السائرون نياماً .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987

 السائرون نياماً .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987

السائرون نياماً .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987

نحن كثيرا ما نرى مقدمات الفشل وأسبابه واضحة للعيان قبل الإقدام على مشروع هام كمشروع الزواج في حياتنا .. ومع ذلك نمضي إليه مخدرين لا نتوقف لحظة لكي نراجع أنفسنا أو نتخذ الخطوة الصحيحة ونتحمل نتائجها كأننا نسير نياما إلى أقدار محكوم علينا بمواجهتها كما في الأساطير الإغريقية القديمة ، بل نفعل ذلك ونحن لا نرى أي بادرة تقدم في الأحوال ، ثم يمضي العمر بعد ذلك نشكو مما صنعناه بأيدينا لأنفسنا .
عبد الوهاب مطاوع


أنا سيدة في السادسة والعشرين تخرجت في إحدى الكليات النظرية وكنت دائما مجتهدة في دراستي وأتمتع بذكاء حاد كما يقولون لكني كنت مترددة وضعيفة الشخصية .. أصمم على رأي معين ثم بعد نصف ساعة أغيره وأصمم على عكسه وأتمسك به , وحين كنت طالبة بالكلية خطبت لشاب ثم فسخت خطبتي لأسباب عائلية وتخرجت من الكلية ومضى لي عامان لم يتقدم لي فيها أحد يرضيني وبدأت نظرات من حولي تلسعني لأني وصلت إلى سن الخامسة والعشرين تقريبا ً ولم أتزوج فقررت أن أقبل أول عريس يتقدم لي مهما كانت مواصفاته ومهما كانت ظروفه وكان دافعي لذلك هو أني رأيت عددا من الفتيات في أسرتي قد رفضن من يتقدم لهن طلبا للأفضل فأصبحن في حكم العانسات .

 

وأنت لا تعرف يا سيدي ماذا تعني كلمة عانس في مجتمعنا وأوساطنا .. وهكذا كنت لا أريد أن أتأخر في الزواج فقبلت أول طارق على الباب إرضاء للناس من حولي وإرضاء لغروري أيضا لكيلا يفوتني القطار رغم التفاوت البسيط في المستوى الاجتماعي والعائلي بيني وبينه ورغم أن تفكيره وطموحاته يختلفان عن طموحي وتفكيري وكان شابا يكبرني بخمس سنوات وكنت أظن أن فترة الخطوبة سوف تقربني منه فلم يحدث هذا التقارب من جانبي بل حدث العكس فكل يوم أكتشف صفة أكرهها فهو بخيل إلى حد ما ويكذب في أتفه الأشياء .

 

وفكرت في فسخ الخطبة أكثر من مرة لكن إرادتي كانت تخونني لسببين الأول أني كبرت في السن وقد خطبت مرة سابقة إذن فاحتمال أن يتقدم لي خاطب جديد ضعيف والثاني هو أنني أشفقت عليه مما سوف أسببه له من الآم لو فسخت الخطبة وهو لا ذنب له فيما حدث وكل يوم يزداد تعلقه بي وحبه لي وتزداد محاولاته لإرضائي ، واستمرت الخطبة حوالي عام ونصف العام ولم تتغير مشاعري بالنسبة له بل لعلها تعمقت ، وتحدد يوم الزفاف وأنا مازلت غير مقتنعة به لكن ضعف شخصيتي وخوفي من مواجهة الناس يمنعانني من اتخاذ أي إجراء ، وهكذا وجدتني أستمر في المشوار فاشتري فستان الزفاف وأجهز بيتي بآلية غريبة كما لو كنت مخدرة ، ولم أفق إلا بعد أن وجدتني متزوجة منه ومر على زواجنا شهران وأنا مازلت عند الخطوة الأولى من موقفي منه . . أقول لنفسي أحيانا أنني قد أحبه وقد نتقارب مع مرور الأيام خاصة وأنه يبذل كل جهده لإرضائي وإسعادي .

 



وأنا أكتب لك الآن لأسألك هل يمكن أن أحبه في يوم من الأيام – وأيضا ً لأرجوك أن تنصح كل فتاة بألا تستعجل الزواج من أي شخص بحجة كبر سنها لأن قرار الزواج هو أخطر قرار في حياتها وعليها أن تفكر فيه جيدا ً . . فحتى لو ظلت عانسا ً في أسوأ الظروف فهذا أرحم ألف مرة من أن تعيش مع إنسان لا تربطها به ميول عاطفية . . فتظل تتمنى له ولها الموت طيلة حياتها .

 

 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

إن رسالتك يا سيدتي تعكس بشكل محزن الكثير من أخطاء التفكير الشائعة بيننا الآن . فنحن كثيرا ما نرى مقدمات الفشل وأسبابه واضحة للعيان قبل الإقدام على مشروع هام كمشروع الزواج في حياتنا . . ومع ذلك نمضي إليه مخدرين لا نتوقف لحظة لكي نراجع أنفسنا أو نتخذ الخطوة الصحيحة ونتحمل نتائجها كأننا نسير نياما إلى أقدار محكوم علينا بمواجهتها كما في الأساطير الإغريقية القديمة ، بل نفعل ذلك ونحن لا نرى أية بادرة تقدم في الأحوال , ثم يمضي العمر بعد ذلك نشكو مما صنعناه بأيدينا لأنفسنا .

ونحن أيضا يا سيدتي نتخذ أحيانا أخطر القرارات لأسباب لا علاقة لها بموضوع هذه القرارات نفسها وإنما لأسباب تتعلق بظروف تخصنا نحن ولا تصلح أن تكون معايير سليمة للحكم على الأشياء , كقبولك لهذا الشاب لأنك خطبت قبله وفشلت ولأن نظرات الآخرين تلسعك مع أنك صغيرة السن , أو لأن بعض الفتيات من حولك قد فاتهن قطار الزواج ، وهذه كلها اعتبارات لها أهميتها , لكنها لا شأن لها بالمعايير السليمة لاختيار شخص معين لشركة الحياة الطويلة , كمميزات هذا الشخص نفسه وخلقه والقبول العاطفي والنفسي له والتكافؤ الاجتماعي والثقافي معه . . . الخ . . وما بني على خطأ لابد أن يكون خطأ .

 

ونحن كذلك مدفوعين برغبة داخلية في تفخيم الذات . نستشعر دائما الفروق الاجتماعية الطفيفة بيننا وبين الآخرين , مع أن هذه الفروق لا ترى بالعين المجردة , ولو رجعنا إلى الوراء خطوة واحدة لأمكننا أن نرى الصورة أوضح وأشمل . . وعرفنا أننا ومن نستشعر التميز عنهم في درجة واحدة من السلم الاجتماعي . . وأن هذه الدرجة نفسها من الدرجات الدنيا فيه , فلا نحن من سلالات الدم الأزرق . . ولا نحن من عيون المجتمع أو نجومه , فلماذا هذا الإحساس الطبقي الزائف لدى الكثير منا ؟ ورغم ذلك فحتى هذه الفوارق الوهمية لا تمنع زوجة من أن تحب زوجها الذي يحبها ويبالغ في إرضائها ولا حالت يوما بين قلبين جمعهما الحب والإخلاص , لكنها " عين السخط التي تبدي المساويا " يا سيدتي لا " عين الحب التي هي عن كل عيب كليلة " !

ويوم يتفجر الحب في قلبك تجاه زوجك سوف تكتشفين فيه من السجايا ما يجعلك تفتخرين . . وتزهين به .

تسألينني بعد ذلك هل يمكن أن تحبينه يوما ما . . وأجيبك نعم من الممكن جدا أن يحدث ذلك لو حدث التغير داخلك أنت أولا وتخلصت من أوهامك وحاولت أن تري فيه ما يحببه إليك وليس ما ينفره منك , والحب قد يولد في لحظة سحرية تجب ما قبلها وتكون فاصلا بين المعاناة والسعادة . . فلا تفقدي الأمل وتذكري أنك مازلت في بداية التجربة . . وأن الشهور الأولى للزواج غير القائم على الارتباط العاطفي لا تصلح أبدا للحكم على مستقبله . . لأنها فترة محاولة التكيف والتوافق ولو استجابت الأقدار لتمنيات الكثيرين من الأزواج والزوجات في الشهور الأولى من هذا النوع من الزواج لتضاعفت أرقام حوادث التصادم ولانتشرت الأوبئة تحصد الأزواج حصدا لكن لطف الله أكبر ! فأعيدي التفكير في موقفك يا سيدتي – ولا تكوني أنانية تزنين كل الأشياء بمقاييسك أنت , ناسية أن لك شريكا لا ذنب له في سوء تقديرك للأمور ولا في هواجسك عن المستقبل التي دفعتك لزواج لا رغبة لك فيه خوفا من أن تصبحي عانسا .

وإذا كان لي أن أنصحك بشيء فهو بأن تؤجلي مشروع الإنجاب قليلا حتى تتبدل مشاعرك وتتخلصي تماما من تمنياتك هذه , إذ لا داعي لأن نسير نياما مرة أخرى إلى ما يوثق علاقتنا بالآخرين ونحن نتمنى لهم الهلاك والفناء !.

 رابط رسالة خواطر المساء تعقيبا على هذه الرسالة

رابط رسالة ماء النبع تعقيبا على هذه الرسالة

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1987

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات