شاي الغروب .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 

شاي الغروب .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

                شاي الغروب .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

أنا سيدة في الرابعة والثلاثين من العمر أعمل بمهنة راقية، تزوجت وأنا في الثالثة والعشرين من عمري بعد قصة حب دامت أربع سنوات وعشت مع زوجي حياة سعيدة راقية .. لم تشبها شائبة .. اللهم إلا القليل من حبه للتملك لأنه رجل وحيد بين أربع أخوات وأمه التي ترملت منذ زمن بعيد ومع ذلك فلم يمثل لي مشكلة لأني منحته كل ما يريد وما يشبع به هواية حب التملك عنده .. لكن المشكلة الحقيقية بدأت مع بداية رحلتي مع الأطباء أملا في انجاب طفل تكتمل به سعادتنا , وقد كانت رحلة مشتركة بيني وبين زوجي , ولم أشعر فيها بأي إهانة من جانبه , لكن ثورة أهله هي التي كانت شديدة وصاخبة .. فهو في نظرهم الرجل الوحيد في الأسرة الذي سيخلد اسمها وستتواصل به ذريتها .. فبدأ أفراد الأسرة يهاجمونني .. وبدأت نظرات الكراهية تلاحقني من صغيرهم وكبيرهم , وأصبح هذا الموضوع حديث العائلة الذي يتحدثون به على الملأ في كل مجلس وكل مناسبة اجتماعية , وكل عيد يجتمع فيه شمل الأهل والأصدقاء .. حتى كرهت الأعياد والمناسبات والأفراح وزهدت في الاختلاط بالناس حتى لا أسمع منهم ما يؤلمني , وأصبحت أنا وزوجي في حيرة من أمرنا , ينظر كل منا للآخر نظرات صامتة لا نعرف إذا كانت نظرات حب أم اشفاق أم حسرة على الأيام السعيدة الماضية , ثم قامت الأم بالدور الحاسم في القضية , وأدعت المرض والحالة النفسية وأنها ستموت إذا لم يرزق ابنها بوليد .. وتحت ضغط هذه الظروف كلها تم الطلاق بدون وعي من كلينا , وبعد زواج دام عشر سنوات .. وافترقنا وكل منا يحمل قلب الآخر بين جنبيه .. وبعد أيام من الطلاق سمعت من الأصدقاء أنه قد انتابه حاله نفسية ودخل المستشفى .. فجن جنوني واسرعت إلى هناك لاطمئن عليه لكن أهله حالوا دون دخولي غرفته وسمعت منهم توبيخا واهانات دفعتني للتراجع والعودة حسيرة .

وبعيدا عن كل ما أعانية من أحزان على حبي الضائع وعمري الذي ذهب سدى فإني أصل في رسالتي لك إلى مشكلة حياتي الأساسية الآن .. فلقد غادرت بيتي الذي شهد أحلى أيام عمري لا أحمل معي سوى القليل من ملابسي , وتركت ورائي فيه أثاثي الذي دفعت فيه كل ميراثي , لكي أيسر على نفسي إيجاد المأوى الذي سأقيم فيه بدون كراكيب تزعج من سأنضم إليهم , فواجهت المشكلة التي لم أتصور أني سأجدها قاسية ومؤلمة إلى هذا الحد .

فلي شقيقتان ومتزوجتان وقد قابلتا خبر طلاقي بالحزن والأسف والبكاء , ثم انتهى دورهما عند هذا الحد وما كانتا تملكان لي أكثر من ذلك .. فهما سيدتان والكلمة الأخيرة في بيت كل منهما وفي كل بيت للرجل .. وكل بيت في النهاية لا يتسع سوى لأهله وبصعوبة أيضا .. لهذا حملت همومي وحقيبتي وذهبت بخطوات ثقيلة مترددة إلى بيت أخي الأكبر والوحيد , إذ ليس لي من ملجأ غيره .. فرحب أخي بإقامتي مع أسرته من باب الاحساس بالواجب والمسئولية , لكن زوجته تقبلتني على مضض وعاملتني أسوأ معاملة رغم أنه لم يكن بيننا من قبل أية عداوة , بل كانت علاقتي بها دائما عائلية وهادئة قبل طلاقي .. ولم تكتف زوجة أخي بنفورها مني , وإنما زرعت في نفوس أبنائها هذا الضيق بي , مع أنهم في سن أبنائي لو كان الله قد أراد أن أنجب البنين , وحيال ذلك لا مفر لي من التحمل والصبر وقضاء اليوم خارج البيت حتى لا أقضي عندهم سوى وقت النوم فقط .

ومع ذلك فلقد كنت أسمع دائما الشجار والضجر المستمر من اقامتي معهم في مشاداتها مع أخي , وكلما زاد ضيقي وخجلي وكربي لم أجد مهربا أهرب إليه سوى قبر أبي وأمي أبكي أمامهما وأشكو لهما من غدر الأيام , وكيف أصبحت ضيفة ثقيلة على بيوت الأهل , بعد أن كنت سيدة بيت جميل واسع وأستضيف فيه الأسرة كلها لقضاء اليوم بأكمله في ضيافتي ابتداء من تناول الافطار بالحديقة إلى تناول شاء الغروب في ظل أشجارها .. وأشكو لهما ما أحسه من ضعف بعد ما كنت عليه من شعور بالقوة , حتى ضاقت بي الدنيا وأصبحت أتمنى الخلاص ولا أرغب في أي شئ من الحياة .. وأتعجب حين أرى أحدا يضحك أو يغني , ولعلك تسأل بعد ذلك .. لماذا أكتب لك هذه الرسالة , والحق أنني لا أكتبها من أجلي لأني قد انتهيت ولم يعد لي أمل في شئ , لكني أكتبها من أجل ما يعانيه من في مثل حالتي وسوف يعانيه منها في المستقبل .. إذ أين حماية القانون والدولة للمرأة المطلقة غير الحاضنة ؟

إن القانون لا يهتم إلا بأمر المطلقة الحاضنة لأطفالها فيلزم الزوج بتوفير مسكن مناسب لها في حالة الطلاق , أما في حالة غير الحاضنة فإنها لا تستحق سوى نفقتها وليس لها أي حق بعد النفقة في أي شئ ولغير أي سبب سوى أنها لم تنجح في تحقيق أمومتها ولم تنجب من زوجها .. ألا يكفيها حرمانها من الانجاب حتى نحرمها أيضا من حقها في أن تعيش في مأوى خاص بها يشعرها بآدميتها وأنها ليست شيئا منبوذا ولا ضيفا ثقيلا على الأهل والأقارب ؟

وهل تراني محقة في مطالبتي بتوفير هذه الحماية للمرأة المطلقة غير الحاضنة خاصة إذا لم تكن هي التي طلبت الطلاق أم ترى أن معاناتي مع تجربتي الخاصة هي التي تدفعني لأن أعطي هذا الأمر ما هو أكثر من حجمه ؟

ربما يكون الأمر كذلك فعلا .. لكني أكتب لك هذه الرسالة وأنا جالسة في سيارتي تحت شجرة في أحد شوارع القاهرة .. لأنني لا أجد مكانا آخر أستطيع أن أختلي فيه بنفسي غير هذا المكان .. أفلا يجعل لي ذلك بعض الحق في التفكير في ضرورة حماية الدولة والقانون للمطلقة غير الحاضنة أسوة بأختها المعذبة الحاضنة لأطفالها .. وكلتاهما في الهم والحزن سواء ؟

جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"

abdelwahabmetawe.blogspot.com

 

ولـكــــاتـــبة هـــذه الــرســـالـــة أقـــول :

 

ليت القانون والدولة يستطيعان حماية كل إمرأة وكل رجل من أبنائه مهما كانت ظروفهما , لكن هناك للأسف مجالات لا يستطيع القانون ولا تستطيع الدولة حتى ولو بلغت من الرفاهية والوفرة أقصى حدودهما أن تنظمها , هي مجالات العلاقات الإنسانية التي لا يفلح في تنظيمها بما يحفظ كرامة الإنسان سوى قانون واحد هو قانون السماء .. فبغير هذا القانون الإلهي المتمثل في القيم الدينية , والذي يسمع الإنسان صوته من داخله هو وليس من خارج لا يستطيع قانون وضعي مهما بلغ من شدته أن يتحكم في نوازع النفس البشرية أو يذكرها بفضائل التعاطف والتكافل ومراعاة مشاعر الآخرين وضرورة  مغالبة النفس وردها عن صغائرها .. والصبر على ظروف الآخرين إلى أن تتغير إلى الأفضل بغير أن نجرح كرامتهم .

والحق أننا لو تفكرنا في عديد من الفضائل التي تكسب الإنسان احترام الآخرين وحبهم لوجدناها تتعلق جميعا بمغالبة النفس والصبر على ما نكره .. فالكرم مثلا مغالبة لنزعة الاستئثار والأنانية , وأداء الواجب مغالبة لنزعة إيثار الراحة , والصبر مغالبة لهوى النفس في الافصاح عما تضيق به , وتحمل المسئوليات العائلية والإنسانية تجاه الآخرين , والالتزام بأوامر الأديان ونواهيها , هي في مجموعها مغالبة لنزعات النفس وتفصيلها للدعة .. والراحة .. واللذة والمتعة وحب الذات وحب الامتلاك .. إلخ.

 لهذا فهي " تكاليف" لا يقوى عليها إلا أصحاب النفوس الكبيرة , ويفقد صبرهم عليها أصحاب النفوس الصغيرة فيبوءون بإزدراء الآخرين .. وقد يتعجب بعضهم أحيانا من أن الآخرين لا يحبونهم ولا يحترمونهم كأنهم يحسبون أنهم كانوا يستطيعون ألا يحرموا أنفسهم من أي شئ ترغبه وتهواه من لذائذ الحياة بغير جهاد للنفس ولا صبر على المكاره .. ثم تمنحهم الحياة بعد ذلك أيضا جوائز الصابرين ومن جاهدوا أنفسهم وردوها عن نزعاتها وصغائرها وتحملوا الحرمان من لذائذ كثيرة .. وموقف زوجة شقيقك مثال لهذا العجز عن مغالبة النفس عما تضيق به والصبر عليه إلى أن تتحسن الأحوال , كما أنه مثال أيضا لقصر النظر وتفضيل الراحة العاجلة .. على الراحلة الآجلة ومعها حب الآخرين واحترامهم وجوائز السماء والأرض .. وبالرغم من التماسي لبعض العذر لها ربما لضيق المسكن أو لرغبتها المشروعة في الاستقلال بمملكتها , فلقد كانت تستطيع أن تكون من أصحاب النفوس الكبيرة فتقدر موقف زوجها الذي لا يستطيع أن يتخلى عن شقيقته في محنتها , وهو رجل الأسرة الوحيد , وأن تصبر على احتمال ضيافتك بغير أن تجرح مشاعرك وتشعرك بضيقها بك .. وأنت لم يمض على طلاقك سوى شهور , ولابد سوف تبدئين حياة جديدة اليوم أو غدا وتنتقلين إلى بيت تستقلين به .. فتأسرك وتأسر زوجها وشقيقتيك وكل الأسرة بحسن معاملتها لك وتنال أحترامهم وحبهم وتضيف ما فعلت معك إلى رصيدها عند الجميع .. وهذه هي جوائز "التكاليف" التي قد تبدو مرهقة للنفس , لكن عائدها لا يضيع أبدا في الأرض ولا في السماء ولا ينال الإنسان حب الآخرين واحترامهم بغير تحملها والصبر عليها.

وما أكثر الهفوات التي كنا نستطيع أن نتجنبها لو كنا قد تسلحنا ببعد النظر وعرفنا أنه لا شئ يدوم على حال واحد للأبد .. فراودنا أنفسنا على أن تصبر على ما تضيق به وأعفيناها بذلك منه أن نضعها فيه , ولم يكن يكلفنا ذلك إلا قليلا من الصبر ومغالبة النفس وردها عن الاستسلام لنوازعها , لكن قليلا ما نفعل للأسف ونادرا ما نعفي أنفسنا من الخجل ولوم النفس على أنها لم تترفع عن الصغائر قبل وبعد فوات الأوان , وفي مجتمع آخر غير مجتمعاتنا العربية والشرقية لم تكن ظروفك لتمثل أية مشكلة لسيدة مطلقة تعمل وتركب سيارة وتستطيع أن توفر لنفسها مسكنا مستقلا , لكنك محكومة بظروفنا وتقاليدنا التي لا تقبل هذا الوضع ولا ترحب به , لهذا فلا مفر لك من أن تعيشي تحت مظلة أسرة من أسر الأهل إلى أن تتغير الأحوال .

والحل الأمثل لمشكلتك لا يقدمه لك القانون ولا إعادة تأهيل الآخرين لكي يتعلموا الصبر على ما يكرهون بغير أن يجرحوا مشاعر غيرهم , وإنما يتحقق بأن تتجاوزي محنتك .. وتتخلصي من آثارها النفسية وتتطلعي إلى حياة جديدة مع إنسان آخر تقدم ظروفك له الحل الموفق لمشكلته .. وسوف يتحقق هذا الحل قريبا بإذن الله .. وستعودين سيدة بيت مستقل تستضيفين فيه الأهل والأقارب مرة أخرى على شاي الغروب في القريب العاجل بإذن الله , وعندها سوف يعض من لم يصبروا على ظروفك بنان الندم ويتمنوا في أعماقهم لو كانوا قد كرموا أنفسهم قبل أن يكرموك أنت بأعفائها من هذا الصغار , لينالوا حب الجميع وعرفانهم ووفائهم واحترامهم لهم .. وإن غدا لنظاره قريب إن شاء الله.

3 ديسمبر 1993

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة"نوفمبر 1993

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات