الحية الرقطاء .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 

الحية الرقطاء .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

الحية الرقطاء .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993


 دفعني إلى الكتابة إليك ما بداخلي من حزن عميق وخوف من هذا الزمن وما يخبئه لنا من أهوال لا نعرفها .. فخالتي سيدة مسنة تعدت السبعين من عمرها وهي أم فاضلة كافحت مع زوجها كفاح الأبطال لتربية أبنائها وهم ٣ بنات وولد واحد .. ثم توفي زوجها رحمه الله وأوصى بميراثه لبناته وزوجته وخص الابن الوحيد بالنصيب الأكبر منه وهذا الابن مليونير.

 

 فهل تعرف ماذا يفعل الآن يا سيدي ؟ إنه يذهب إلى مسكن والدته ويحاول اغتصاب شقتها التي تعيش فيها وحيدة مكرمة معززة تزورها بناتها وأزواجهن وأطفالهن فيها لكي يفتتح فيها شركة، ويريد أن يضع أمه التي كافحت لتربيته في دار للمسنين ليستولي على الشقة ووالدته ترفض مغادرة بيتها لأن كل شبر فيه ارتبط بحياتها وذكرياتها ورحلة السنين وجدرانه تؤنس وحدتها في شيخوختها، وجيرانها فيه يرعونها ويقضون لها طلباتها ومشترياتها لأن ابنها الوحيد الذي يقيم قريبا منها لا يزورها ويبخل عليها حتى بالسؤال وأداء أي خدمة لها.

وحين تمسكت والدته برفضها مغادرة البيت حضر هذا الابن إليها وأوسعها ضربا وركلا وشتما حتى سقطت مغشيا عليها ولم ينقذها منه سوى جيرانها الذين سمعوا صراخها فاندفعوا إلى شقتها وحالوا بينه وبينها وكادوا يفتكون به فلم ينقذه منهم سوى والدته نفسها حين أفاقت ! وانصرف الابن البار مودعا بالازدراء والاستنكار ولم يكتف بذلك فراح يتوعد أمه بأنه سوف يطردها من بيتها شر طردة ويودعها مستشفى الأمراض العقلية .. وهي تعيش الآن في رعب وتبكي ليل نهار خوفا من عودة ابنها وتنفيذه لوعيده لها وأرجوك يا سيدي أن تكتب كلمة لهذا الابن لكي يرجع عما يريد وكلمة أخرى لهذه الأم تهدىء من مخاوفها ولك منا كل الشكر وكل

التقدير.

 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

لا يا سيدتي لن اكتب لهذا الابن العاق كلمة واحدة بل ولا حرفا واحدا .. فمثله لا تجدي معه الكلمات كما إنها أيضا خسارة فيه وذلك لأننا لا نتكلم مع الأحجار ولا نتحاور معها أو نذكرها بنواهي الدين وأوامره وإنما نخطو فوقها في صمت إذ اعترضت طريقنا أو نزيحها عنه لنجنب الآخرين الاصطدام بها كما نزيح الأذى عن الطريق.

والابن الذي يمد يده إلى أمه بالأذى لا سلمت يداه .. ليس من البشر الذين نتخاطب معهم ولو كانوا مخطئين، وإنما هو من الجناة الذين نتخاطب بشأنهم مع الجهات المختصة لكي تردعهم وتحمى الضعفاء من شرهم.

فاكتبي إلي باسم هذه السيدة وعنوانها واسم ابنها الفاضل المليونير الذي طرح أمه أرضا طمعا في عرض الدنيا الزائل الذي سيئول إليه بعد حين وسوف أقدم بلاغا ضده باسم بريد الأهرام للجهات المختصة واطلب حماية هذه الأم البائسة من ابنها الضال وسأتابع أمرها حتى تأمن على نفسها منه وتعيش أيامها في سلام بإذن الله، وإن كنت أشفق عليها مما تحسه من مرارة وهوان وهي ترى "طفلها" الذي حملته وهنا على وهن وقلبته مرارا بين يديها وهو قطعة من اللحم الطري لا تدري من أمر نفسها شيئا، وقد توحش عليها في شيخوختها وغرس أنيابه في لحمها.

وكفى الإنسان مهانة ألا يرقى أحيانا في علاقته بأقرب الناس إليه إلى مستوى الوحش الكاسر الذي تسيره غرائزه وتهديه إلى أن يتجنب إلحاق الأذى بأبويه وهو من ميز الله الإنسان عليه وعلى كل مخلوقات الأرض بالعقل.

أما والدته فماذا عساي أن أقول لها سوى صبرا يا سيدتي على انحطاط الإنسان أحيانا إلى ما دون مستوى الوحوش الكاسرة، وليكن لك في بناتك وأقاربك وجيرانك الذين يحبونك ويشفقون عليك بعض العزاء عما تحسین به من مرارة وقهر بسبب جحود ابنك لك .. وقديما قال الملك لير في مسرحية شكسبير الشهيرة : ليس أسوأ من حيّة رقطاء سوى ابن جحود .. وما أبشع حيات هذا الزمان الرقطاء.. وما أقسى شقاؤنا بها.

 نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" ديسمبر 1993

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات