدل الستار عن فصل سعيد من فصول
الحياة.
وهو كما تقول لنا مؤلفة رواية أنا والملك من أصعب دروس الحياة على الإطلاق!
كما علمتنا في النهاية أن نقول مع المتنبي عند الضرورة:
تفضلت الأيام بالجمع بيننا .. فلما حمدنا لم تدمنا على الحمد
غير أن
الإنسان وإن نفث في بعض الأحيان عن بعض البخار المكتوم في صدره لا يملك في كل
الأحوال إلا أن يديم الحمد ويرضى بما حكم وقدر.. ويمضي في الحياة بقلب يخفق
بالأمل.. في رحمة الله ويتطلع إلى غد تبرأ فيه كل الجراح.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2001
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر