السفينة الغارقة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2002
الحياة الزوجية ليست دائما نزهة رومانسية في ضوء القمر ووسط شدو البلابل وأريج الزهور .. وإنما هي رحلة في بحر يصفو في بعض الأحيان فنستمتع بالنسيم المشبع برذاذ الماء وزرقة السماء ويضطرب في أحيان أخرى فنتجلد ونتشبث بشراعها، لنحميه من التمزق فتظل السفينة طافية فوق الموج العاصف .. إلى أن تنقشع العواصف .. ولولا الصبر والاحتمال في الأوقات العصيبة والتذرع بالحكمة وبعد النظر وإعلاء مصلحة ركاب السفينة من الصغار فوق كل الاعتبارات .. لما نجت سفينة من الغرق مع كل عاصفة تهب عليها.
عبد الوهاب مطاوع
فكرت كثيرا في أن أكتب إليك لكن قلقي من انتظار الرد وقتا طويلا أو من تجاهل الرد نهائيا كان يجعلني أحجم عن الكتابة إلى بريد الجمعة .. فأنا سيدة شابة عمري 29 عاما من أسرة
متوسطة .. فأبي رجل فاضل كافح لتربيتنا أنا وأخوتي الأربعة وأمي كذلك
ربة بيت طيبة.
ومنذ
تسع سنوات تزوجت وأنا في العشرين من عمري رجلا لا يعرف للرجولة أي معنى .. فكان
يعتمد على مرتبي ولا ينفق جنيها واحدا علي بالإضافة إلى سلبيته الشديدة وعدم تحمله للمسئولية
وكان يعتمد على أبي في كل شيء، حتى أنني كنت أشعر أنني متزوجة من أبي وليس من هذا
الشخص .. فلم أتحمل هذا الوضع وطلبت الطلاق منه، ورجعت إلى بيت أبي وأنا مطلقة
في الواحدة والعشرين من عمري وبين يدي طفل رضيع أنجبته منه.
وليس خافيا عليك أن الابنة حين تتزوج ثم ترجع إلى بيت أهلها مطلقة فإنها لا تتحمل
وضعها الجديد .. لأن الوالدين يتحولان بعد طلاق ابنتهما الشابة إلى سجانين لا
يرحمان أسيرهما ومع أني تفهمت أسباب ذلك وقدرت دوافعهما إليه، حيث إنهما يخشيان
على سمعة أبنتهما الشابة المطلقة.. إلا أنني عانيت كثيرا من قيود السجن
وعدم الشعور بالأمان .
وبعد فترة تقدم لي شخص سبق له الزواج وطلق زوجته لعدم الإنجاب فرحبت به
وقدرت أنه سيكون الزوج الذي يعوضني عن سوء حظي في الزواج الأول، كما قدرت أيضا
أنه ستكون لديه دوافع إنسانية لتربية طفلي واحتماله حيث لم ينجب أطفالا، فإذا
بالواقع يتكشف عن شيء مخالف لذلك ومنذ أول أيام الزواج قال لي زوجي: إنه من
الأفضل أن يقيم ابني في بيت أهلي ضمانا لراحته .. وبرغم قسوة ذلك فلقد تحاملت على
نفسي وتركت أبني يقيم مع أبي وأمي .. فلم تمض فترة طويلة حتى تشككت في أن العلاقة
بين زوجي وبين مطلقته السابقة قد رجعت، وأن هناك خيطا سريا يربط بينهما، خاصة
أنها لم تنجب من زوجها الجديد أيضا.. ثم تحول الشك إلى يقين ولمست أشياء أحرقت
دمي من كلام عنها من جانب زوجي طوال الوقت إلى اتصالات تليفونية معها ومقابلات، فلم احتمل الوضع مرة أخرى وطلبت الطلاق وخرجت من الأمر كله خالية الوفاض وبقصة
جديدة فاشلة ورجعت من جديد إلى بيت أبي بعد زواج ثان لم يدم أكثر من ستة أشهر، وتجرعت مرارة الفشل لفترة أخرى ثم تقدم لي شخص يكبرني بعشرين عاما وسبق له هو أيضا
الزواج والطلاق ولا عجب في ذلك لأن المطلقة مثلي لا تحصل سوى على بقايا الرجال،
وقد قبلت بالزواج منه بالرغم من أنه لا يملك شقة ولا أثاثا.. ورضيت بالأمر
الواقع قائلة لنفسي إنه في النهاية رجل وسوف يعوضني عما لاقيت ويرحمني من نظرات
الآخرين إلي، ومن سجن بيت والدي وتحكم أخوتي في.
وتزوجنا في شقة إيجار بالقانون الجديد..
واشترينا أثاثا بالتقسيط وقدرت ظروفه واحتملتها وحاولت أن اقترب منه لأنه الخيط
الأخير بالنسبة لي، وأعطيته الكثير من الحب والعطف والحنان لأحتفظ به, ولكي
أوثق روابطي معه فكرت في أن أنجب منه طفلا آخر يكون أخا لابني ويربطني بالرجل
الثالث في حياتي ففوجئت به يطلب مني أن أجري جراحة لاستئصال الرحم لكيلا أنجب
منه، ورفضت ذلك بالطبع فبدأت معاملته لي تسوء، وبدأ يتعامل معي بطريقة غريبة
فيرضى عني في بعض الأحيان ويرجوني باكيا أن أبقى إلى جواره وألا أتخلى عنه..
ويبتعد عني في أحيان أخرى الأسابيع ويعاملني معاملة تتسم بالإهانة.. وما حدث مع
زوجي الثاني حدث معه هو الآخر فلقد أستعاد علاقته بمطلقته وعمل معها .. فكانت
النهاية التي لابد أنك قد توقعتها ورجعت إلى بيت أبي مطلقة للمرة الثالثة.
إنني لا أعرف أين الخطأ في كل ذلك هل هو في شخصي أنا أم في الرجال الثلاثة الذين
تزوجتهم؟ أم في الظروف السيئة التي جعلتني أبدأ سلسلة من القصص الفاشلة؟.. وهل
بقي في الحياة رجل جيد أم ترى هل أنتهى زمن الرجال؟
وكيف أتجنب نظرات الناس التي تقتلني وشكوكهم المستمرة في، حيث لابد أنهم يعتقدون
أن هناك خطأ في بدليل طلاقي ثلاث مرات وأنا في التاسعة والعشرين من عمري.
لقد يئست من الأمل في النجاة ومن أن أجد في هذه الدنيا الاستقرار والأمان, ولولا
ابني الذي ظلمته منذ ولد لتخلصت من حياتي.. فماذا تقول لي وما سر هذا الحظ السيئ
الذي يلازمني في الزواج والرجال دائما؟
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
سر الفشل في هذه القصص الثلاث في عبارة موجزة هو قلة الصبر والاحتمال وهشاشتك
النفسية وسرعة تسليمك بالفشل وتفضيلك الهروب من ميدان المعركة على خوض غمارها,
وتحمل لهبها وعنائها إلى أن يتحقق الهدف.. أو تنالي على الأقل شرف المحاولة
وإبراء الذمة من عار القفز من السفينة وتركها لمصيرها المحتوم عند أول عاصفة.
هذا هو الخطأ الذي تتساءلين عنه يا سيدتي .. وتسألين هل يكمن فيك أم في الرجال أم
في الحظ العاثر الذي يلازمك؟
فالحقيقة التي لابد من الإقرار بها دون خداع للنفس أو تبرير للأخطاء هو أن كل هذه
الزيجات الثلاث خاصة الأولى منها كان من الممكن إنقاذها كلها من الفشل والانهيار
حتى ولو كنت قد أسأت الاختيار في بعضها أو صادفك الحظ العاثر في بعضها الآخر,
وذلك لو كنت قد تحليت بالحكمة الكافية والصبر على المكاره.. وصدق النية في
الكفاح وتحمل العناء طلبا للسعادة والاستقرار. فلقد أنكرت على زوجك الأول سلبيته
واعتماده على مرتبك وأبيك وعدم تحمله للمسئولية وكل ذلك مما يعيب الرجل بالفعل
وينتقص من اعتباره لكن الزوجة الرشيدة خاصة إذا كانت قد أنجبت منه طفلا وليدا لا
تدمر حياتها الزوجية وتقضي على طفلها الرضيع بالحيرة الأبدية بينها وبين أبيه لمثل
هذه الأسباب وحدها وبعد عام فقط من الزواج.. وإنما تبذل كل ما في وسعها لتقويم
زوجها وإصلاح حاله وعلاج مثالية أو على الأقل تحجيم أضرارها علي الأسرة, وتصبر
عليه حتى يكتسب تدريجيا الجدية والقدرة النفسية على تحمل المسئولية والوفاء
بالواجبات العائلية وقد تنهض هي إذا باءت كل محاولاتها بالفشل لتعويض نقصه, وسد
ذرائعه وتتجاوز عن سلبياته وترضى عن ايجابياته الأخرى وتقبل بحياتها علي هذا
النحو.. وتشرب على القذى كما يقول الشاعر إذا لم تصف مواردها تجنبا لمرارة الفشل
وانهيار الأسرة وتمزيق الأطفال بين أبويهم, ولقد تعزي نفسها عما تتجاوز عنه
بالتسليم بمقولة الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه حين قال ومن ذا الذي لا يكون فيه
شيء؟ أي من ذا الذي يكون مبرأ من كل عيب بشري.
ولا تكف بالرغم من ذلك عن الأمل في الإصلاح, فإن تفاقمت العيوب حتى تعدت كل قدرة
على الاحتمال.. فلقد تكون السنون قد نسجت بينها وبين زوجها ما يشفع له عندها في
القبول بنواقصه.. أو قد تسلم بالفشل في نهاية المطاف ولكن بعد أن تكون استنفدت
على مدى السنوات الطوال كل الحيل معه.
فهل فعلت شيئا من ذلك يا سيدتي؟
لقد ضقت ذرعا بوضع قد تصبر عليه زوجات كثيرات إعلاء لمصلحة أطفالهن بعد عام واحد
من الزواج وسارعت بطلب الطلاق.
وبدلا من أن تكسبك مرارة الفشل في بداية حياتك الزوجية قدرة أكبر على الصبر
والكفاح لحماية الأسرة من الانهيار المبكر .. سارعت على عكس المتوقع بالتسليم
بالفشل وطلبت الطلاق من زوجك الثاني بعد ستة أشهر فقط من الزواج وأسرعت بالفرار من
ميدان المعركة بغير أن تبذلي قطرة عرق واحدة في محاولة اجتذاب زوجك الثاني إليك
واستعادته من مطلقته والصبر على الوضع الخاطئ إلى حين إصلاحه .. أو التسليم بعد
استنفاد كل الوسائل باليأس منه فإن عجبت لشيء في هذه القصة فلسلبية أبويك وأخوتك
معك في هذا الشأن وتقاعسهم عن نصحك بالصبر والتريث والصمود أمام اختبارات
الحياة.. ومعارضتك في المبادرة بطلب الطلاق عند أول اختبار يعترض حياتك
الزوجية, ومع أنك لم تشيري في رسالتك إلي أنك أنت التي قد طلبت من زوجك الثالث
الطلاق لنفس المبرر الذي قد يكون موهوما ولا إلى الفترة التي استغرقها أرتباطك
به, فإني أتصور اتساقا مع همتك الخائرة وقلة جلدك وصلابتك أنك أنت أيضا التي
طلبت الطلاق في المرة الثالثة وبعد فترة قد لا تتجاوز عاما من الزواج, إن لم تقل
عنه. وليس هكذا يفعل من يبحث حقا عن الأمان والاستقرار في حياته, فالحياة
الزوجية ليست دائما نزهة شاعرية في ضوء القمر ووسط شدو البلابل وأريج الورود وإنما
هي رحلة في بحر يصفو في بعض الأحيان فنستمتع بالنسيم المشبع برذاذ الماء وزرقة
السماء ويضطرب في أحيان أخرى فنتجلد.. ونتشبث بشراعها ولنحميه من التمزق فتظل
السفينة طافية فوق الموج العاصف.. إلى أن تنقشع العواصف. ولولا الصبر
والاحتمال في الأوقات العصيبة والتذرع بالحكمة, وبعد النظر وإعلاء مصلحة ركاب
السفينة من الصغار فوق كل الاعتبارات.. لما نجت سفينة من الغرق مع كل عاصفة تهب
عليها.
والرؤية الصائبة تقودنا دائما يا سيدتي إلى الفعل الصائب كما يقول لنا أبو
الفلاسفة سقراط.
والمؤمن لا تراه إلا لائما نفسه كما يقول لنا القطب الزاهد الحسن البصري .. لهذا
فلابد من أن تراجعي موقفك وأفكارك طويلا.. وأن تكفي عن التماس الأعذار لنفسك على
طول الخط.. والاكتفاء بلوم الحظ العاثر أو اتهام الدنيا بخلوها من الرجال, وأن
تعترفي بأن أهم الأسباب التي حرمتك من حقك العادل في الاستقرار هو قلة صبرك وضعف
همتك على الكفاح وتحمل العناء حفاظا على السعادة.. ولسوف يعينك الإقرار بهذه
الحقيقة على أن تتعلمي من دروس الفشل وتعاهدي نفسك علي التشبث بفرص السعادة حين
تتاح لك من جديد وعلى الصمود في ميدان الحياة..
والدفاع عن الأمان والاستقرار حتى الرمق الأخير إن شاء الله.
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر