الأرض الخصيبة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2000

الأرض الخصيبة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2000

الأرض الخصيبة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2000

الزوجة ليست مجرد مشتل لإنبات البذور‏..‏ وإنما هي كائن بشري مكتمل الجوانب الحسية والنفسية والعاطفية‏,‏ ولا يجوز التعامل معه كمجرد رحم لابد أن تؤدي وظيفتها الأساسية‏..‏ فإن عاقتها عن تأديتها بعض العواقب زهدنا فيها وأنكرناها‏!‏

عبد الوهاب مطاوع


أريد أن أعرض عليك تجربتي في الحياة ولا أقول مشكلتي‏ ..‏ لأن المشكلة الإنسانية تنعدم وتزول في إحدى حالتين‏,‏ الأولى عند إيجاد حل لها‏ ..‏ والثانية عند التعايش السلمي أو السلبي معها أي عند الرضا بها ومحاولة ترويض النفس علي أنه لا مشكلة هناك في الوضع المشكو منه‏.‏ والحل الأخير يلجأ إليه نوعان من البشر‏:‏ الأول هو من لا حيلة له في المشكلة سوى التعايش معها راضيا أو راغما‏,‏ والنوع الثاني وهم قلة هم هؤلاء الذين يتقبلون مشاكلهم بنفس صافية عن حق وهم ذوو النفوس المطمئنة‏.‏

وتجربتي هذه لا أبحث لها عن حل لديك بقدر ما أريد منك أن تشاركني برأي فيها‏ ..‏ فأنا شاب في الثامنة والثلاثين من عمري تخرجت في كلية مرموقة‏,‏ وتفرض علي طبيعة عملي ألا أقيم في مكان واحد لفترة طويلة وأن أنتقل كل عدة سنوات بين مدينة وأخري‏,‏ لهذا فاني أقيم إقامة دائمة في القاهرة وأغيب عنها في فترة وجودي في مقر عملي‏.‏ وقد تزوجت منذ‏11‏ عاما من فتاة من أسرة بسيطة وطيبة كأسرتي‏,‏ وسعدت بها واعتبرت زواجي منها فوزا كبيرا نظرا لما تتمتع به من حسن الخلق والخلقة وبادلتني هي نفس الإحساس‏.‏ وعشنا سنوات جميلة‏ ..‏ وكنت خلال غيابي عنها في مقر عملي أعد الأيام علي رجوعي إلي زوجتي وبيتي‏,‏ وأرجع إليها فتغمرني بشوقها وحبها وحنانها‏ ..‏ واستمر الحال علي هذا النحو ونحن قانعان بما أتيح لنا من رزق وبإمكاناتنا البسيطة‏,‏ ولم يعكر صفو حياتنا سوي تأخر حمل زوجتي‏.‏ لكني لم أتعجل الأمور في البداية وأعطينا أنفسنا فرصة أطول‏ ..‏ ثم بدأنا بعد مرور سنتين على الزواج نستشير الأطباء وخضعت أنا وزوجتي للفحوص والتحاليل المعتادة في مثل هذه الحالة‏,‏ فكانت النتيجة تأتي دائما إيجابية بالنسبة لي وسلبية بالنسبة لزوجتي‏,‏ حيث اتضح وجود مشاكل طبية معقدة لديها‏.‏

وبدأ مسلسل الاستنزاف المادي لدي كل طبيب نسمع عنه خيرا أو يوصي به الأهل والأصدقاء‏,‏ وبدأ معه مسلسل آخر للاستنزاف العاطفي والمعنوي في علاقتي بزوجتي ‏..‏ لكني والحمد لله صبرت وتجلدت واحتسبت كل الوقت والجهد والمال المبذول عند ربي‏,‏ ورجوت أن يكون الحرمان من الإنجاب لحكمة إلهية خافية عنا أو دليلا علي صلاح الزوجين وإيمانهما كما جاء في سورة الكهف حين قتل العبد الصالح سيدنا الخضر عليه السلام الغلام‏,‏ فقال له سيدنا موسي عليه السلام‏:‏ "أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا" فكان تفسير العبد الصالح لما فعل بأمر ربه "وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما‏".‏

 

وكم من الآباء والأمهات يحزنون لفراق الأبناء وكم من الأزواج والزوجات أشد حزنا لعدم الإنجاب‏ ..‏ ولحكمة يعلمها هو وحده سبحانه يهب الذكور لمن يشاء ويهب الإناث لمن يشاء ويجعل من يشاء عقيما‏.‏

فاتفقنا أنا وزوجتي علي التسليم بقضاء الله وقدره وعدم تكرار محاولة الإنجاب أو معاودة زيارة الأطباء مرة أخرى .. على أن نترك أمرنا لمن خلقنا يفعل به ما يريد‏.‏

وواجهت خلال ذلك بالطبع التساؤلات الحائرة‏:‏ ما هي الباقيات الصالحات التي هي خير من المال والبنون الذين قال عنهم الحق سبحانه وتعالي أنهم زينة الحياة الدنيا‏ ..‏ وهل حرصنا علي الفوز بها يجعلنا نستغني عن الأبناء؟‏..‏ وهل إذا تزوجت مرة أخرى بغرض الإنجاب أكون قد ظلمت زوجتي خاصة أنني أشعر بأنني لن استطيع مقاومة نداء الأبوة بداخلي إلي ما لا نهاية ولست أتصور نفسي وحيدا في شيخوختي‏.‏

وعلى الجانب الآخر كان لسان حال أمي وإخوتي يقول لي بغير كلام‏:‏ تزوج وإن كانوا لم يتدخلوا في حياتنا الخاصة أبدا وكانوا لي ولزوجتي نعم الأهل والناصحون‏.‏

 

غير أنني وبعد سبع سنوات من الزواج ومع يأسي المتكرر من حمل زوجتي بدأ يعتريني إحساس لم أبح به لأحد من قبل‏,‏ وهو إحساس الفلاح أو المزارع الذي يبذر البذور في الأرض ويرويها ويرعاها أملا في إنباتها‏ ..‏ ثم لا تنبت في الأرض شيئا مما بذره فيها فيعاود البذر مرة ومرات لكن الأرض بور لا تنبت زرعا فيكره الأرض ويكره البذر ووجدت نفسي بغير وعي أمتنع عن الفلاحة وأتجنب الأرض‏,‏ ومكثت على هذا  الحال ثلاثة أشهر متتالية بغير أية رغبة في معاودة الفلاحة وبذر البذور‏,‏ إلي أن شعرت بأن زوجتي تتأذي من ذلك دون أن تتكلم‏,‏ فحاولت من جديد مصالحة الأرض الطيبة وإعادة فلاحتها وريها دون انتظار للزرع‏,‏ فإذا بي لا أجد في نفسي القدرة علي ذلك‏,‏ وإذا بالفأس ترفض أن تطأ الأرض‏!‏ وكررت المحاولة مرارا وتكرارا دون نتيجة‏,‏ فتبدل الحال وأصبحت أنا الذي أتلمس لنفسي العلاج خفية بعد أن كنت أبحث عنه لزوجتي وعرضت نفسي علي الأطباء المتخصصين فلم يجدوا سببا عضويا لذلك‏,‏ وأكدوا لي أنني سليم مائة بالمائة وعرضت نفسي على طبيب نفسي وفشل علاجه علي أيضا‏,‏ وانزعجت لذلك بشدة واضطربت حياتي الزوجية فترة ليست قصيرة وفقدت ثقتي في نفسي كرجل وأحسست بأنني أخسر كل شيء ‏..‏ ثم تمالكت نفسي بعد ذلك وبمبدأ التعايش السلمي مع المشكلة حاولت احتواء الظروف الجديدة وفهمها‏,‏ وبمبدأ أن الإنسان طبيب نفسي فسرت ما حدث لي بأنه المردود النفسي المعاكس لحالة عدم الإنجاب أو لحالة اليأس من أن تصبح الأرض البور أرضا خصيبة ذات يوم‏,‏ وآمنت بأنه لو شاء الله وحملت زوجتي لعدت لسابق عهدي معها وأفضل دون علاج ولا عقاقير ‏..‏ ومع مرور الوقت علي هذا التعايش السلمي مع المشكلة استعدت بعض الثقة المفقودة بالنفس في تعاملي مع زوجتي وتحسنت حالتي بعض الشيء دون أن أرجع الي كامل طبيعتي السابقة‏.‏ لكن الشيء الذي آلمني كثيرا واستنكرته بشدة وأنا أواجه هذه المحنة هو أن زوجتي لم تتحملني ولم تصبر علي خلال رحلة علاجي لدي الأطباء أو فترة علاجي لنفسي بنفسي‏,‏ وباحت لأمها بمشكلتي مما أثر في كثيرا وأحرجني أكثر وهز من كبريائي وكرامتي‏,‏ وأنا الذي كنت ومازلت الحافظ الأمين لسر مرضها وسر عدم إنجابها عن الجميع‏.‏


وهنا تزداد صعوبة الأمر وتعقيده وهو أن الزواج مرة أخرى بالنسبة لي ستكون نتيجته أحد أمرين‏:‏ إما أن تحل عقدتي المستحدثة أو مشكلة ضعفي مع الزوجة الجديدة باعتبارها مسألة نفسية بحتة إلي جانب أن أرزق بأبناء‏,‏ وإما أن يستمر هذا الضعف مع الزوجة الجديدة ويهدد بفشل الزواج منذ بدايته فما هو الصواب في رأيك‏ ..‏ إنني أرجو أن تشاركني التفكير وإعادة ترتيب أفكاري والإجابة علي أسئلتي‏ ..‏ وشكرا لك مقدما‏.

 

ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏

اقتربت إلي حد كبير من فهم أسباب ما طرأ عليك من تغير عارض بإذن الله في علاقتك بزوجتك‏.‏ فلقد أجريت المشكلة الإنسانية تنعدم وتزول في إحدى حالتين‏,‏ الأولي عند إيجاد حل لها‏..‏ والثانية عند التعايش السلمي أو السلبي معها أي عند الرضا بها ومحاولة ترويض النفس علي أنه لا مشكلة هناك في الوضع المشكو منه‏.‏ والحل الأخير يلجأ إليه نوعان من البشر‏:‏ الأول هو من لا حيلة له في المشكلة سوي التعايش معها راضيا أو راغما‏,‏ والنوع الثاني وهم قلة هم هؤلاء الذين يتقبلون مشاكلهم بنفس صافية عن حق وهم ذوو النفوس المطمئنة‏,‏ وهكذا فلقد فسرت زهدك المفاجيء في زوجتك بعد سبع سنوات من الزواج بتأثير الإحباط الذي شعرت به وتمكن منك لعجز أرض زوجتك عن إنبات ما بذرته فيها من بذور‏.‏
لكنك وقد فهمت أهم أسباب المشكلة لم تحاول علاجها للأسف بحل نابع من هذا الفهم الصحيح لأسبابها وشغلت عنه بالبحث عن علاج عضوي أو نفسي لدى الأطباء‏,‏ ولو أنك أمعنت التفكير في أسباب المشكلة لعرفت أن زهد الزارع في معاودة بذر بذوره في الأرض غير الخصيبة إنما يرجع أساسا إلي فهمه لوظيفة هذه الأرض‏ ..‏ وهي أن تتلقي البذور وتحتويها في باطنها ثم تنبتها نباتا صالحا بالخدمة والرعاية‏.‏ في حين أن زوجتك ليست مجرد مشتل لإنبات البذور ‏..‏ وإنما هي كائن بشري مكتمل الجوانب الحسية والنفسية والعاطفية‏,‏ ولا يجوز التعامل معه كمجرد رحم لابد أن تؤدي وظيفتها الأساسية‏ ..‏ فإن عاقتها عن تأديتها بعض العواقب زهدنا فيها وأنكرناها‏!‏
ولقد كان الحل الصحيح لمشكلتك الطارئة هو ألا تتعامل مع علاقتك بزوجتك علي أنها مجرد حصة فلاحة إن تكرر فشلها انصرفنا عنها وتتجاهل جانب التواصل العاطفي في هذه العلاقة‏..‏ وتحرم نفسك من متعتها المشروعة والمرغوبة لذاتها وليس فقط لمحاولة استنبات أرضها نباتا حسنا‏.‏


ولو أنك كنت قد أقنعت نفسك بذلك في الوقت المناسب وكففت عن الربط الوظيفي بين العلاقة الزوجية والأمل المحموم في الإنجاب‏,‏ وسلمت بقضاء الله وقدره وتركت أمركما لخالقكما يدبره كيف يشاء كما قلت في رسالتك‏,‏ لما أصابتك خيبة الأمل في كل مرة تبتلع فيها الأرض البذور ولا تنبتها‏ ..‏ ولما سيطر عليك شعور الإحباط والضيق بهذه الأرض ففقدت حماسك لها وإقبالك عليها‏,‏ وتفسيري لذلك هو أنك لم تتقبل عن رضا حقيقي في أعماقك الحرمان من الإنجاب ولم تسلم فيه بقضاء ربك‏,‏ وإنما ظل الصراع قائما في أعماقك بين الرغبة في الأبوة والعجز عنها‏..‏ فكان ما سميته أنت في رسالتك بالمردود النفسي المعاكس لعدم الإنجاب

وأحد أهم أسباب الشقاء الإنساني هو تطلع النفس لما لا تناله أبدا ولا تسلم باليأس منه حتى النهاية‏.‏
والزهد الحقيقي ـ كما يقول لنا القطب الصوفي الإمام الجنيد ـ هو خلو القلب مما خلت منه اليد‏.‏ وأنت يا صديقي لم يخل قلبك مما تتطلع إليه نفسك بالرغم من قبولك الظاهري به‏ ..‏ ومن هنا كان الصراع النفسي بين ما تهفو إليه نفسك وما تحرمك الظروف منه‏ ..‏ وكان الأثر السلبي لهذا الصراع علي علاقتك بزوجتك وعلي بعض قدراتك‏.‏
ولست ألومك علي تطلعك المحروم للإنجاب لأنه أمل مشروع لك ولكل إنسان أو إنسانة لا مراء في ذلك‏,‏ لكني أشرح لك فقط أسباب الإحباط الذي تشعر به حين لا تنبت الأرض نباتها‏ ..‏ وأقول لك أيضا إن ما تشكو منه الآن من ضعف نسبي إنما هو من أثر هذا الإحباط والسخط الكامن في النفس علي أقدارها في الحياة‏..‏
ولعلك لو كنت قد اخترت استمرار الحياة مع زوجتك عن قبول صادق بأقدارك معها‏,‏ مسلما أمر الإنجاب لمن يهب لمن يشاء ذكورا ويهب من يشاء الإناث‏,‏ لما ترك الإحباط هذا الأثر السلبي علي علاقتك بها‏ ..‏ ولربما فاجأتك الأقدار دون انتظار بهدية من هدايا السماء للصابرين المحتسبين ذات يوم ليس ببعيد‏.‏ وإذا كان عدم الإنجاب قد ترك عليك هذا الاثر السلبي‏ ..‏ فإن انعكاسات التجارب الإنسانية علي الأشخاص قد تختلف من إنسان إلي آخر‏ ..‏ ولرب أشخاص آخرين ينعكس عليهم أثر مثل هذه التجربة علي نحو مختلف فيزدادون إقبالا علي زوجاتهم وارتباطا بهن ‏..‏ واهتماما بالعلاقة العاطفية معهن‏,‏ لأن الحب وحده يكون هو المبرر الوحيد لاستمرار مثل هذه الحياة الزوجية الي جانب حسن المعاشرة‏..‏ والرغبة الصادقة من كل طرف في أن يحيا إلي جوار الطرف الآخر دون ضغوط أو دوافع قهرية كدوافع الحرص علي استقرار الأبناء ولأنك كما تقول لا تطلب حلا لمشكلتك من أحد‏,‏ وإنما ترغب فقط في مشاركتك بالرأي فيها ومساعدتك علي إعادة ترتيب أفكارك‏..‏ فلعلي أقول لك إن تفكيرك في الزواج مرة أخري قد يحقق بالفعل احدي النتيجتين اللتين أشرت إليهما‏,‏ لكن إقدامك عليه يرتبط أساسا باختيارك لحياتك  وهل تفضل الاستقرار مع زوجتك الحالية مع الحرمان من الإنجاب حتى ولو كنت قد عتبت عليها تسرعها في البوح بسرك لأمها‏..‏ أم تفضل السعي إلي تحقيق الأمل المحروم وخوض المجهول ومواجهة تبعاته‏,‏ وقد تكون كأي تجربة إنسانية محبطة أو مبشرة‏.

وفي كل الأحوال فإن هذا الاختيار يرتبط أساسا بموقف زوجتك منه وهل تقبل بزواجك من أخرى مع استمرار حياتها معك أم تفضل ـ وهو الأغلب الأعم ـ أن تسرحها بإحسان وتبحث أنت عن سعادتك بعيدا عنها‏..‏ فواجه نفسك بما تريد‏..‏ وبما تظن أنك قادر علي تحمل تبعاته بشجاعة‏,‏ ولئن رضيت بما اختاره الله لك فلقد أعفيت نفسك من ان تضعها موضع الاختبار مع من لا يربطها بك من روابط الحب والعشرة والوفاء بعض ما يحملها علي القبول بأي نقص فيك‏.‏
وشكرا لك في النهاية علي رسالتك هذه التي أطلعتنا علي جانب خفي من جوانب التجربة الإنسانية اعترف لك أنني اطلع عليه بالرغم من خبرة السنين لأول مرة‏.

رابط رسالة رحيق السعادة تعقيبا على هذه الرسالة

 نشرت في جريدة الأهرام باب بريد الجمعة سنة 2000

راجعها وأعدها للنشر/ نيفـين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات