الوجه العبوس .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2002
ترددت كثيرا في أن
أكتب إليك حتى قرأت رسالة الغريزة الأساسية للزوج الذي يشكو من أن زوجته
تتميز بالحب والعطف والحنان لكنها ترفض نهائيا العلاقة الحميمية بينهما وتنفر منها,
مما يدفعه للتفكير في الزواج من أخرى, فلقد فجرت هذه الرسالة ما بداخلي وما عانيت
منه سنوات طويلة ومريرة.
فلقد نشأت يتيما
منذ الطفولة المبكرة .. فقد مات أبي وعمري بضعة شهور وبعد سنوات قليلة رحلت أمي هي
الأخرى عن الحياة, فاحتضنني عمي وقام بتنشئتي وتعليمي وكان حنونا وعطوفا علي إلى
أقصي درجة, وفي بداية الصبا أعلن الأهل أنني موعود بالزواج من ابنة عمي منذ
الطفولة, ولم آخذ الأمر مأخذ الجد, ومضت الحياة إلى أن بلغت سن الشباب وأحببت
فتاة أخرى حبا كبيرا وذهبت لزيارة أهلها وطلب يدها منهم, فرفضوا إلا أن يحضر عمي
معي باعتباره ولي أمري, فتوجهت إلى عمي وصارحته بما أريد ففوجئت بصمته, وفهمت
من ذلك أنه يرفض هذا الزواج ويتوقع مني أن أتقدم لابنته أو أنه يعتبرنا مخطوبين
بالفعل ولم أكن أملك مواجهة عمي برفضي لذلك, لكني كنت أعرف جيدا ومنذ سنوات أن
ابنته لا تنظر إلي نظرة فتاة إلى خطيبها وإنما كأخ لها فاعتمدت على أن الرفض سوف
يجيء منها فيعفيني من أن أكون جاحدا لفضل أبيها علي.
ولقد حاولت هي بالفعل ذلك مع والدها, بكل
الوسائل فلم تنجح, وتمت الخطبة بيننا وهي كارهة.. وأنا صامت, ثم عقد القران
وظلت خطيبتي 7 سنوات بعد ذلك تسوف وترفض الزواج مني وتقدم لأبيها المبررات
المختلفة لذلك وهو يصر على ألا تتزوج سواي, إلى أن فشلت كل محاولاتها وحددنا
موعدا للزفاف وفي ليلة الحنة رفضت خطيبتي أي مظهر من مظاهر الفرح في البيت حتى
الزينة الكهربائية التي تعلق على المنازل رفضتها بإصرار وما أن انتهى الحفل
المحدود ليلة الزفاف وأغلق علينا مسكننا حتى انفجرت زوجتي في البكاء وظلت تبكي
بكاء متصلا لمدة 5 ساعات كاملة حتى بزغ النهار وفشلت كل محاولاتي للتخفيف عنها
وبعد هذه الليلة الكئيبة أمضينا 45 يوما وأنا لا أستطيع الاقتراب منها فإذا
حاولت ذلك انفجرت في البكاء أو راحت تتوسل إلي أن أدعها لشأنها فلم أجد في النهاية
وسيلة سوى أن أضع لها قرصا منوما في كوب من العصير وبهذه الطريقة فقط أصبحت زوجا
فعليا لها وحين أفاقت وأدركت ما حدث انهارت في بكاء شديد وطويل إلى ما لا نهاية.
وبعد ذلك كنت كلما
حاولت الاقتراب منها لا أجد منها سوى البكاء والتوسل.. وإذا حاولت ملاطفتها أو
حتى لمسها بكت وتوسلت حتى تحولت حياتي إلى جحيم.
وبعد عذاب طويل
ومناقشات عديدة فكرت هي إرضاء لربها وليس لي أن يتم ما أريد من خلال أخذها للمنوم,
ووافقت أنا مضطرا.. وبهذه الطريقة فقط أنجبنا أطفالنا الذين يحسدنا عليهم
الآخرون ورغما عنها لأنها حاولت دائما في كل حمل إجهاض نفسها وفشلت وخلال هذه
السنوات كنت دائم السفر, وفي كل مرة أرجع فيها إلى زوجتي يكون أول سؤال توجهه
إلي هو: متى ستسافر؟ وتقضي بعد ذلك معظم أيام أجازتي في بيت والدها.
وبالرغم من أنني
كنت أعمد إخفاء موعد قدومي من السفر, فلست أستطيع أن أصف لك وجه زوجتي حين تراني
قادما إلى البيت من رحلتي فالضحكة تذبل على الفور في وجهها وتموت ويتحول إلى الوجه
الذي لم أعرف سواه منذ تزوجتها وهو الوجه العبوس, وهي التي يحبها الكل وتحبهم ما
عداي وتضحك مع الجميع, لا تواجهني إلا بهذا الوجه العبوس على الدوام, ولم أشعر
معها ولو للحظة واحدة أن بداخلها مشاعر أنثى من عاطفة أو حب أو غريزة أو أي إحساس
من أي نوع ما عدا النفور, ولم يتغير ذلك لحظة واحدة طوال خمسة عشر عاما هي عمر
زواجنا الكئيب حتى الآن وحتى ضاق صدري بها وأصبحت أتمنى لها الموت في كل لحظة لأنه
لا شيء سيخلصني منها سواه فلقد يئست من كل أمل في اجتذابها إلي بعد أن حاولت بكل
الحيل والوسائل ذلك دون جدوى.
كما أنني لا
أستطيع التخلص منها بالطلاق لأني حرمت من الأب والأم ولا أريد لأولادي حياة كحياتي.
فإذا كان كاتب
رسالة الغريزة الأساسية.. يجد لدى زوجته الحب والحنان والعطف لكنه لا يجد فقط
لديها الميل للغريزة فإنني أحيا مع إنسانة بلا غريزة ولا حب ولا عطف ولا حنان وليس
هناك في العالم كله شيء يثير مشاعرها فهي إنسانة في الشكل العام فقط وليس لديها
شيء من مشاعر الإنسان وأحاسيسه وغرائزه ولست أتجنى عليها في ذلك والله شهيد على ما
أقول.
وأرجو أن أجد لديك
الحل الذي لا أستطيع التفكير فيه.
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
وكيف لم تنجح تلك
السنوات الطوال في إيجاد أي شيء من القبول النفسي لك لدى زوجتك مادمت قد استسلمت
للأمر الواقع وعجزت عن مواصلة الرفض إلى النهاية.
لقد تواءمت أنت مع
حياتك.. وتنازلت عن اعتراضك الصامت عليها بعد أن تحول زواجكما إلى أمر واقع..
فلماذا لم تبذل هي أي جهد لقبول حياتها الجديدة والتواؤم معها؟
لقد كان العدل
يطالبها ـ مادامت قد ألقت بالراية البيضاء أمام إرادة أبيها وأتمت زواجها منك ـ أن
تقبل بحياتها الزوجية.. أو أن تستجمع إرادتها وتسعى إلى التخلص منها.. فلماذا
اكتفت بالرفض الداخلي لك وتحجرت على هذا الموقف وحده طوال تلك السنين؟
إنني أتصور أن بعض
أسباب رفضها لك هو إحساسها بأنها قد أرغمت عليك فتفاعل الإحساس بالقهر في أعماقها
وتحول إلى رفض مطلق لك تخالطه رغبة كامنة في عقلها الباطن في الإساءة إليك أو
الانتقام منك باعتبارك رمزا لقهر أبيها لإرادتها وإرغامها على الارتباط بك ولاشك
في أنها مخطئة في ذلك بكل تأكيد, لأنك زميل لها في هذا القهر ولست رمزا له ولا
شريكا فيه وليس من العدل أن تقوم بتحويل مشاعر الغضب التي تملكتها تجاه أبيها,
من شخص الأب الذي تعجز للاعتبارات الدينية والأخلاقية المعروفة أن تجاهر بمشاعرها
السلبية تجاهه.. إلى شخصك أنت لأنها قد لا تشعر بالحرج الديني من مجاهرتك بالرفض
والعداء, على أية حال فإنني لا أرى أي أمل في تغير موقفها منك الآن إلا إذا كان
لديها من رجاحة العقل والإنصاف ما يدفعها لمراجعة موقفها منك.. والإقرار بأنك
ضحية مثلها ولست جانيا عليها, وأنك تستحق التعاطف معك وليس الانتقام من الأب في
صورتك, فتعتبر زواجها منك بعد كل هذه السنوات زواجا إراديا لها وليس ارتباطا
قهريا فرض عليها وتعطي نفسها لأول مرة الفرصة لاكتشاف مزاياك والتفكير فيك كزوج
وليس كسجان ينفذ فيها حكما أصدره والدها, فلربما يؤدي ذلك إلى بدء صفحة جديدة
معك, فإن لم تفعل هي ذلك ولم ترغب أنت في الانفصال عنها للأسباب التي أشرت إليها..
فإنك تستطيع أن تستأذنها في الزواج من غيرها لأنك لا تستطيع احتمال الحياة إلى ما
لا نهاية مع زوجة تموت الابتسامة في وجهها على الفور حين تراك عائدا إليها من السفر..
وتبكي بالساعات الطوال إذا حاولت الاقتراب منها ولا تستجيب لأية محاولة من جانبك
لاجتذابك إليها.. ولا ينالها زوجها إلا وهي غائبة عن الوعي بتأثير الأقراص
المنومة, ولم ترغب يوما في أن تكون زوجة له ولا أما لأطفاله وليس من حقها أن
ترفض زواجك من أخرى في مثل هذه الحالة.. إلا إذا تحركت فيها بعض مشاعر الأنثى
وقررت أن تعيد النظر في علاقتها بك.
وليس من المستبعد
إذا كانت حقا كما تصفها من حيث جحود المشاعر العاطفية والحسية والإنسانية تماما
تجاهك, ألا تشعر بأنها قد خسرت شيئا
كثيرا إذا أنت
تزوجت من غيرها.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2002
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر