أيام السعادة والشقاء .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988
توقفت طويلا أمام
عبارة جاءت في تعليقك على رسالة الأسبوع الماضي "رسالة زائر الصباح" تقول
فيها "إن علينا دائما أن نتقبل ما تسمح لنا به الحياة من أسباب للسعادة ،
فإذا تحقق لنا ما أردنا شكرنا ، وإذا حالت الظروف دون ذلك
صبرنا ولم نفقد الأمل أبدا فيما نرجوه لأنفسنا من حياة سعيدة" .. فقد أثارت
هذه العبارة ذكرياتي ودفعتني لأن اكتب لك قصتي فأنا شاب في الرابعة والثلاثين من
عمري .. نشأت في أسرة متوسطة الحال ولم استطع أن أكمل تعليمي فاكتفيت بقدر متوسط
منه وأديت الخدمة العسكرية وعينت بعد قليل فى إحدى الشركات . وفي هذه الفترة أعجبت
بي فتاة من جيراني وتبادلت معها الإعجاب وقررت أن أخطبها .. وعارضني أهلي في
البداية ثم وافقوا مضطرين مقتنعين بأن التجربة لن تطول لأسباب كثيرة .. وخلال فترة
الخطبة بدأت الخلافات تنشب بيني وبين خطيبتي .. وكانت كثيرة الشكوى مني وشديدة
الغيرة بلا سبب حتى تحولت علاقتنا إلى اتهام مستمر من جانبها لي ودفاع مستمر من
جانبي ولم أيأس .. وتوقعت أن تتولد الثقة بيننا بالمعاشرة .. لكن الخلافات
والمشاجرات تزايدت حتى لم يعد هناك مفر من الانفصال ، فانفصلنا وأنا حزين وكنت قد
وجدت عملا صغيرا في إحدى الدول العربية سافرت إليها لمدة عام وعدت في إجازة وخلال
وجودي في مصر أحسست بآلام تهد الجبال فذهبت إلى المستشفى فاكتشف الأطباء وجود
حصوات في الكلى وأنى أحتاج إلى جراحة عاجلة لإخراجها وشاءت في الظروف أن التقي في
المستشفى اثناء الفحص بشاب سبق أن تعرفت عليه خلال أدائنا معا للخدمة العسكرية ،
واكتشفت أنه يعاني من نفس حالتي وسيجري أيضا جراحة مماثلة لاستخراج حصوة واحدة ..
وقبل إجراء الجراحة قدمني زميلي لزوجته التي تعمل ممرضة بنفس المستشفى وأحسست
تجاهها بالاحترام من أول لحظة .. ثم حان موعد إجراء الجراحة ودخلنا غرفة العمليات
في نفس اليوم .. وأجرينا الجراحة واستخرج الأطباء من كليتي ٣١ حصوة في حين تفتت
حصوة صديقي أثناء الجراحة وقرر الأطباء تركها لتخرج بالطريق الطبيعي.
وبعد الجراحة جمعت بيننا في المستشفى غرفة واحدة فرعتنا زوجة صديقي معا من الصباح حتى المساء وقربت بيننا الظروف حتى صرنا أسرة واحدة .. وبعد الأيام الأولى العصيبة بدأت الآلام تخف وبدأنا نجد الوقت الطويل للكلام وتبادل الأحاديث وقد قربت الآلام بيننا فأصبحنا من أقرب الأصدقاء .. وكان خفيف الظل فكنا نمضي الساعات نضحك حتى تنزف جروحنا من شدة الضحك فتفزع زوجة صديقي وتطالبنا بالاعتدال ، وكانت إنسانة عطوفة ومحترمة بكل معنى الكلمة ومخلصة ومحبة لزوجها وعلى استعداد للوقوف إلى جانبه ، ومساعدة الغير، رغم حملها وضعفها وانتهت فترة النقاهة وخرجت من المستشفى وقد ارتبطت بصديقي هذا وزوجته ارتباطا وثيقا .
وسافرت إلى عملي
وغبت فيه لمدة سنة ثم عدت في الأجازة .. فكان أول ما فعلته هو أن توجهت إلى بيت
صديقي لأدعوه مع زوجته للخروج معي في نزهة .. ففوجئت بزوجته ترتدي السواد ..
والبيت يخيم عليه الحزن .. وعرفت أن رفيقي على طريق الآلام قد رحل عن الدنيا بعد سفري
بعدة شهور بسبب مضاعفات شديدة قضت على حياته وأن زوجته قد فقدت جنينها خلال الأيام
العصيبة التي عاشها زوجها بسبب إجهادها وسهرها إلى جواره طوال الليل فبكيته من
قلبي وواسیت أسرته وزوجته وغادرت بيت الأسرة حزيناً على هذا الصديق الذي لم تصدر
منه إساءة لأحد طوال معرفتی به.
و أمضيت أيام أجازتي في القاهرة مكتئبا حزينا .. ثم فجأة أحسست بآلام رهيبة تجعلني أعض بأسناني في الأرض ونقلت إلى المستشفى الذي تعمل به أرملة صديقی وعلمت من زميلاتها بوجودي فجاءت تمرضني وتوصي بي الطبيب لأني صديق زوجها الراحل .. وعشت أياما رهيبة كان الطبيب نفسه يطلب لي الرحمة خلالها من الآلام القاسية التي كنت أعانيها .. ومرت الأزمة بعد ذلك ، وخرجت من المستشفى على أمل إجراء جراحة أخرى لاستئصال حصوات جديدة بعد فترة .. وسافرت لعملي ثم عدت بعد 7 شهور لإجراء الجراحة ووجدت نفسي مدفوعاً إلى الذهاب إلى بيت صديقي الراحل لأقابل أرملته وأسألها عن أحوالها وصحتها .. ثم لأقول لها في ثبات إنني جئت لأجري الجراحة الثانية بعد أيام وأنه إذا شاءت إرادة الله لي أن أشفى وانهض من فراشي .. فسوف أتقدم طالبا زواجها .. وإنني أريد أن اعرف مدى قبولها للمخاطرة معي فقالت لي بتسليم إن الأعمار بيد الله .. وأنها لا تخشى الجراحة لكنها تريد أن تتأكد أني لم اظلم خطيبتي السابقة فشرحت لها قصتي معها واقتنعت .. ودخلت المستشفى وأجريت الجراحة ولازمتني هي من السابعة صباحا حتى العاشرة مساء تمرضني وترعاني وتخفف عني وتمالكت قواي بعد فترة وغادرت المستشفى وتوجهت إلى أسرتها وطلبت يدها واسترحت من اللحظة الأولى لأسرتها وسافرت مرة ثالثة إلى عملي واتصلت المراسلات والمحادثات التليفونية بيننا ثم عدت لاستأجر شقة صغيرة وعقدت قراني عليها وقررت الاستقرار في مصر وعثرت على عمل بإحدى الشركات .. وفي شهورنا الأولى من الزواج أصيبت هي بالتهاب رئوي شديد وحملت وأجهضت للمرة الثانية.
ولكاتب هذه الرسالة أقول :
صدقت يا صديقي فيما قلت من أنه بعد العناء لابد أن تأتي أوقات الراحة لأن ضريبة الألم ترشح المعذبين لنيل نصيبهم العادل منها .. لأن لكل إنسان سعادته الخاصة التي قد لا يفهمها ولا يقدرها حق قدرها غيره .. فنظرتنا إلى الحياة .. وتقديرنا الشخصي للأمور هما اللذان يحددان استجابتنا للأحداث والأسباب .. لهذا نرى في الحياة كثيرين لا يستشعرون السعادة في حياة قد تتوافر فيها أسبابها بالمقاييس العادية، ونرى كثيرين أيضا يستشعرون الرضا في حياة تبدو أسباب الشقاء فيها أكبر وأقوى .. لأن السعادة إحساس داخلي أكثر منها ظروف خارجية . ولأن تقبلنا للحياة تصنعه أفكارنا نحن مهما كانت كؤوس السعادة والشقاء فيها .. فإذا تقبلنا ما لا حيلة لنا فيه كنا سعداء مهما بدا للآخرين غير ذلك .. وإذا عجزنا عن تقبله كنا تعساء مهما بدا للآخرين غير ذلك ويبدو أن هناك نوعا من الإرادة البشرية على غرار إرادة الحياة التي تدفع الإنسان للتمسك بها ومقاومة أسباب الفناء .. هو إرادة السعادة التي تدفع الإنسان لالتماسها في أي شيء مهما بدا صغيرا .. لهذا قال إبراهام لنكولن .. ينال الناس من السعادة بقدر ما يعقدون إرادتهم على أن يكونوا سعداء .. وقال الشاعر الكفيف ملتون : يستطيع عقل الإنسان أن يخلق جحيما من الجنة ، وجنة من الجحيم وهذا صحيح إلى حد كبير لأن المعاناة الإنسانية واحدة غالبا .. لكن استعداد البشر لتقبلها والتكيف معها هو الذي يختلف ولقد أصبحت من كثرة ما تعاملت مع هموم البشر وآلامهم أميل إلى الاعتقاد بأن هناك أشخاصا قادرين على الإحساس بالسعادة مهما كابدوا من آلام ، وأشخاصا غير قادرين على ذلك مهما أسبغت عليهم الحياة من أسباب السعادة . فأصبحت أقول مع القائل : أنت ما تفكر وما تحس .. إزاء ما يقابلك في الحياة من شدائد وآلام كن كنودا تر كل ما تواجهه جبالا راسيات يستحيل صعودها .. وكن راضيا مستبشرا ترها عقبة ككل العقبات التي مرت بنا وتخطيناها وأصبحت ذكرى من ذكرياتنا. ومن يمش هونا .. يمشي دهرا كما تقول الحكمة الصينية .. ومن يهرول ويتعجل كل شيء يسقط ويتعثر ويعجز عن استكمال المشوار فاهنأ بحياتك وبزوجتك العطوف المحبة وبطفليك اللذين أضاءا حياتكما بعد طول عذاب وليكتب الله لك الشفاء الكامل بإذن الله لتكتمل لك أسباب السعادة، لأنك جدير بكل ذلك فعلا .. والسلام.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1988
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر