كتم الأنفاس .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999

كتم الأنفاس .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999

كتم الأنفاس .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999 

  

نحتاج لان نتعلم كيف نتيح لمن يعيشون معنا هامشا من الحرية الشخصية يتيح لهم التنفس بحرية لكيلا يستشعروا كتمنا لأنفاسهم‏ ..‏ ويضطروا لدفعنا بعيدا عنهم طلبا لنسمة من الهواء تحفظ عليهم حياتهم‏.‏
عبد الوهاب مطاوع


أنا سيدة في الأربعين من العمر جميلة ورشيقة وأشغل مركزا مرموقا‏,‏ وأريد أن أروي لك تجربتي لعلها تفيد الآخرين‏,‏ فلقد تزوجت وأقصد تحملت زوجي عشرين عاما كاملة‏,‏ أنجبت خلالها منه ولدين بلغ أحدهما الآن المرحلة الجامعية‏,‏ وبلغ الأصغر المرحلة الثانوية‏..‏ أما أنني قد تحملت‏,‏ فلأن عشرين عاما من عمري قد تبددت في العناء وأنا أحاول احتمال الحياة مع زوجي والصبر عليها‏..‏ فلقد كتم زوجي على أنفاسي عشرين عاما كاملة‏..‏ قضى معظمها جالسا بالمنزل بالرغم من أنه موظف‏,‏ لكنه لا يذهب إلى عمله سوى كل يومين أو ثلاثة أيام ولمدة نصف ساعة فقط‏,‏ ثم يرجع إلى البيت قبل أن يستيقظ الأبناء من النوم‏,‏ ويتفرغ نهائيا لكتم أنفاس كل من فيه‏..‏ ويتدخل في كل شيء وأتفه شيء‏..‏ كالكوب الذي ليس في مكانه والشباك المفتوح بلا ضرورة ولكي يجلس أمام التليفزيون من طلعة النهار إلى آخر الليل يراقبنا جميعا ـ وهو أمام التليفزيون ـ ويتسمع كل همسة تصدر عنا‏,‏ ثم يطلق قذائف السباب والشتائم‏,‏ ويختلق المشكلات‏..‏ ويحول كل شيء إلى قضية لا تنتهي.

 

 وهو دائما في البيت لا يغادره إلا لصلاة الجمعة ولا يزور أحدا ولا يزار وليس له أصدقاء‏..‏ فضلا عن الوجه المتجهم ليل نهار‏..‏ واللسان السليط‏,‏ وإهدار أدميتي وآدمية الأبناء حتى أمام الغرباء‏,‏ مما أدى إلى إصابة ابني الأكبر بالوسواس القهري‏,‏ وذلك بسبب خوفه الشديد من أبيه ومن لسانه‏,‏ أما أبني الأصغر فلقد انطوى على نفسه‏.‏
عشرون عاما يا سيدي لم يخرج زوجي خلالها من البيت إلا نادرا‏,‏ ولم أفتح فمي خلالها للرد على إهاناته أو حتى لعتابه‏..‏ ولم أجرؤ خلالها على فتح جهاز التليفزيون‏,‏ لأنه وحده هو الذي من حقه فتحه وإغلاقه‏,‏ وإذا رجع من الخارج ووجده مفتوحا أغلقه دون كلمة منه‏..‏ ودون همسة اعتراض مني وكل ذلك مع أنني امرأة عاملة ولي شخصيتي في عملي وناجحة وقد وصلت فيه إلى مركز مرموق بجدي واجتهادي‏,‏ أذهب إلى عملي في التاسعة وأرجع في الثالثة بعد الظهر وأقوم بكل واجباتي كزوجة وأم وربة بيت‏,‏ من طهي وغسل وتنظيف‏..‏ إلخ‏,‏ وأجد في انتظاري دائما الوجه المتجهم والسخرية والتهكم ..‏ وبالرغم من ذلك فلم أفكر في تحطيم بيتي وأسرتي لأنه لا مكان آخر لي يسعني ولا سند لي‏.‏
وبدلا من أن يقدر لي زوجي ذلك استغل ضعفي وقلة حيلتي وانعدام سندي وراح يهددني بالطلاق كل حين وبطردي من البيت مع أنني قد بددت كل ذهبي ومدخراتي في تلبية مطالب الأسرة واشتركت معه في دفع مقدم الشقة وثمن السيارة‏,‏ وشاركته في كل شيء لكيلا ينهار البيت‏,‏ وهو قابع في مكانه أمام التليفزيون يصحو من النوم ليسب ويشتم ويتصيد لنا الأخطاء ويقول لأبنه الأكبر إنه يكرهه‏,‏ ثم يرجع لمواصلة النوم‏!‏


وإلى أن تمادى زوجي في إهانتي وعدم احترام مشاعري كزوجة وطردني من صالون البيت أمام ابنة الجيران التي كانت تزورنا‏,‏ فإذا بحبل الصبر الذي ظل يقاوم كل الضغوط على مدى عشرين عاما ينقطع فجأة‏,‏ وإذا بي أهجر البيت واطلب الطلاق وأتمسك به وأنا بلا أية خطة للمستقبل‏..‏ ولا يشغلني شيء سوى التحرر من قيود الذل والمهانة‏,‏ ثم فليفعل الله بي بعد ذلك ما يشاء‏.‏


ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏

لكل إنسان قدرته على الاحتمال التي لا يستطيع تجاوزها وإلا انهار نفسيا وصحيا‏,‏ أو انفجر كالمرجل حين يشتد عليه ضغط البخار المكتوم‏,‏ فيدمر كل ما حوله‏,‏ والواضح يا سيدتي هو أنك قد بلغت نقطة الانفجار هذه بعد عشرين عاما من الصبر والاحتمال‏,‏ وليس مهما هنا أي حادث عارض هو الذي أدى إلى الانفجار‏..‏ لأن أتفه الأحداث قد يتساوى في هذا الأمر مع أعظمها‏,‏ ولأن المرجل حين ينفجر فانه لا ينفجر بسبب ذرة البخار الزائدة على قدرته على المقاومة وحدها‏,‏ وإنما بسبب الضغوط السابقة التي كانت تمور داخله قبل أن يتلقي إشارة الانفجار من هذه الذرة الزائدة‏,‏ فإذا كان الدرس الثمين الذي خرجت به من تجربتك هذه هو ألا يسكت المرء على خطأ وألا يصبر على الإذلال إلى ما لا نهاية‏,‏ فان هناك درسا آخر لا يقل عنه أهمية يمكن استخلاصه كذلك منها‏,‏ وهو أننا حتى في العلاقة بين الزوج وزوجته والأب وأبنائه إنما نحتاج لأن نعرف متى نتوقف عن الضغط المستمر على الغير قبل أن ندفعهم دفعا للانفجار في وجوهنا‏,‏ وقبل أن تنقطع خيوط التواصل نهائيا بيننا وبينهم‏,‏ كما نحتاج كذلك لان نتعلم كيف نتيح لمن يعيشون معنا هامشا من الحرية الشخصية يتيح لهم التنفس بحرية لكيلا يستشعروا كتمنا لأنفاسهم‏..‏ ويضطروا لدفعنا بعيدا عنهم طلبا لنسمة من الهواء تحفظ عليهم حياتهم‏.‏


والحق أننا قد نحتاج في هذا الشأن لأن نستعير حكمة القنافذ في الاقتراب الآمن من الآخرين حتى ولو كان هؤلاء الآخرون هم الزوجة أو الزوج والأبناء‏.‏ فلقد روي بعض الأدباء أنه قد شاهد في ليلة شديدة البرودة مجموعة من القنافذ تحاول التماس الدفء باقترابها الشديد عن بعضها البعض‏,‏ فإذا بأشواكها تؤذيها وتحول دون التصاقها فابتعدت عن بعضها البعض مؤثرة النجاة من أذى الأشواك‏,‏ فإذا بها تتأذى بالبرد الشديد‏,‏ فتعود للاقتراب من بعضها البعض مرة أخرى‏,‏ ولكن بحكمة وبحيث تستشعر حرارة الأجسام وتتجنب في الوقت نفسه أذى أشواكها‏,‏ وهكذا ينبغي أن نفعل نحن أيضا في حياتنا العائلية والاجتماعية فنقترب من الآخرين‏,‏ ولكن بغير أن نغرس أشواكنا في أجسامهم فينفرون منا وبغير أن تؤذينا أشواكهم فننعزل عنهم‏.‏ ولقد كان أحد أسباب عجزك عن مواصلة احتمال الحياة مع زوجك إلى جانب الوجه المتجهم والتسلط الدائم‏..‏ والسباب المستمر‏,‏ هو وجوده الأبدي بينكم كل ساعات الصحو في الليل والنهار وتدخله في كل شئون الحياة وتسلطه المستمر على الزوجة والأبناء وملاحقته لكم بالانتقاد والسباب وتسقط الأخطاء مهما بدت تافهة ولا تستحق التوقف أمامها‏,‏ فكان أن شعرتم جميعا بالاختناق‏,‏ وأصيب الابن الأكبر بالوسواس القهري بسبب خوفه الدائم من الأب وانزوى الابن الأصغر متجنبا مصادر الأذى بقدر الإمكان‏..‏ ثم كان أن انفجر مرجلك أنت فطلبت الطلاق دون أية خطة للمستقبل ودون أن يكون لديك البديل الذي يوفر لك المأوى الكريم‏.

 

فإذا كنا نطالب الزوج والأب العطوف بان يتيح لزوجته وأبنائه‏,‏ بالرغم من عطفه وحسن معاشرته‏,‏ هامشا معقولا من الحرية الشخصية يتيح لهم استشعار الخصوصية ويجدد الشوق إليه ويحفظ حرارة المشاعر بينه وبينهم‏,‏ فكيف بمن لا يكون وجوده الدائم بينهم إلا نذيرا دائما بتكدير صفو الحياة عليهم وملاحقتهم بالسباب والإهانات وتصيد الأخطاء في كل حين ؟
إن العطف يدفيء قلوبنا كما تدفيء النار أجسامنا على حد تعبير المفكر الفرنسي الكبير فولتير‏,‏ ولقد خلا قلب زوجك السابق‏,‏ كما تقول رسالتك هذه من العطف على الزوجة والأبناء‏..‏ فكيف كان المصير ؟ ومتى يتعلم هو الآخر درس التجربة فيحاول إصلاح الأخطاء واستعادة الأرض التي خسرها لديك ولدى أبنائه ؟ وهل تقبلين العودة إليه إذا استشعرت حقا انه قد تعلم من أخطائه‏,‏ وأصبح أكثر استعدادا لان ييسر الحياة عليكم‏,‏ بدلا من أن يظللها دائما بهذه السحابة الثقيلة من التجهم والشقاق وتكدير الأوقات ؟

 


 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1999

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات