النظرة اللائمة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992

 

النظرة اللائمة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992


النظرة اللائمة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992


 أكتب إليك عقب عودتي مباشرة من حفل خطبة إبنة أختي الكبرى وبعد أن صليت العشاء ودعوت الله أن يهديني سواء السبيل , فأنا سيدة في الأربعين من عمري تخرجت في كلية عملية بتفوق وعملت بإحدى المؤسسات وأحرزت فيها تقدما طيبا , ثم تزوجت من شاب يصغرني بعامين وكان جارا لنا , ولقد عارض أهلي في زواجي منه في البداية لكنهم اضطروا للموافقة نتيجة لاصراري في النهاية , فقد كان من أسرة مفككة فتزوج والده بأكثر من زوجة وتزوجت أمه غير أبيه وله أكثر من أخ غير شقيق فعاش مشتتا من بيت إلى بيت آخر حتى تزوجنا , وعقب إنجابي لطفلي الأول وانتهاء إجازة رعايته رفضت المؤسسة التي عملت بها تجديدها وخيرني زوجي بين العمل وبين حياتنا الزوجية فاخترت بيتي وأسرتي وطفلي حتى لا أكرر معه مأساة أبيه في التشتت بين أبوين منفصلين , ثم انجبت طفلي الثاني وتفرغت تمام لرعاية أسرتي الصغيرة فأصبح طفلاي يعتمدان علي في كل صغيرة وكبيرة حتى في دروسهما.

وللحق فإن زوجي يتكفل بكل مطالبنا ، بل ويعطيني مبلغا من المال أساعد به أمي بعد وفاة أبي , ويمدني بالمال في مناسبات أهلي المختلفة وإن كنت قد لاحظت أنه يتضرر من الذهاب معي في مناسبات عائلتي مع أن أفرادها جميعا يعاملونه كإبن لهم , وعائلتي تتكون بعد وفاة أبي من أمي وإحد عشر أخا وأختا كلهم متزوجون ما عدا شقيقا صغيرا على وشك الزواج .. والمشكلة هي أن أمي قد مرضت بعد وفاة أبي بالسكر فأصاب رجلها اليمني ما يشبه الشلل ولم يجدي معها العلاج , وأمي عمرها سبعون عاما ووزنها ثقيل وتحتاج إلى مجهود كبير للحركة والذهاب إلى الحمام وقد تنقلت بعد وفاة أبي بين بيوتنا طوال 5 سنوات فكانت تخرج من بعض البيوت بمشاكل مع أزواج البنات , أو زوجات الأبناء إلى أن استقرت منذ 4 شهور عند أختنا الكبرى الأرملة التي حكيت لك في بداية الخطاب أني شهدت خطبة ابنتها , وقد ضاقت أختنا الكبرى ذرعا بخدمة أمنا وأسمعتنا ما يجرح شعورنا وإحساس أمنا لأننا تركناها عندها خلال هذه الفترة.

فجمعت إخوتي لنجد حلا لهذه المشكلة فاقترح البعض إرسالها لتعيش في بيت أبينا الراحل على بعد ساعتين من مقر إقامتنا في رعاية أخي الأصغر وتنصل البعض الآخر من إستضافتها خوفا من الزوجات أو الأزوج , فطلبت من أخي الأصغر إحضارها لتقيم عندي لمدة شهر واحد إلى أن يحين موعد زواج شقيقنا وبعد ذلك نسوي الأمر على وضع مريح , فغضب مني زوجي لذلك وعاد معي من حفل الخطبة صامتا طوال الطريق وما إن دخلنا مسكننا حتى اتجه إلى غرفة نوم الأولاد بغير كلام.

لقد خاصمني زوجي يا سيدي لأني دعوت أمي المسنة التي تحتاج للرعاية للإقامة معنا لمدة شهر واحد إلى أن نجد حلا مرضيا لمشكلتها , وأصبح لا ينظر إلى وجهي , وبت لا أدري ماذا أفعل هل أطيع زوجي وأرفض إقامة أمي عندي لأن أولادها الذكور أحق برعايتها وخدمتها كما يقول أزواج الشقيقات أم أتمسك بدعوتها لأننا نحن البنات أحق برعايتها وخدمتها كما يقول الاخوة الذكور؟

إنني أفكر في ترك بيتي لأعيش مع أمي في منزل أبي وأخدمها فيه حتى يأذن الله في أمرها لكني لا أعرف هل هذا عمل يرضي الله حين أهجر بيتي لذلك أم لا , وأنا حريصة على إرضائه .

لقد أصبحت أشك في قيمة الحياة نفسها بل وفي جدوى عطائي لابني وتضحياتي من أجلهما وفي تربيتهما إذ ما قيمة كل ذلك إذا كنت لن أحظى منهما في شيخوختي وعند احتياجي للرعاية .. إلا بالتنصل والتهرب مني وتمني الموت لي لكي أريحهما من عبئي الثقيل , وقد إنعكست أفكاري هذه على ابني فبدأت أخدمهما وأنا متضررة بعد أن كنت أخدمهما بحب وحماس وأنظر إلى زوجي الغاضب في ندم صامت وبنفس غير راضية , فأرجو أن تهدئ من نفسي الحائرة وتشير علي بالتصرف الصحيح الذي يحفظ لأمي كرامتها ويعيد إليها نظرتها الباسمة بعد أن أصبحت نظراتها اللائمة الحزينة دائما تمزق أوتار قلبي كلما رأيتها !

 

ولكـــاتـــبه هـــذه الــرســالــة أقــــول:

 

يا إلهي .. لقد جعل إخوتك من استضافة أم مسنة مريضة حملتهم جميعا وهنا على وهن ورعتهم جميعا وهم صغار ضعاف لا يملكون من أمرهم شيئا , معضلة كمعضلة الدجاجة والبيضة التي شغل فقهاء بيزنطة بها أنفسهم ومدافع محمد الفاتح تدك عليهم أسوار القسطنطينية فلا يخرجهم ذلك عن جدالهم العقيم ! فهل إلى هذا الحد أصبحت مسألة استضافتها معضلة فقهية تختلف فيها الآراء وتتجادل كل هذا الجدال ؟

يا سيدتي يستضيفها ويصبر على خدمتها ورعايتها خيركم وأخوفكم لربه وأكثركم طمعا في رحمته وأملا في ستره في الدنيا وحسن جزائه في الآخرة .. فإن لم يكن هذا كافيا فإني أقول لك أن حقها في الكفالة والرعاية أوجب على الأبناء الذكور من البنات لسبب بديهي هو أن الأبناء الرجال هم أرباب أسرهم الذين ينفقون عليها والمكلفون بكفالة أمهم ماديا واجتماعيا ولا يجوز لنخوتهم ان ترضى لهم بأن تعيش أمهم في كفالة رجال ليسوا من رحمها وفي بيوت شقيقات لا يملكن أمرها وإنما يملكه أربابها ولا حق لأمكم عليهم سوى حق الإنسانية وحسن معاشرة الزوجات وإكرام أمهن كجزء من إكرامهم لزوجاتهم .. والفارق كبير بين الواجب وبين التطوع فإذا كان لك خمسة من الاخوة الذكور مثلا وتعذر على أكبرهم أن يضم إليه أمه بصفة دائمة ولا أقول أن يستضيفها لأن الأم لا تستضاف في بيت ابنها فليقتسم اخوتك الذكور رعايتها بحيث تقيم عند كل منهم شهرا أو شهرين بالتبادل ولتعتبر زوجاتهم رعايتهن لها قربى يتقربن بها إلى الله ثم إلى أزواجهن بل ولتستضفها أيضا من البنات من تخشى الله واليوم الآخر ويتقبل ذلك زوجها حبا وكرامة , أو تسمح ظروفهما بذلك , فإن تعذر كل ذلك فلئن تحيا وحيدة في بيت أبيكم الراحل وتتضافروا جميعا على كفالتها وتوفير من تقوم على خدمتها ورعايتها بالأجر, وتتبادلوا معا زيارتها في مواعيد دورية , لهو أكرم لها من كل هذا الهوان ما دامت بيوت الابن والابنة قد ضاقت عليها بما رحبت ولا حول ولا قوة إلا بالله !

 إن حيرتك يا سيدتي بين نداء ربك وضميرك , وبين طاعة زوجك وحرصك على عدم اغضابه كحيرة الرجل الذي جاء يستفتي الإمام مالك في أن له أبا مسافرا وقد أرسل إليه يستدعيه وهو يقيم مع أمه فأبت عليه أن تسمح له بالسفر , وسأل الإمام مالك أيهما أحق الآن بطاعته فتفكر الامام طويلا ثم لم يجبه إلا بقوله : أطع أباك .. ولا تعص أمك ! فخرج الرجل متحيرا والإمام مالك أكثر حيرة منه , ولهما الحق في ذلك ولك أنت كل الحق في حيرتك لكني لست أظن أن زوجك وهو من يسهم معك بسماحة في بعض نفقات أمك فضلا منه وكرما يمكن أن يضيق كل هذا الضيق بدعوتك لأمك للإقامة لديكم لمدة شهر واحد وفي مثل هذه الظروف الاستثنائية فالخلق السمح كل لا يتجزأ وهو رجل سمح وفاضل وأتصور أنه إنما يعتب عليك فقط عدم مشاورته في هذا الأمر قبل توجيه الدعوة , وعذرك في ذلك واضح للعيان وأرجو أن يتقبله فلقد ضقت بمراوغة إخوتك الرجال وتنصل البنات من أمكم ولم تطيقي صبرا على هوانها على الجميع فدعوتها لبيتك ولا لوم عليك في ذلك .. فتجاوزي يا سيدتي عن غضبه وتحدثي إليه في هذا الأمر واشرحي له أسبابك لأن الجفاء الصامت يعمق الخلاف ويرسب المرارة في حين أن الحوار العاقل الهادئ المشرب بالحب والمودة يذيب أعقد الخلافات .. ولا تفقدي إيمانك بالحياة وبقيمة ما تقدمين لأولادك , فالأسوياء أبرار دائما بآبائهم وأمهاتهم , وما تقدمينه لهم من عطاء هو واجب ديني وإنساني قبل كل شئ وليس إدخارا في بنك الأبناء يؤدون إليك عائده وأرباحه في الكبر , فالآباء مأمورون برعاية أبويهم وحسن مصاحبتهم في الكبر اساءوا إليهم في الصغر أو أحسنوا , وهي كلها تكاليف شرعية وواجبات إنسانية وأخلاقية , وليست مبادلات تجارية , والله في النهاية لا يضيع أجر من عمل صالحا يرضاه يا سيدتي , فكيف تخافين من أن يكرر أبناؤك معك سيرة بعض أخوتك مع أمهم ؟

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" ديسمبر 1992

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات