زائر الصباح .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

 

زائر الصباح .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

زائر الصباح .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

 


 

أنا مهندس في الخامسة والأربعين من عمري ، تزوجت منذ عشر سنوات من فتاة ذات خلق ودين وجمال فاكتملت سعادتي بوجودها ، وبالرغم من أن المستوى المادي لحياتنا كان متوسطا أو دون المتوسط إلا إنها بقناعتها وحسن تدبيرها وحساسيتها المرهفة قد عوضتني عن كل نقص مادي في حياتنا، فهي من هذا النوع من النساء الذي تغمره روح الرضا بكل شئ ، وتجعلك تحس بالجمال في كل ما تفعل . وحمدت الله كثيرا على ذلك وتأملت حياتي وكأني اسأل نفسي لقد أعطتني الحياة كل ما أريد .. عملا وزوجة جميلة محبة وفية حلوة العشرة كأنها بلسم لكل الآلام .. ترى ماذا ستأخذ مني لأني اعرف دائما أن الحياة لا تعطي كل شيء ولابد غالبا من شی ء ناقص وهذا الشيء الناقص يأتي دائما بعد كلمة "لكن" في رسائل قراءك من المعذبين .

وآه من "لكن" كما تقول أنت في تعليقاتك إذ لم تمض فترة قصيرة من زواجی حتى عرفت "لكن" التي كنت أتوجس منها كأنني استكثر على نفسي السعادة، فلقد مضت الشهور والسنوات ولم نرزق أطفالا .. ولم نوقد شموعا وبدأت رحلتنا مع الأطباء والتحاليل والأدوية ومعظمها نادر وغير متوافر بالصيدليات .

وعشنا سنوات ننام ونصحوا على حلم واحد يبدو عسير المنال حتى أنني وأنا المهندس الذي درس بالأكاديمية الملكية في لندن استسلمت بعد فترة طويلة للوصفات البلدية وقبلت أن افعل ما يفعله البسطاء من الناس حين يتعلقون بهذا الأمل .. وكان أقساه علي الاغتسال بماء به جنین سقط في شهوره الأولى ورش الماء على الطرقات إلى أخر هذا العذاب الذي تحملته صابرا وأملا ، لكن كثيرا ما كان نور الإيمان يبزغ في قلوبنا فنستغفر الله ونتوب إليه ونشكره كثيرا على ما انعم به علينا .. فنحن زوجان محبان تجمعنا المودة والرحمة وحياتنا مستقرة وميسورة لكن النفس الأمارة بالسوء لا تكف عن التطلع إلى ما بنقصها .. فاذهب لعملي .. واسمع زميلا يشكو من ضجيج أطفاله في بيته وكيف انه كان يؤدي عملا في البيت فزحف أحد أطفاله الرضع وتعلق بقدميه وهو يعمل حتى تضايق فركله بعيدا عنه .. واسمع زميلا آخر يروي ضاحكا أنه كان جالسا مع زوجته في البيت فسمع من الطريق نداء على أهل طفل تائه ليتسلموه فلم يلتفت إلى النداء لأن أطفاله الكثيرين بعضهم في غرفة الأطفال نائمين وبعضهم يذاكرون ، وفي المساء اكتشف أن هذا الطفل التائه هو ابنه فأسرع يعود به ، ويستغرق الجميع في الضحك .. وابتسم أنا متمتما لنفسي سبحانك يا ربي .. تعطي من نشاء وتحرم من تشاء .

فعشر سنوات طويلة وأنا أجري وراء الأمل في طفل كهذا الطفل الذي يركل بعيدا بساق الأب ، أو هذا الطفل الذي تاه بغير أن ينتبه أحد لغيابه .. لكن جلت حكمتك يا رب عن الافهام .

ومنذ شهور كررت التحاليل بعد أن أجريت المئات منها وفي كل مرة تأتي سلبية .. ويقابلني موظف المعمل بنفس الأشفاق قائلا لي قبل أن يعطيني التحليل :" الصبر طيب " .. فأعرف النتيجة بل أن أفض الغلاف .. وامضي صامتا وصابرا حتى أنني لم افتح بعض التحاليل الأخيرة مكتفيا بعبارة الموظف المشفق .. وفي المرة الأخيرة ذهبت إلى المعمل في الموعد المحدد وقلبي قانط باليأس ففوجئت بابتسامة عريضة على وجه الموظف ، قبل أن اقترب منه .. فشككت في الأمر . وقبل أن أنطق قال لي ألف مبروك . فطفرت دمعة من عینی .. وتهاويت على أول مقعد وجدته وأنفاسي تتلاحق .. وهو يحدثني وأنا لا أكاد اسمع ثم أمسكت بالتحليل ونظرت إليه غير مصدق .. وأردت مكافأة الموظف الذي بشرني بالبشرى فأبي طالبا مني ألا انسی دعوته إلى السبوع .. وقتها سوف يقبل المكافأة .. ونزلت مهرولا إلى زوجتي الصابرة الطبية ، فاستقبلتني بنظرة الرجاء المعتادة وهي مشفقة علي من الحزن الذي ينتابني بعد كل تحليل فاشل ، وزففت إليها البشرى وبكينا من الفرح طويلا .. وشكرنا الله كثيرا .. وقمنا نصلي لله ونشكر فضله .. وأسرعنا نزف الخبر إلى كل أحبائنا وعشنا أياما سعيدة كعروسين في مقتبل العمر ، وحدث الحمل بحمد الله وأصبحنا نخرج معا إلى الزيارات الطبية الدورية حيث يتابع الطبيب تطور الحمل ، ثم نخرج إلى الأسواق لنشترى للمولود أجمل الملابس وأجمل اللعب وأجمل سرير صغير بالأسواق .

 

ومرت شهور الحمل سعيدة مشحونة بالاهتمامات الجديدة وقد تغير طعم الحياة في بيتنا الصغير.

وجاءت لحظات الولادة التي مرت علي كدهر طويل .. قرأت خلاله كل ما أحفظه من آيات الذكر الحكيم وصليت وابتهلت ودعوت و بكيت ، وكاد قلبي في إحدى اللحظات يتوقف حقيقة لا مجازا .. ثم جاء الفرج وخرج إلى الوجود طفلنا جميلا لا يوصف جماله بشرته بيضاء تشوبها حمرة وعيناه سوداوان وشعره اسود ناعم كثيف ونظرت إليه وهو يمتص بشفتيه قطرات الماء الدافيء بالسكر في سعادة ، وضحكت في المساء حين أعطاه الطبيب قطرات الماء الدواء وهو يزم بشفتيه في تعبير عجیب بريء عن الامتعاض لمرارة الدواء.

ووقفت مبهورا سعيدا وسط أهلي وأصدقائي والجميع سعداء بنا وسعداء لنا .

 



 

ولكاتب هذه الرسالة أقول :

أنصحك بأن تتقبل أقدارك التي لا حيلة لك فيها لكي تستطيع دموعك المحبوسة أن تنساب فتطهر جراحك وتخفف من آلامك .

فالرفض الداخلي لما جرت به المقادير هو سبب حزنك المكتوم الذي  لا يعبر عن نفسه بالدموع .. والحزن المكتوم أشد وطأة على الناس من الحزن الصريح .. والدموع يا صديقي تطهر جراح البشر ، لهذا تهدأ عادة أحزان من يستطيعون البكاء بأسرع كثيرا جدا مما تهدأ أحزان  من حرموا نعمة البكاء والدمع نعمة فعلا .. ولولاه ما استطاع كثيرون احتمال آلامهم ولو لم يكن كذلك لما استودعه الله مآقي البشر ، وابن الرومي يقول في بيت فريد من عيون الشعر العربي:

 لم يخلق الدمع لامرئ عبثا

الله أدري بلوعة الحزن

فابك أولا يا صديقي ثم نناقش الأمر بعد ذلك .. لأقول لك أن علينا دائما أن نتقبل ما تسمح لنا به الحياة من أسباب السعادة .. وان نتطلع بعد ذلك بقلب خافت بالأمل والرجاء أن يتم الله نعمته علينا بما نحب وما نرجو .. فإن تحقق لنا ما أردنا شكرنا .. وإن حالت الظروف دونه صبرنا وتلفتنا حولنا نتلمس لأنفسنا السلوى والعزاء في كثير مما أفاءت علينا به الدنيا ، وأنت نفسك يا صديقي تعرف أن لكل إنسان ما ينقصه .. وأن في كل حياة "ولكن" ، لهذا فعلينا دائما أن نتقبل حياتنا وألا نسمح أبدا لما ينقصنا بأن يفسد علينا استمتاعنا بما بين أيدينا .. ومن حقنا بعد ذلك أن تخفق قلوبنا بالأمل وان نطمع دائما في رحمة الله التي وسعت كل شئ.

ولقد تحملت أنت الكثير حتى تلقيت الإشارة من السماء بأن أهم العقبات التي حالت دون اكتمل سعادتك قد زالت بأمر ربك .. ومعنى ذلك أن التجربة يمكن أن تتكرر فإن كانت ثمرتها الأولى فرحة لم تطل ، فلسوف تكون ثمرتها الثانية سعادة دائمة وزائرا مقيما يأسو الجراح ، ويمسح الآلام بإذن الله . ولقد أنبأتنا الحياة من قبل أن الرجل يستطيع أن ينسل حتى السبعين . . فتمسك بالأمل يا صديقي ، ولا تسمح للأحزان بأن تفسد حياتك , فإن كان صبح هذا اليوم قد ولى فإن غدا لناظره قريب .. ولسوف يعطيك ربك فترضى .. إنه نعم المولى ونعم النصير.

رابط رسالة فن الحياة تعقيبا على هذه الرسالة

رابط رسالة ذوبان الجليد مرسلة من كاتب الرسالة بعد عدة شهور

رابط رسالة أيام السعادة والشقاء تعقيبا على هذه الرسالة


 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1988

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات