المياه الراكدة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1999
أعرف جيدا أن مصير
رسالتي هذه سيكون سلة المهملات لأنك لا تحب هذا النوع من الرسائل .. ومع ذلك
فإني أكتبها لك عسى أن يستفيد بها بعض الزوجات والأزواج.
فأنا سيدة في
الأربعين من العمر تزوجت منذ 12 عاما, وقد تأخرت في الزواج لأني شغلت بعملي
المرموق وصممت آذاني عن عبارات الحب والإعجاب والهيام بحياتي, إلى أن اشتد إلحاح
أبي وأمي علي للحاق بقطار الزواج قبل أن يفوتني, فقبلت شابا يعمل عملا مهنيا
محترما وتزوجته ووجدته بعد الزواج إنسانا طيبا وحنونا و عرفت أنني المرأة الأولى
في حياته ومضت بنا السنوات وأنجبت طفلين وشيئا فشيئا حل الفتور بيننا وأصبحت
حياتنا كالمياه الراكدة لا يحركها تيار.. ولا يغير من مللها شيء وازداد اهتمامه
بعمله.. ورجعت أنا للعمل الذي كنت قد انقطعت عنه عند الإنجاب.
ومنذ ثلاث سنوات
ذهبت إلى عيادة طبيب أسنان شاب لعلاج أسناني فأبدى إعجابه واهتمامه الفائقين بي,
وبعد عدة جلسات حاول أن يعبر عن حبه لي لكني أفهمته أنني سيدة متزوجة, وأن زوجي
هو الرجل الأول والأخير في حياتي فالتزم حدوده معي وواصلت بعد ذلك زيارته كلما
احتجت للعلاج, وفي إحدى هذه الزيارات صارحني بأنه يحبني للغاية ويتمنى لو كنت
غير متزوجة كي يفوز بي دون الآخرين, فإذا سألتني الآن لماذا واصلت التردد على
عيادته بعد أن صارحني بذلك, ولماذا لم اذهب لعيادة طبيب آخر, سيكون جوابي هو
أنني قد اعتدت أن اسمع كلمات الإعجاب من الآخرين دون أن تؤثر على التزامي كما أن
هذا الطبيب قد التزم بالحد الذي أوقفته عنده لكنه لم يتوقف بالرغم من ذلك عن إدارة
اسطوانة الغزل وكلمات المديح والإعجاب الشديد بجمالي وأخلاقي وأدبي واحترامي لنفسي
ورشاقتي .. الخ.
وشيئا فشيئا
وجدتني أحب سماع هذا الكلام منه, بل ووجدتني أيضا أتعمد الذهاب لعيادته وأنا في
كامل أناقتي وجمالي واسعد باهتمامه بي حين يستقبلني على باب غرفة الكشف بابتسامة
عريضة ولأنني كنت محرومة من سماع كلمات الغزل من زوجي فقد وجدتني استعذب سماع هذه
الكلمات من هذا الطبيب, ومنذ عام اكتشفت أن زوجي يعبث في أوراقي كأنما يحاول أن
يكتشف فيها شيئا لا يعرفه عني .. وضقت بشكه في خاصة حين عرفت أنه كان يفعل ذلك
طوال السنوات الماضية, وانفجرت فيه لأول مرة منذ تزوجنا. وحاول هو أن يهدئ من
روعي وطلب مني أن أخفض صوتي العالي دون جدوى, فإذا به يرفع يده إلى أقصى مدي ثم
يهوي بها على وجهي ليسكتني, فنزلت صفعته على وجهي كالصاعقة, وكففت عن الصراخ
وأحسست أن جدارا سميكا قد قام فجأة بيني وبينه وغادرت بيت الزوجية عائدة إلى بيت
أبي وبعد فترة قصيرة ذهبت إلى عيادة هذا الطبيب للعلاج ووجدتني أتحدث معه عن
مشكلتي مع زوجي, فكان ينبوعا للحنان وحاول أن يخفف عني ولم يحاول أن يستغل
الظروف لاستثارتي ضد زوجي بل قال لي إن من حقه أن يعرف عن زوجته كل شئ لأنه ليست
هناك خصوصية بين الأزواج, فزادني هذا الموقف اقترابا منه, واستمررت في الإقامة
في بيت أبي ورفضت محاولات زوجي للصلح حتى ضاق بي أبي وانذرني أنني إذا حصلت على
الطلاق فلا مكان لي في بيته لان بناته لا يعرفن الطلاق, فانتقلت للإقامة في شقة
أخي المسافر للخارج.
وبعد فترة من
الوحدة والملل وجدتني ارجع إلى بيت الزوجية وحدي دون ضغط من أحد.. ومضت فترة
طويلة دون أن ترجع علاقتي بزوجي إلى طبيعتها السابقة لأن صورته وهو يهوي بيده على
وجهي كانت تقف حائلا بيني وبينه.. ثم اشتعلت الخلافات بيننا من جديد لأن زوجي لم
يتفهم حالتي النفسية ولم يتحملني وطالت فترات الخصام بيننا.. وفي هذه الفترة
رجعت للتردد من جديد على عيادة طبيب الأسنان الشاب بعد انقطاع 9شهور.. وكنت هذه
المرة في حالة نفسية سيئة وعلى استعداد لقبول غزله وإعجابه, وذات يوم وقعت
مشاجرة عنيفة بيني وبين زوجي هجرت بيت الزوجية على أثرها ورجعت للإقامة في شقة أخي
فذهبت إلى عيادة هذا الطبيب وجلست على كرسي الأسنان استعدادا للعلاج وجلس هو إلى
جواري وسألني عما بي, فلم أجب لكني تنهدت تنهيدة عميقة فأمسك بيدي وضغط عليها
بحنان ولم أعترض.. فرفعها إلى فمه وقبلها ولم يتحرك لي ساكن وخلال لحظات انتهى
كل شيء, ورجعت إلى بيتي وأنا ذاهلة.. وفي غرفتي وجدتني أبكي بمرارة وأنظر إلى
نفسي في المرآة باحتقار ثم أبصق عليها وبعد أيام جاءني صوته يحاول أن يقنعني بأن
ما حدث بيننا لم يكن لأحدنا يد فيه إلخ.
ودارت رأسي بكلامه المعسول وغزله الرقيق مرة
أخرى .. وعرفت منه لأول مرة أنه متزوج وعنده أطفال.. وبالرغم من ذلك فقد تكرر
الخطأ بيننا مرة ثانية في المكان نفسه.. ومرة ثالثة أيضا, وبعد هذه المرة
الثالثة لم يتصل كما كان يفعل من قبل, وطال تجاهله لي لفترة, وحين اتصلت به
ولمته على ذلك تعلل بمشغولياته العديدة, فأصبحت أنا التي ألاحقه وهو الذي يتعلل
بالانشغال والمسئوليات وضيق الوقت إلخ.
وبدأت أفيق مما
أوقعت نفسي فيه وذهبت إليه في العيادة وأنا عاتبة عليه لتجاهله لي ففوجئت به يكشر
لي عن أنيابه ويسقط عن وجهه قناع الرقة والحنان ويحتد علي في النقاش إلى حد أن
دفعني بيده في كتفي وهو في قمة الانفعال, وخرجت من عنده وأنا لا أصدق ما فعلت
بنفسي وكرامتي.. وشرفي ولم يغمض لي جفن طوال الليل وعشت الأيام التالية وأنا في
أسوأ حال أسأل نفسي كيف انحدرت فجأة من قمة الوقار والاحترام إلى مستنقع السقوط
والخطيئة, وأين ذهب عقلي وأنا أتخلى عن التزاماتي ومسئولياتي كزوجة وأم, وضاعف
من عذابي وحيرتي أن زوجي قد ظهر بعد هذه المحنة نادما على ما حدث بيننا من خلافات
ومشاجرات طوال العام الأخير وراغبا في استمرار الحياة بيننا بأية شروط أضعها لأنه
متمسك بي ويقدر في طيبتي وتسامحي معه.. ووجدتني أرفض العودة إليه بإصرار ليس
كرها فيه ولكن خجلا من نفسي.. وكان جوابي على توسله لي للعودة إلى هو أن هذا
الحل لم يعد صالحا الآن للتنفيذ للأسف, دون إفصاح عن السبب, وفي لحظات الصدق مع نفسي اقتنعت بأن
كل مشكلاتي مع زوجي في العام الأخير كانت من أثر تحول مشاعري عنه بسبب هذا الشيطان
اللعين الذي غدر بي.. أما زوجي فهو كما هو منذ تزوجته ولم تكن العيوب والأخطاء
التي أخذتها عليه سوى تبرير أقنع به نفسي لتحول مشاعري عنه.
وللأسف فإنني لا
أستطيع مصارحته بالحقيقة ولا بسبب رفضي الحقيقي العودة إليه الآن بعد ما حدث..
فماذا أفعل مع نفسي لكي أنسى ما حدث وأمحو عن ثوبي الأبيض هذه البقعة القذرة,
وماذا أفعل مع زوجي الذي يلح علي هو وكل الأهل في العودة إليه.
إنني أكتب إليك لكي تقول لكل زوجة إن الرجل الذي
يغازل سيدة متزوجة لا يكون شريف القصد, ولا يكون له سوى هدف واحد يسعى للوصول
إليه, وبمجرد بلوغه هدفه تصبح هذه السيدة أرخص عنده من فردة الحذاء, وأقول لكل
الأزواج إن قليلا من الاهتمام بالزوجات وشيئا من الرقة والحنان والذوق الذي يتعامل
به مع الأخريات سيكون له مفعول السحر في نفس زوجته.. أما أنا فإني نادمة نادمة
حتى النخاع.. والسلام.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
هناك مثل فرنسي قديم يقول : لا يعجب بفستان امرأة .. من يدفع ثمنه وإنما يعجب به دائما ويبرع في التعبير عن هذا الإعجاب من لا يكلفه إعجابه به سوى الكلمات السهلة التي لا تترتب عليها أي التزامات وقد يكون من مفارقات الحياة التي تستحق التأمل أن من يعجب بفستان امرأة "أي جمالها" قد يغفل في الوقت نفسه عن إظهار إعجابه بفستان زوجته أو جمالها ومن هنا تأتى المفارقة التي تخدع أبصار البعض أحيانا حين تقارن الزوجة بين ندرة كلمات الغزل والإعجاب بجمالها التي تسمعها من زوجها وسخاء وشاعرية كلمات الطرف الخارجي في التعبير عن إعجابه بجمالها ورقتها وأناقتها إلى أخر هذه المعزوفة الشيطانية التي تدير بعض الرؤوس . ومع أن الأفضل والأمثل دائما هو أن يتبادل
الزوجان التعبير عن الحب والإعجاب بالكلمات والأفعال وليس بالأفعال وحدها كما يفعل
البعض إلا اكتفاء بعض الأزواج بالتعبير العملي الصامت عن الحب والإعجاب لا يبرر
للزوجة الاستنامة لكلمات الغزل والإعجاب ممن يحاولون غزو حصونها ولا يجدون ثغرة
ينفذون منها إليها إلا بمثل هذا الغزل الحقير ولا يبرر كذلك بخل بعض الزوجات
بكلمات الحب على أزواجهن لهؤلاء الأزواج أن يطربوا لكلمات الإعجاب الشاردة التي قد
يسمعونها من الأخريات ويبنون عليها حساباتهم وعلاقاتهم مع الأطراف الخارجية . كما
لا يبرر عقم حديث بعض الأزواج وزوجاتهم واقتصاره على شئون الحياة اليومية والشئون
الأسرية لأحد أن ينخدع بمثل هذه المقارنة الظالمة بين "رقة الآخرين " و "
تحفظ الشركاء " .. أو خلو أحادثهم من الكلمات الشاعرية لأنهم إنما يتعاملون
مع الصورة الخارجية لهؤلاء الآخرين ولا يتعاملون مع أعماقهم وسرائرهم وشخصياتهم
الحقيقية . ذلك أن العشق أسهل ألف مرة من الزواج كما كان يقول الأديب الفرنسي
بلزاك لأنه يتطلب منك أن تكون لطيفا بعض الوقت .. أما الزواج فإنه يتطلب منك أن
تكون لطيفا كل الوقت وفى كل الأحوال والظروف وهو ما لا يقدر عليه أحد فإذا اضطررنا
للتعامل مع هؤلاء الآخرين " كل هؤلاء الآخرين " كل الوقت وعلى مستوى
العمق وليس على المستوى السطح .. فلا أحد يضمن ألا يكون هذا اللطف قناعا مؤقتا
يسقط عن وجوههم عند أول اختبار كما سقط قناع الرقة والحنان واللطف عن وجه طبيبك
الشاب فأسفر عن قسوة وأنانية وخسة فى التعامل لا تقارن بها كل أخطاء زوجك إذا كانت
له أخطاء تستحق التوقف عندها . وجوهر الخطأ في قصتك هذه هو انك قد استمريت في
التردد على عيادة هذا الطبيب بعد أن غازلك غزلا صريحا مرددا على مسامعك أنشودة انه
كان يتمنى لو كنت غير متزوجة لكي يفوز بك دون العالمين أما تبريرك لاستمرارك فى
التردد عليه بعد أن غازلك بأنك قد ألفت سماع كلمات الإعجاب بجمالك دون أن تدير
رأسك وتنسيك التزاماتك كزوجة وأم فهو تبرير خادع وليس صادقا .. لان المرأة
المتزوجة التي ترغب حقا في أن تنأى بنفسها عن الأغراء والخطأ هي التي تقطع صلتها
بحسم بمن غازلها غزلا مكشوفا أو مستترا إذ أن استمرار هذه الصلة بينها وبينه بعد
إعلان الإعجاب والهيام .. لا يعني لمن غازلها سوى أن مقاومتها قد بدأت تتأثر
بالفعل بأنشودة الغزل التي أنشدها لها وأن المسألة ليست في النهاية سوى مسألة زمن
يطول أو يقصر ثم تنهار حصونها .. وقد تساعد ظروف طارئة في حياتها على الإسراع بهذا
الانهيار كما حدث معك حين اشتدت خلافاتك مع زوجك ووجدت نفسك تطربين لسماع هذه
الكلمات التي رفضتها في البداية رفضا لينا يشجع على استمرارها وليس توقفها ثم بدأت
تستمرين سماعها وتذهبين إلى عيادة هذا الطبيب وأنت في كامل جمالك وأناقتك لكي تطلبي
المزيد منها ولا عجب في ذلك لأنك قد خطوت الخطوة الأولى على الطريق المنحدر حين
رجعت لعيادة هذا الطبيب مرة ثانية بعد أن سمعت منه كلمات الغزل والهيام ولأن
للمديح والإطراء أثر السحر في نفوس البشر مهما تصوروا فى أنفسهم القدرة على عدم
التأثر بهما ولقد قال حكيم عن أحد الأشخاص الذين يتظاهرون بالفضل .. أستطيع أن
أحول هذا المغرور إلى مجنون خلال شهر واحد فقيل له : كيف ؟ فأجاب : بالمديح
والتملق كما كان الأمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه يبكى إذا حدثه البعض عن افتتان
الناس به ويقول : هذا استدراج . أي هذا استدراج من القائل له لكي يعجب بنفسه فيفقد
بعض تواضعه ورشده أما أنت يا سيدتي فلقد استسلمت لهذا "الاستدراج" حتى
ضعفت مقاومتك تدريجيا وانهارت حصونك وتكشفت لك الحقيقة المؤلمة فإذا كنت ترغبين
حقا فى محو هذه البقعة السوداء من ثوبك فلا سبيل لذلك سوى بلوم النفس على ما
أوردتك إليه من موارد التهلكة والندم الصادق على ما فعلت والكف عنه وعقد النية على
ألا ترجعي إليه ابدأ ومع كثرة الاستغفار والالتزام بالطريق القديم والتفكير الصادق
عما حدث يتطهر الثوب تدريجيا مما علق به .. ويصح لك عندها التفكير فى مستقبل
علاقتك بزوجك وشكرا.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1999
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر