تحطيم الأغلال .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2000

تحطيم الأغلال .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2000 

تحطيم الأغلال .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2000

إن الأوان لم يفت أبداً لكي يتوقف الإنسان في أي مرحلة من العمر ويقرر ألا يقبل على كرامته ما لا يرضاه الحر لنفسه مهما تكن الضغوط والإغراءات.

عبد الوهاب مطاوع


ترددت أكثر من مرة في الكتابة إليك، لأنني لست شابا صغير السن يبحث عن حل لمشكلته  .. وإنما أنا للأسف رجل في قمة النضج وفى الثالثة والخمسين من عمري .. وقد تزوجت منذ 25 عاماً , وأنجبت من زوجتي 5 أبناء أكبرهم في الثالثة والعشرين وأصغرهم عمره عامان , وكنت أتمنى ألا أكون قد أنجبت من زوجتي هذه لأن أبنائي هم السبب الرئيسي فيما عانيته وتحملته منها ..

ولكي أرسم لك صورة صادقة عن زوجتي , فإني أقول لك إن طبعها يختلف عن طباع كل الزوجات , وإنها لا تأخذ أي كلمة تقال لها  بحسن نية أبدا , وإنما بحساسية شديدة دائما , وتتفنن في اختلاق المشكلات بغير أسباب حقيقية , ومن الأيام الأولى لزواجنا , وقبل أن ينتهي شهر العسل كنا نتناول طعام الإفطار في أمان , فنهضت زوجتي عن المائدة فجأة , وبعد قليل شممت رائحة كيروسين قادمة من ناحية الحمام , فاتجهت إليه لاستطلاع مصدرها , فإذا بي أرى زوجتي هذه وقد سكبت الكيروسين على جسمها وملابسها  وتبحث عن علبة الكبريت !

وكانت أزمة كبرى تدخل فيها الأهل والوسطاء , ومنذ ذلك اليوم خيم النكد على حياتنا حتى أصبحت أغادر البيت والنكد يصاحبني , وأرجع إليه لأجده في انتظاري .

 

وجاء الأبناء واحداً بعد الآخر .. واستقرت طبيعة الحياة بيننا على ما سارت عليه من البداية للأسف . ونجحت زوجتي في إعدام شخصيتي وإهدار كرامتي كأب أمام أبنائه .. فذات يوم دفعتني بقوة , فسقطت على الأرض , وتركتني أتوجع من شدة الألم أمام الأولاد .

كما طلبت منى " نزع يدي " من عملية تربية الأبناء منذ جاء أول مولود , وفرضت هي سيطرتها على كل أفراد الأسرة . وأصبحت صاحبة الأمر والنهى في البيت والأسرة وشئون الأبناء وكل شيء.

إلى جانب مطالبها التي لا تنتهي ولا تتناسب مع دخلي الشهري , فإذا رفضت لها طلباً علا صوتها ليسمعه الجيران والمارة .. وإذا وجدت هي أحد أخواتها قد اشترى لنفسه شيئا فلابد لها من أن تشتريه وترهقني بثمنه ولو لم نكن في حاجة إليه, لأنها مصابة بداء الغيرة الشديدة من الآخرين , كما أنها مغرمة بأن تعايرني دائما بالآخرين , وتحدثني عما اشترى فلان , وعما جاء به فلان , ومنهم التاجر الذي لا يقاس دخلي بدخله , ورئيس مجلس الإدارة الذي يتقاضى أضعاف مرتبي كموظف عادي .

 

ولا أريد أن أطيل عليك بالتفاصيل المخجلة عن نمط حياتي معها وعلاقتها بي, ولكن يكفى أن أقول لك فقط إنها حين تريد إيقاظي من النوم , فإنها لا تهزني برفق في كتفي كما تفعل الزوجة التي تعرف ربها .. ولا تقول لي : اصح يا حبيبي كما تفعل الزوجة المحبة .. وإنما تركلني بقدمها وتصيح في ّ : قوم .. إياك ما توعى تقوم !

و إذا جاءنا ضيوف , فإنها لا تدع لي الفرصة للجلوس معهم وإذا فعلت , ولو بطريق الخطأ , فإن الشجار والنكد سوف ينتظرانني بعد انصرافهم , كما أنها لا تسمح لي بالذهاب إلى عملي إلا بعد استئذانها , وإذا تصادف وتأخرت في العودة لأي سبب طارئ فتحت لي محضرا , وهات يا سين و جيم , و يزداد النكد أضعافاً مضاعفة , فضلا عن أنها كثيرا ما تستفزني بأقوال من نوع : لو كنت رجلاً اخرج ولا تعد مرة أخرى .

أو لو كنت رجلاً تزوج !  وهل تظن نفسك رجلاً ؟ إلخ .. حتى أنني أقوم بغسل الأطباق والحلل وتنظيف الشقة , وغير ذلك كثير وكثير , وقد اختتمته زوجتي أخيراً بهجرها لفراش الزوجية , مع أنى قد تحملت 25 عاما لم أشعر خلالها بالراحة النفسية وراحة البال , وصبرت على النكد وإهدار كرامتي وشخصيتي أمام الأبناء والأقارب والغرباء .

 

ولقد كان من نتائج إبعاد زوجتي لي عن شئون أبنائي أن سار الابن الأكبر في طريق خاله .. وهو طريق معوج ووقع في مشكلة قضائية كان السبب الرئيسي فيها شقيق زوجتي .. ولا غرابة في ذلك , فقد كنت أرى الخطأ بعيني وأسمع عنه من الآخرين ولا أستطيع أن أفعل شيئا , كما بدأ الابنان الثاني والثالث يسيران في الطريق نفسه وأنا عاجز عن فعل شيء لأن أمهم قد منعتني من تربية أبنائي وهم صغار .

إنني أعرف أنك " ربما " تلومني أنا في البداية لأنني قد أعطيتها الفرصة لكل ما فعلته طوال 25 عاماً من الزواج ..  لكن الأوان قد حان الآن لأن أتحرر مما أنا فيه وأشعر بنفسي كرجل مثل غيره من الرجال له شخصيته القوية وكرامته , وحقوقه المشروعة كزوج , فلقد ضاق صدري وفرغ صبري على هذه الزوجة التي كثيراً ما فكرت في التخلص منها لولا خوفي على أطفالي الصغار منها , وأقسم لك في النهاية أن كل كلمة ذكرتها لك عنها صحيحة ولا مبالغة فيها .. فماذا أفعل ؟

 

 

ولكاتب الرسالة أقول :

 

ليتك لم تشم رائحة الكيروسين قبل أن تعثر زوجتك على علبة الكبريت في ذلك اليوم المشئوم من شهر " عسلك " معها !

وأغلب الظن أنه لو كان ذلك لما انتحرت أيضا, ولا أعفت الحياة من وجودها فيها , وإنما كانت قد فقدت فقط فاعلية إحدى وسائلها المبكرة للسيطرة عليك وقهر إرادتك وإرغامك على قبول ما لا تحب لنفسك على نحو ما فعلت معك على مدى 25 عاما!

ولا عجب في ذلك لأن من تقدم على الانتحار حرقا لا تبدأ بسكب الكيروسين على جسمها ثم تبدأ في البحث عن الكبريت , لكي تصل رائحة الكيروسين الفواحة إلى من يهمه الأمر , فيهب لإنقاذها , وتحقق هي الهدف من المحاولة , ويتكرس الخوف في نفسه من مخالفة رغبتها فيما بعد لكيلا تكرر واقعة الانتحار وتكون كارثة جديدة .. ناهيك عن استخدامها فيما بعد للأساليب الأخرى في الترهيب والترغيب لقهر إرادة الزوج وإذلاله !

فما هذا الذي ترويه عن نفسك وزوجتك وأبنائك يا رجل وبأي أعذار سوغت لنفسك الصبر على كل هذا الهوان .. حتى اختتمته زوجتك بهجرها لفراش الزوجية .. فإذا بالصبر قد نفد , والصدر قد ضاق بما فيه , وشعرت بأنه قد آن الأوان لان تحطم قيودك وتتحرر مما أنت فيه !

 

أغلب ظني أن هجرها المتأخر لفراش الزوجية كان الشرارة التي أشعلت النار فيما بقى من صبرك عليها وقضى عليه , أما حكاية الحرص على مصلحة الأبناء كمبرر للصبر وقبول الإهانة وإهدار الكرامة على هذا النحو المؤسف , فإنها لا تبدو لي في قصتك مبررا مقنعا ً .. ذلك أن الكتاب يقرأ من عنوانه, ولقد أتيحت لك الفرص العديدة لقراءته من شهر العسل والشهور الأولى من الزواج , وخلال ما يقرب من العامين اللذين سبقا إنجابك لأول أطفالك , ولم تنتهز الفرصة وتنج بكرامتك وحياتك من هذا الشقاء .. كما كان بمقدورك أيضا وقد خبرت شخصية زوجتك , كأن تقلل من روابطك بها حتى بعد إنجاب الطفل الأول والثاني .. أما أن تواصل الإنجاب منها حتى ليقل عمر أصغر الأبناء عن عامين , فلا معنى له إلا أنك لمتصبر على ما لاقيته منها من أجل هؤلاء الأبناء .. وإنما لأسباب أخرى .

وعلى أية حال , فإني لست في حاجة إلى تأكيد موقفي وإيماني بأن من واجب الآباء والأمهات أن يصبروا على شركاء الحياة حرصاً على سعادة الأبناء واستقرارهم , لكن الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول لنا على الناحية الأخرى إنه " ما من عام إلا وخصص , حتى هذه القاعدة نفسها ! "

وهو المعنى نفسه الذي ردده المحدثون فيما بعد , حين قالوا إن لكل قاعدة استثناء .. وأنت يا سيدي هذا الاستثناء من القاعدة التي أؤمن بها , ويدعوني ذلك لأن أقول لك : إن الزوجة التي تمتهن كرامة زوجها وتتلذذ بفرض سيطرتها عليه وإذلاله وإهانته أمام أبنائه والأقارب والغرباء , ولا توقظه من نومه إلا ركلا بالأقدام , وتحرم عليه مجالسة ضيوفها كأنه عار شخصي لا يصح إطلاعهم عليه , وتكف يده عن شئون أبنائه لكي تنفرد دونه بتنشئتهم على قيمها الفاسدة , حتى ليقع أحدهم دون الآخر على هذا النحو المذل اعتمادا على استشعاره لواجبه الأخلاقي تجاه أبنائه , وإلا تحول الأبناء إلى سيف بتار في يد أقل الطرفين حرصاً على مصلحتهم ورعاية لحقهم عليه .

 

كما أنه ليس من مصلحة مثل هؤلاء الأبناء في النهاية أن ينشأوا في كنف أب مقهور الإرادة ومهدر الكرامة مع أمهم , فتهتز قيمهم الأخلاقية ومثلهم العليا , ويخرجوا إلى الحياة بمفاهيم فاسدة , وحال ابنك الأكبر وأخويه خير دليل على ذلك ... فبأي مبرر إذن يمكن الاستمرار في تجرع مثل هذا الهوان ؟

لقد فهمت من رسالتك أن زوجتك تعيش في بيت يقيم به أهلها ... وعلى هذا الأساس , فلن تكون مأساة تربوية عظمى في أن تتحرر أنت بالفعل من أغلالك معها وتسترد إحساسك بنفسك كرجل .

وإذا كان الأوان قد فات لأن تفعل مع زوجتك ما قام به الشاب قوى الشكيمة بترشيو في مسرحية " ترويض الشرسة " لشكسبير حين استفزته شراسة الابنة المدللة كاترين , فتزوجها عامداً لكي يروضها ويهذب جموحها ويرغمها على احترام الزوج , ونجح في ذلك بالحيلة والذكاء وقوة الشخصية , حتى أصبح في النهاية يشير إلى الرجل العجوز ويقول له محييا ً : يوم سعيد أيتها الآنسة الجميلة الرقيقة ! ويطلب من زوجته أن تحييها , فتسترجع ذكريات زمجرته في وجهها عند مخالفتها لإرادته وتسرع على الفور بتحية الآنسة وإطراء جمالها !

إذا كان الأوان قد فات على ذلك , ولا هو المطلوب بالفعل في العلاقة المثالية بين الزوج والزوجة , فإن الأوان لا يفوت أبداً لكي يتوقف الإنسان في أي مرحلة من العمر ويقرر ألا يقبل على كرامته ما لا يرضاه الحر لنفسه مهما تكن الضغوط والإغراءات . فاستجمع إرادتك وحاول محاولتك الأخيرة اليائسة لفرض شخصيتك على زوجتك كزوج كامل الحقوق والأهلية لها , وكأب للأبناء ورب للأسرة وربان لسفينتها ,

فإن لم تستجب لك , وما أظنها ستفعل , فأقبل تحديها لرجولتك .. وانفصل عنها ... وتحمل مسئوليتك الأبوية والتربوية عن أبنائك الصغار وهم في حضانة أمهم إلى أن يبلغوا سن انتهاء حضانتها لهم , ثم استقل أنت بتربيتهم وتنشئتهم وتطهير عقولهم وشخصياتهم من المؤثرات الفاسدة التي تسللت إليهم من قبل , ومن يدرى فلقد تكتشف في نفسك إذا أقدمت على ذلك بالفعل من القوة ما لم تكون تظنه فيها , ولقد تكتشف زوجتك في نفسها حينذاك من الضعف والحاجة الفعلية إليك ما لم تكن هي تبديه أو تعترف به مكرا ودهاءً و إمعاناً في قهرك والسيطرة عليك . وشكراً !

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2000

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات