ماء النبع .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

 

ماء النبع .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

ماء النبع .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988



أكتب إليك لأطلعك على جانب لا تعرفه من جوانب رسائل بريد الجمعة .. وأيضا لتعرف السيدة كاتبة رسالة السائرون نياما .. ماذا فعلت بحياتي رسالتها اللعينة ولعلك تذكرها وتذكر أنها السيدة التي كتبت لك تقول أنها خطبت لإنسان ووافقت عليه لمجرد أن الفتيات لابد أن يتزوجن وأنها كانت تأمل أن تنشا بينها وبينه مشاعر الحب خلال الخطوبة .. فلم تشعر تجاهه بالحب ومع ذلك استمرت في الإعداد للزواج كأنها تسير نائمة إلى مصير لا تملك فكاكا منه، وتركز أملها في أن تخلق العشرة بعد الزواج بينهما الحب .. فلم يولد الحب في قلبها رغم مرور أكثر من علم على زواجهما ورغم تفانيه في حبها ومحاولة استعادها .. وراحت تفكر هل تنفصل عنه .. لكن ما ذنبه وهو لم يخطىء في حقها وهي تخاف الله ولا تريد أن تظلمه معها .. فأصبحت في أعماقها تمنى موته لكي تتحرر من حياة لا تجد فيها سعادتها ولا تتحمل وزر الطلاق وأصبحت تعاشره وهي تتمنى أن يفرق بينهما ملك الموت رغم حبه وحسن معاشرته لها .

 

 هذه هي الرسالة التي اخترت لها عنوانا "السائرون نياما" وانتقدت في ردك عليها أن يمضي الإنسان في طريق يعلم من البداية تماما أنه لن يحقق له سعادته ومع ذلك يسير فيه كأنه قدر مكتوب عليه مع أنه يملك حياته وإرادته ويستطيع أن يرفض ما لا يجد فيه نفسه وسعادته ، وانتقدت قبولها للزواج منه من البداية وهي لا تضمر له أي نوع من المشاعر العاطفية .. ونصحتها بعد ذلك بألا تستجيب لهواجسها .. وأن تحاول أن ترى فيه الجوانب المضيئة مؤكدا لها أن الحب قد يولد في لحظة سحرية تكون فاصلا بين المعاناة والسعادة.

 واسمح لي أن اقول لك أني لم أكن من قراء هذا الباب لكن خطيبتي كانت ومازالت من القارئات المواظبات وبعد أسبوعين من نشر هذه الرسالة فوجئت بخطيبتي وهي إنسانة رقيقة ومهذبة وجميلة تطلب مقابلتي لأمر هام .. فذهبت للقائها وأنا امني نفسي بجلسة سعيدة معها كعادتي منذ أعلنت خطبتي لها منذ سنة .. ومنذ حملت لها في قلبي كل هذا الحب الصادق.

 وقابلتها ففوجئت بها ساهمة تتهرب من نظراتي وتريد أن تتكلم .. ثم تسكت .. ثم أخيرا تكلمت فقالت لي بعد شرح طویل .. أنها لم تحبني طوال شهور الخطبة وأنها لا تحمل لي سوى مشاعر الأخت تجاه أخيها وأنها ظلت تغالب شعورها هذا ٤ شهور ولا تريد أن تجرحني أو تؤلمني ولم تكن تعرف كيف تتصرف حتى قرأت هذه الرسالة اللعينة فتأكدت من أنها لا تريد أن تسير نائمة إلى حياة لن تجد فيها سعادتها ولن تجد فيها الحب فتجد نفسها بعد قليل تتمنى لي الموت وهي تعيش معي تحت سقف واحد كما تفعل الزوجة كاتبة الرسالة وسمعت هذا الكلام يا سيدي .. فأحسست بالبرودة تسري في جسمي حتى أصبحت أطرافي مثلجة فانا لم أر من خطيبتي طوال الشهور الماضية سوى الابتسامة الرقيقة .. وحين استطعت أن استجمع أفكاري ناقشتها في الأمر وحاولت أن اعرف منها أسبابا أخرى لفسخ الخطبة .



 

ولكاتب هذه الرسالة أقول :

 نعم يا صديقي فإن ما فعلته فتاتك معك هو الصواب بعينه وإن كان مؤلما لك فالخطبة في النهاية ليست سوى مشروع لحياة مشتركة .. وكل مشروع قابل للفشل وللنجاح بنفس الدرجة .. ولاشك أن الاعتراف بالأمر الواقع والتسليم بفشل المشروع في الوقت الملائم أفضل كثيرا من الإصرار على المضي فيه وهو يفتقد أهم أسباب النجاح والاستمرار كالارتباط العاطفي المتبادل واقتناع كل طرف بأنه لا يريد من الحياة سوى الأخر إذ ما أكثر المآسي التي ترتبت على إقامة البنيان فوق أسس واهية .. فإذا كانت النهاية محتومة فمن الحكمة أن يقلل الإنسان من خسائرها ومن ضحاياها أيضا .. ومهما كانت آلامك النفسية الآن فهي أهون كثيرا من الفشل بعد الزواج وبعد الإنجاب .. وأهون كثيرا من تجرع كأس التعاسة المريرة وأنت تحيا مع من لا يشاركك مشاعرك ، وتصحو وتتحرك وتتنفس تحت أنظار من لا يرى فيك أمله وعزاءه وسلواه، فهذا هو الجحيم الحقيقي وليس ما تعانيه الآن، ولا ذنب لك فيما جرى .. وليس مما يعيب الإنسان أن يحمل قلبه الحب لمن لم يبادله مشاعره .. لكن ما يعيبه حقا هو أن يقبل الارتباط به وهو يعلم تماما أن شرارة حبه لم تولد في قلبه .. وأن كلا الطرفين يخاطب شريكه على موجة مختلفة، فتتبدد مشاعره في الأثير ويحس بغصة لا تفارقه طوال حياته .

 

 وأنت لا تستطيع أن تغير من الأمر شيئا فالأمر كله بيد خالق القلوب الذي يجمع بينها أو يفرقها ولا يستطيع أحد مهما أوتي من مهارة أن يغرس حبه في قلب أحد ما لم يتفجر هذا الحب من تلقاء نفسه كما تتفجر مياه الينابيع العذبة بغير تدخل من أحد .. والحياة يا صديقي هزائم وانتصارات، وعلينا دائما أن نتعلم كيف نتقبل هزائمنا الصغيرة فيها بصبر وفروسية واحتمال كما نسعد بانتصاراتنا ونفخر بها .. فهذا هو الوجه الآخر للعملة . ولا تخلو حياة إنسان من هزيمة أو هزائم لكن المهم هو أن نعرف كيف نتقبلها وكيف نتعامل معها .. وكيف ننظر للأمر كله من عل فنراه في حجمه الطبيعي مجرد عثرة من عثرات الطريق وما أكثرها علينا أن ننهض منها ونواصل المضي إلى أهدافنا ولا مجال هنا لأن يقول أحد ما قالته الأميرة عايدة حين توهمت موت راداميس: "إذن سابكي إلى الأبد" ..  لأن الحياة لا تتوقف عند أحد .. وإنما تتجدد دائما كمياه الأنهار . ونحن لا نلقى في حياتنا من الم .. إلا ويكون لنا عوض عنه في سعادة موعودة في علم الغيب .. ولولا الأمل في هذه السعادة الغامضة التي ينتظرها المعذبون لما احتمل كثيرون حياتهم .. فما أضيق العيش لولا فسحة الأمل، كما يقول الشاعر.

فانتظر نصيبك العادل من هذه السعادة ، فسوف تمسح الأيام أحزانك سريعا ، وسوف تجمعك قريبا بمن لا تكون مشاعرك تجاهه عزف منفردا من جانب واحد وعندها سوف تحمد لهذه الفتاة أمانتها وشجاعتها معك وسوف تعرف عندها أنها قد أرادت بك خيرا حين تصورت أنت غير ذلك.

رابط رسالة السائرون نياما

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1988

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات