الجمال الغائب .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

الجمال الغائب .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

                الجمال الغائب .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

منذ خمسة وعشرين عاما تزوجت من سيدة فاضلة وربة بيت ممتازة وإنسانة كريمة عطوف , ولم تكن زوجتي جميلة بمقاييس الجمال العادية لكن جمال روحها وطباعها وحنانها .. كان جمالها الحقيقي الذي جعل منها في عيني أجمل الجميلات .. وكنت حين تزوجتها أعمل وقتها مع زوج أختي في عمله الخاص , لكني كنت قانعا بدخلي منه وراضيا عن رزقي فمضت أيامنا هانئة سعيدة لا يعكرها شئ , ورغم بساطة حياتنا في كل شئ فقد كنا نأكل ونلبس أفضل من غيرنا وننام قريري العين كل ليلة .

ثم جاءت ابنتنا  فملأت حياتنا بالبهجة وبعدها بست سنوات جاء ابننا فاكتملت به نعمة ربي علينا ومضت الحياة هانئة حتى بلغت ابنتي الرابعة عشرة من عمرها وحصلت على الاعدادية وفي يوم نجاحها وإعلان نتيجتها أصيبت زوجتي الحبيبة فجأة وبدون مقدمات بشلل في نصفها الأيسر , وتعكر صفو حياتنا لأول مرة وطفت بها على الأطباء بلا جدوى , وذهبت وأنا موجع القلب إلى مدرسة ابنتي لأسحب أوراقها لا لكي أقدمها للمدرسة الثانوية "كما كان الأمل في الأيام السعيدة" وإنما لكي أجلسها في البيت لترعى أمها المريضة وتقوم على خدمتها , وواصلت بعد ذلك محاولاتي لعلاجها وعرضتها على أكبر المستشفيات والأطباء وأخصائي العلاج الطبيعي .. ولم يأذن لها الله بالشفاء وسلمنا باليأس راغمين , ولم أفقد حبي لها وفي كل يوم كنت أعود من عملي في المساء فأجلس إلى جوارها أداعبها وأضحك معها .. وأسعد بضحكاتها .. ولا أدعها إلا ضاحكة مبتهجة كل ليلة .. وظللنا على هذا الحال سبع سنوات كاملة ثم وافاها الأجل المحتوم منذ عدة أسابيع ورحلت عن دنيانا , فبكيتها كما لم أبك أحدا في حياتي , وشيعتها دامع العين إلى مثواها الأخير وشيعت معها خمسة وعشرين عاما من عمري ذهبت ولن تعود بأفراحها .. وأحزانها .. وبعد رحيلها شعرت بالفراغ الكبير الذي تركته زوجتي في حياتي وحياة الأسرة كلها .. فقد كنت رغم مرضها وشللها أخرج إلى عملي كل يوم وأنا مطمئن القلب على ولدي بوجودها بينهما , وكان بيتي مفتوحا بها وبروحها الطيبة وحب الأهل والجيران لها فأصبحت الآن أخرج إلى عملي وأنا موزع الخاطر لا أعرف ماذا يفعل ولدي في غيابي .. ولا كيف يعيشان ولا فيم يفكران .. والكل مشغول بحياته وهمومه فلا أخ ولا أخت ولا عم ولا خالة يستطيعون القيام بدور الأم في رعاية الأولاد , ولو استضافهما أحد بضعة أيام .. فلن يتحمل ضيافتهما إلى النهاية , وقد أقمنا لفترة مع خالة الأولاد بعد وفاة زوجتي ثم عدنا إلى شقتنا الخالية , وخلت دنيانا ممن كانت ترعى "رغم عجزها" الجميع بحنانها وفهمها , والمشكلة الآن يا سيدي هي أني أذهب إلى عملي .. ويبقى ابني وابنتي وحيدين في مسكننا وجها لوجه حتى أعود وتنتابني الوساوس والمخاوف عليهما طوال فترة غيابي عنهما , فأدعو الله في كل لحظة أن يحفظهما من كل سوء وأن يجنبهما شرور الحياة الكثيرة وأحاول التسرية عنهما يوم إجازتي الأسبوعية باصطحابهما إلى نزهة خارج البيت وبتلبية مطالبهما مهما كانت مرهقة لي .. والكل يشيرون علي بأن أتزوج زوجة صالحة ترعى ربها فيهما وترعاهما في وحدتهما وتحميهما من أخطار السن الحرجة التي يعيشانها لكني خائف من التجربة .. وأقول لنفسي : وأين هي مثل هذه الإنسانة الخيرة .. وقد ملأ الطمع الصدور .. والصحف تطالعنا كل يوم بأخبار زوجة الأب التي فعلت كذا أو كذا ؟! ..

إنني حائر .. قلبي مع ولديّ وهما كل عمري .. وعقلي مع نصيحة الأهل خاصة وقد أصبحت في الرابعة والخمسين والعمر يمضي سريعا دون أن أدري .. فهل عندك حل من حلولك التي تأتي كالبلسم فتشفى الحيرة .. وتضمد الجراح ؟

 

 

جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"

abdelwahabmetawe.blogspot.com

 

ولكاتــب هــذه الــرســالـــة أقــــول :

 

أفضل الحلول هو ما يلبي احتياجات كل أطراف المشكلة بطريقة عادلة ويتساوى فيه العطاء مع الجزاء أو يتقاربان على الأقل .. وفي مثل حالتك فإن أفضل الحلول هو أن يوفقك ربك إلى سيدة تعيش ظروفا مشابهة لظروفك .. وتطلب في الزواج نفس ما تطلبه أنت منه , وهو الرفقة الطيبة الهادئة .. والمشاركة الانسانية في تحمل مسئولية رعاية الأبناء وحمايتهم من شرور الحياة .. ذلك أن وحدة الهدف من أهم دوافع الالتقاء والاستمرار .. كما أنه ليس من الحكمة أن نتوقع من الآخرين أن يقدموا لنا عطاءهم الإنساني لمجرد تقديرهم أو تأثرهم بظروفنا الخاصة , وإنما العدل هو أن نرغبهم أيضا في العطاء لنا بما سوف نقدمه لهم نحن من اسهام في تلبية احتياجاتهم وحل مشاكلهم .. وبمثل هذه النظرة الواقعية تصمد سفينة الحياة الزوجية للعواصف وبغيرها قد تتحطم بعد وقت قصير على صخور المتاعب.

 أما أين هي مثل هذه السيدة التي ترعى ربها في معاملة  أبنائك .. فجوابي عن سؤالك أنهن كثيرات رغم كل ما نقرأ ونسمع عن زوجة الأب القاسية , إذ كما توجد في الحياة هذه الزوجة القاسية توجد أيضا كثيرات ممن "يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون " صدق الله العظيم .. وكم من رجال ونساء بل وعظماء أيضا نشأوا في رعاية زوجات آباء رحيمات أدركن مغزى تكريم ربهن لهن بتحريمهن على أبناء الزوج مدى الحياة .. وعرفن بذلك أنهن قد صرن لأبناء أزواجهن .. وعند ربهن أمهات كالأمهات سوف يسألن عما جنين على من وضعتهم الأقدار تحت رحمتهن .. فأدين الأمانة .. واستحققن حسن الجزاء في الدنيا وفي الآخرة , واثبتن أن منابع الرحمة لن تجف أبدا من القلوب الخاشعة لربها إلى يوم الدين .. فقط يبقى أن توفقك الحياة للالتقاء بواحدة منهن .. فأبحث عنها بلا تردد مادمت تحس بحاجتك إلى الزواج .. ولا يعترض عليه أبناؤك ..

وأكتب إلي بالمزيد من بياناتك أو تفضل بزيارتي مساء الاثنين القادم .. ولابد أن يكافئك ربك ذات يوم قريب عما قدمت لزوجتك الراحلة من وفاء بمن تسعد أيامك وتخفف عناء وحدتك .. وتتقاسم معك مسئولية أبنائك وأبنائها .. وتتساندان معا في مواجهة أنواء الحياة .. وشكرا .

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" سبتمبر 1993

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 

 

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات