الحركة الخاطئة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

الحركة الخاطئة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994 

 الحركة الخاطئة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

الإنسان معذّب دائمًا برغباته وأمنياته ولا حدّ لمطالبه من الحياة. 

عبد الوهاب مطاوع

·˙

أنا مهندس زراعي تزوجت منذ عشرين عامًا .. وكانت زوجتي ابنة مميزة لتاجر صديق لأبي وهو تاجر أيضًا ، وقد تقدمت لخطبتها وهي في السادسة عشرة من عمرها ، وعلى قدر كبير من الجمال والأناقة ولها شخصية قوية زادت من وضعها المميز لدى أبيها .

 

ومنذ عقد القران وقبل أن يجمعنا بيت واحد بدأ الصدام بيني وبين مخطوبتي أو زوجتي واستمر 5 سنوات كاملة استغرقتها فترة الخطبة والقران .. ودار طوال هذه السنوات حول مسئولية الزوجة في الزواج ، فقد كان من رأيها دائمًا أن أية مسئولية تُشتمّ فيها رائحة "خدمة الزوج" مرفوضة نهائيًا لأنها لن تكون "خادمة" لأحد أبدًا تحت أي مسمى ، واستمرت "المناظرات" بيننا حامية وكانت تساندني فيها أمها وشقيقها الذي طالما حذرني من تمرد شقيقته وتسلطها .. ونتيجة لذلك ولأسباب أخرى حدثت بعض المشكلات بيني وبين زوجتي ووصلت إلى مرحلة الطلاق قبل الزفاف ثم عادت المياه إلى مجاريها بيننا ، وواصلت معها المشوار لأني كنت برغم أفكارها عن الزواج أحبها بجنون بينما لم تكن هي للأسف تبادلني الشعور نفسه .

 

وجمعنا عش الزوجية في النهاية وبعد الزواج بدأت المشكلات تظهر على السطح بيننا من جديد وكان محورها الأساسي هو محاولتها التسلط والسيطرة عليّ ومحاولاتي أنا لترويضها ، وبعد شهور قليلة من الزواج وقع الطلاق الثاني في حياتنا الزوجية بسبب تحديها لإرادتي ثم عادت المياه لمجاريها بيننا من جديد وحملت زوجتي ففوجئت بها تحاول إجهاض نفسها بطرق بدائية كالقفز من مكان عالٍ إلى الأرض ، وفهمت المغزى المؤلم لمحاولاتها هذه وازددت إحساسًا بالألم فقد أدركت من ورائها أنها لا تريد استمرار حياتها معي ولا ترغبها .. ومن عجب أن الإجهاض قد تم فعلاً ليس بسبب محاولاتها وإنما لأنها واجهت ظروفًا صحية طارئة اقتضت إجهاضها لعلاجها منها .. ومع ذلك فلم أكف عن محاولة استمالتها وإرضائها .. وكانت تستجيب لي في بعض الأحيان .. ثم تعود للتمرد والجفاء ومحاولة السيطرة من جديد .

وبعد عامين أنجبنا طفلة .. وبدأ سلوكها تجاهي يتغير نسبيًا ولم يكن تغير معاملتها لي صادرًا عن حب نما فجأة في قلبها وإنما عن قبول بالأمر الواقع ، ومحاولة للتعايش معه ، ومع ذلك فلقد سعدت بتغيرها معي قليلاً ورضيت به .

 

فقد كنت أتلهف إلى لمسة حب أو حنان من جانبها تقابل فيضان الحب الذي أحمله لها في قلبي ، وأغدقه عليها ولا أتلقى مقابله أي عطاء عاطفي وتخرجت زوجتي وعملت وأسهمت بجزء من مرتبها في تكاليف حياتنا دون طلب مني ، والحق أنها لم تكن ترهقني بما لا طاقة لي به ، لكني كنت أتفانى في محاولة إسعادها بمواردي البسيطة .

 

وبعد سنوات من العمل وجدت أن مرتبي الحكومي غير قادر على تلبية احتياجاتنا ، خاصة أننا كنا نرفض أن نتلقى أية مساعدة من أبيها أو أبي ، وهما ميسوران ، فبدأت أفكر في طريقة عملية لزيادة دخلي وأتيحت لي فرصة الحصول على أرض بمشروع الخريجين فتمسكت بها واستقلت من عملي الحكومي وحصلت على ثلاثين فدانًا في أرض المشروع ، فكنت أقيم فيها بضعة أيام كل أسبوع وأعود لزوجتي وأولادي في نهايته .. وبدأت أحوالنا المادية تتحسن كثيرًا ليس لنجاح المشروع ولكن لأن الحكومة كانت تصرف لنا قروضًا لاستصلاح الأرض  وبناء المنشآت اللازمة فيها فقمنا – أنا ومعظم زملائي – بالاستفادة بها في تخفيف جفاف حياتنا وأنفقنا جزءًا كبيرًا منها على أنفسنا وليس على الأرض .. لهذا فاجأتنا الحقيقة المرة بعد سنوات قليلة وهي أن الأرض تخسر لأننا لم ننفق عليها الإنفاق الكافي .

وعادت أحوالنا المادية للتدهور من جديد فأنقذني الله بعقد عمل في إحدى الدول العربية وسافرت تاركًا الأرض في رعاية صديق لي .

 

وفي غربتي : حرمت نفسي من كل شيء لأرسل لزوجتي كل ما أستطيع ادخاره . وعشت عامين في الغربة كنت خلالهما أرسل إلى زوجتي الرسائل العذبة الملتهبة أبثها فيها حبي وشوقي ولهفتي عليها وعلى الطفلتين فلا تجيب إلا بالقطارة .. ثم انتهت تجربة الغربة بعد عناء شديد وعدت إلى مصر فوجدت الموقف لم يتحسن في الأرض لأن المدخرات التي أرسلتها من الخارج أنفقتها زوجتي على ضروريات حياة الأسرة من وجهة نظرها ولم يبق منها للأرض شيء كثير .

 

وفي لحظة يأس من تحسن الأحوال ومن قدرتي على أن أوفر لزوجتي مستوى الحياة اللائق بها خاصة وهي الحريصة دائمًا على المستوى الاجتماعي ، عرضت عليها الطلاق وأن أترك لها البيت والمعاش البسيط وكلما تمكنت من تحقيق أي دخل من الأرض أرسلت لها كل ما أستطيعه ، لكنها رفضت العرض مشكورة .. وقررت أن أعطي كل وقتي لمشروع الأرض ، وأن تستمر زوجتي وأولادي في القاهرة حيث مدارسهم وحملت ملابسي وهجرت البيت إلى الأرض ، وأقمت فيها وبدأت أعمل فيها بجدّ وبيدي وواجهتني متاعب المعيشة هناك ، طعام وغسيل ! إلخ ، وثقلت عليّ وحدتي وإحساسي بالوحشة وشعوري بأن زوجتي لا تحبني بالرغم من كل ما حملته لها دائمًا في قلبي من حب منذ كانت صبية في السادسة عشرة ولم أجد في رفضها للطلاق ما يرضيني كرجل ، وفسرت رفضها بأنه استشعار لمسئوليتها عن أولادنا ورغبة منها في ألا تمزقهم بيننا وليس عن حب أو تمسك بي ، ومن خلال احتكاكي بزملائي المهندسين الذين حصلوا على الأرض في نفس المشروع وبالفلاحين الذين يعملون معي هناك ، كان الرأي الذي يتردد كثيرًا على ألسنتهم هو أنه لا حل لمشكلاتي إلا بالزواج من فتاة ريفية صغيرة من أهل المنطقة ليكون لي بيت هادئ في منطقة الأرض ، وأدهشني أنني قد وجدت أكثر من نصف هؤلاء المهندسين الجامعيين المتعلمين الذين تركوا المدن وأقاموا هناك قد تزوجوا جميعًا في منطقة المشروع من زوجات ريفيات أميات ومن عائلات فقيرة بغير علم زوجاتهم في المدن التي جاءوا منها .

وبدأت أفكر في هذا الأمر جديًا .. ولست أخفي عليك أن الفكرة قد لاقت قبولاً لديّ ، لأسباب أخرى غير ما أشار إليه الزملاء من حل مشكلات المعيشة في أرض المشروع ، فقد كانت هناك أسباب أخرى لا تقل أهمية هي حاجتي لأن أشعر – وبعد أن تخطيت الأربعين – أن هناك من سوف يشعرني بأنه يريدني ويرغبني .. بل "ويفرح" بالزواج مني ، ولست أنا وحدي الذي أرغبه وأبثه عواطفي وأخطب وده من سنوات عديدة دون إشارة حب تجاهي من جانبه .

واخترت فعلاً فتاة ريفية أمية صغيرة كان والدها يشاركني في زراعة الأرض ، وهو من أعماق الجنوب ، وعرضت عليه فوافق ببساطة ، وقرأنا الفاتحة في احتفال بسيط ، وكان المطلوب مني تجهيز بيت الزوجية في خلال أسابيع فقمت ببيع فدانين من الأرض وبدأت أستعد للزواج ، وفي تلك الفترة كانت زوجتي قد بدأت تتحمل المسئولية كاملة عن الأولاد ولا تطالبني بأكثر مما أرسله لها وحملت أيضًا في طفلنا الثالث فإذا بالشيء المفقود الذي طالما حلمت به وانتظرته 14 عامًا يظهر فجأة في حياتنا ودون سابق إنذار ، فلقد بدأت زوجتي تحبني يا سيدي لأول مرة وتعاملني بحب وعاطفة صادقة وحنان !

 

وفي كل يوم يزداد الحب والعطف حتى أصبحت حياتي العائلية في القاهرة حين أعود إليها نموذجًا للحياة السعيدة التي اشتهيها كل هذه السنين !

 

وبدأت أفكر في التراجع عن إتمام مشروع زواجي من الصبية الريفية الصغيرة ولكن بماذا أبرر إنهاء مشروع الزواج أمام المجتمع الريفي الذي أعيش وسطه هناك ؟ فبدأت أؤخر إتمام الزواج بقدر الإمكان على أمل أن أجد مخرجًا كريمًا منه وكنت آمل أن يرزقني الله من زوجتي بولد فوضعت حملها فكانت بنتًا ثالثة ، وعرف المحيطون بي في الأرض ذلك فتمنوا لي أن يهبني الله الولد من "الزوجة الجديدة" فإذا بي أقدم على إتمام الزواج منها ، وعلم بزواجي الجديد أبي فلم يلمني بل هوّن عليّ الأمر ونصحني بعدم إبلاغ زوجتي الأولى لأتجنب المتاعب .

 

وتدخلت الصدفة في عدم وصول الخبر إليها فقد عدت إلى بيتي في القاهرة بعد فترة فوجدت البواب يعطيني خطابًا وصل منذ يومين باسم زوجتي ، لا أعرف لماذا لم يسلمه لها في يدها وفتحته فإذا به إخطار من المأذون لها بزواجي الثاني ! فأخفيت الخطاب وتكتمت الأمر عنها ، وبدأت أتنقل بين القاهرة والأرض وبين زوجتين وحياتين مختلفتين في كل شيء .. فالزوجة الثانية ينحصر مفهومها عن الزواج في خدمة الزوج وتربية أبنائها ، وليست لها أي مطالب سوى الطعام العادي والملبس العادي وتحبني بصورة غير عادية لأني نموج مختلف عن وسطها العائلي وتحاول إرضائي بحسن الخدمة ، وعدم إرهاقي بالمطالب .. وبعدم الطمع في شيء وبعدم التدخل في أمور حياتي الأخرى والزوجة الأولى موقفها معروف واعتزازها بأسرتها وتعليمها ومستواها المادي والاجتماعي معروف ، وكان دخل الأرض مازال غير كافٍ فبدأت مرة أخرى ببيع أجزاء صغيرة منها ، جزءًا وراء جزء إلى أن بعتها كلها واشتريت سيارة نصف نقل وسلمت لزوجتي مبلغًا كبيرًا من ثمن الأرض لشراء شهادات تدر علينا دخلاً ثابتًا فوضعت نصفه باسمها ونصفه باسمي ولم أغضب لذلك لأنها كانت قد أنفقت الكثير من ميراثها ومرتبها خلال السنتين الأخيرتين ، ثم أقنعت أبي  بأن أشرف على أرضه القريبة من أرضي السابقة لأتمكن من رؤية زوجتي الأخرى والطفلين اللذين أنجبتهما لي وهما ولد وبنت لكن زوجتي بدأت تضيق بسفري المتكرر وتطالبني بالتخلي عن أرض أبي للتفرغ لأسرتنا .. وتلمح بذلك لأبي ، ولم تكن العلاقة بينهما طيبة فإذا به يصدمها بخبر زواجي الآخر ، فوقع الخبر عليها كالزلزال ، وطالبتني بالطلاق على الفور ووافقتها مستسلمًا برغم أني شرحت لها ظروفي التي دفعتني إليه كاملة .

 

واتفقنا على أن أترك معاشي من وظيفتي السابقة والمسكن والسيارة ،وبدأت في استخراج شهادة زواج جديدة لكي يتم الطلاق لأن قسيمة الزواج الأصلية كانت مفقودة ، واستخرجت الشهادة بعد أسبوع وانتظرت زوجتي في الموعد المحدد للذهاب إلى المأذون لإتمام الطلاق ، وجاءت فإذا بي أرى أمامي زوجة محبة والهة برغم أنها مجروحة في كبريائها وعواطفها وقالت إنها برغم جرحي لها كانت تفتقدني بشدة وتريد أن تشكوني إليّ وتتكلم معي طويلاً وعدت معها إلى البيت لنتكلم بصراحة عن حياتنا ، فأمضينا أربعة أيام كاملة لم نغادر البيت ، لم نكف خلالها عن الكلام عن كل شيء في حياتنا منذ أول لقاء لنا حتى آخر موقف ولم نكد ننام فيه إلا ساعات قليلة ، وطلبت مني أن نحاول الحفاظ على حياتنا وماضينا ومستقبلنا وكانت شروطها أن أطلق زوجتي وأتخلى عن أرض أبي وأقاطعه وأن أبقى معها في القاهرة وأحاول البحث عن أي عمل فيها وأن أرعى بيتنا وبناتنا وأهتم بمظهري ، وأن نعيش في حدود مرتبها وعائد الشهادات التي وضعتها باسمها – بعد أن بددت أنا معظم ما كان باسمي في أرض أبي وأشياء أخرى – والمعاش إذا تعذر إيجاد عمل لي فإنها تعرض عليّ ميراثها لأشارك به أحد أشقائها في أي مشروع مناسب وفكرت كثيرًا فوجدت أن التخلي عن ارض أبي التي وضعت فيها ما بقي لي من مدخرات أمر صعب ، ومقاطعته أيضًا غير مقبولة وطلاق زوجتي الأخرى بعد أن أنجبت لي بالفعل ولدًا وبنتًا حرام لأنه لا ذنب لها فيما حدث ، كما أنه تصحيح لخطأ بخطأ آخر ، وسينتج عنه أن يتربى أبنائي منها في بيئة غير ملائمة بعيدًا عني ، كذلك فإن كرامتي لا تسمح لي باستثمار ميراثها في مشروع قد ينجح وقد يفشل وهو مبدأ مرفوض .




أي إذا حسمت الأمر ونجحت في قطع رابطة الزوجية بيني وبين الأخرى .

 

فماذا تقولي لي ولها في مشكلتنا ؟

 

 

ولكاتب هذه الرسالة أقول :

للمفكر الفرنسي مونتسكيو كلمة يقول فيها : "ليس هناك شخص لا يزوره الحظ السعيد ولو لمرة واحدة في حياته لكنه إذا لم يجده على أهبة الاستعداد لاستقباله فإنه يدخل من الباب ويخرج من النافذة!"

وأنت يا صديقي قد زارك الحظ السعيد بعد طول انتظار حين تفجرت شرارة الحب فجأة في قلب زوجتك ، وبدأت تبادلك مشاعرك العاطفية ، وأصبحت حياتك العائلية معها حياة مثالية كما تشتهيها من قبل طوال 14 عامًا ، فلماذا أضعت هذه الفرصة الذهبية .. ولماذا لم تعدل عن مشروع زواجك الثاني فتنعم معها بالاستقرار العائلي والعاطفي ، ومن يدري فلربما كان قد أطلق ملكاتك وساعدك على تحقيق النجاح الذي تسرب من بين يديك أكثر من مرة ؟

 

نعم لماذا ، وقد تحققت الأمنية الغالية أخيرًا – أثقلت نفسك ومشاعرك ومواردك المحدودة بزوجة جديدة وأبناء جدد وبالتخبط بين بيتين وحياتين وبيئتين متنافرتين ؟ هل تعرف السبب الحقيقي وراء ما صنعت بنفسك وبحياتك بإقدامك على هذا الزواج الثاني غير المتكافئ بالمرة ؟

 

إنه حلم إنجاب "الولد" بعد البنات للأسف .. ولو كانت زوجتك الأولى قد وضعت حملها الثالث "ولدًا" لما أتممت هذا الزواج العجيب ، ولوجدت ألف سبب للاعتذار لوالد الصبية الريفية عن عدم إتمام المشروع لكن الإنسان معذب برغباته دائمًا ولا حد لمطالبه من الحياة للأسف ! لقد كنتُ متعاطفًا معك طوال النصف الأول من رسالتك ، لكنك فقدت تعاطفي في اللحظة التي مضيت فيها في مشروع الزواج الثاني بدافع الرغبة المحمومة في إنجاب الولد مع أن هذا الأمل كان قائمًا أيضًا من زوجتك الأولى حتى اللحظة الأخيرة لأن الرجل هو الذي يحدد نوع الجنين وليست المرأة كما قلنا مرارًا وتكرارًا .

 

وهكذا أسهمت في تعقيد ظروفك ومضاعفة مسئولياتك وأسأت إلى نفسك وإلى زوجتك الأولى وبناتك بهذا الزواج غير المتكافئ .

 

أما إخفاؤك أمر هذا الزواج على زوجتك الأولى وتحايلك على إبقائه سرًا فهو خطأ آخر في ميزان أخطائك ، ولقد كان الإنصاف يطالبك بإبلاغها به في حينه أو على الأقل بعدم التحايل على حجبه عنها لترى رأيها فيه وتختار لنفسها الاستمرار معك أو الانفصال عنك ، فحجب المشكلات أو تأجيلها .. لا يسهم أبدًا في حلها أو في تخفيف آثارها ونما يزيد من تعقيدها فتتضخم تحت السطح كما يتضخم جبل الجليد تحت الماء فما تدري السفينة إلا وقد اصطدمت به وانشقت نصفين أمامه !

 

والآن يا صديقي فقد اصطدمت سفينة حياتك العائلية الأساسية بهذا الجبل الرهيب وتوقفت أمامه .. فأين المفر ؟

 

لقد كتبت لي زوجتك رسالة طويلة لا تختلف كثيرًا في روايتها للوقائع عما رويته أنت لي لكنها تفيض في التعبير عن مشاعرها وما تحس به من معاناة نفسية لخداعك لها سبع سنوات كاملة .. وفي تأكيد مشاعر حبها لك الذي انتفض عملاقًا منذ سنوات ، ثم في تأكيد أيضًا استحالة قبولها للأمر الواقع والتعايش معه ، وتخلص من رسالتها إلى أن الحل الأمثل للمشكلة هو أن تطلق الزوجة الثانية وتدع طفليك لديها وترسل لها مبلغًا عادلاً كل شهر وقد روت أنك وافقت على ذلك ثم عجزت عن تنفيذه .

 

ورأيي أنه لا داعي لطلاق زوجتك الأولى ولا زوجتك الثانية .. ذلك لأن خطأك قد استعصى على الإصلاح الآن .. وأصبحت أي محاولة لإصلاحه تنذر بضرر أكبر لأحد الطرفين : الزوجة الأولى .. أو الثانية .. فحسمك للمشكلة كما فهمت من رسالة زوجتك الأولى بطلاقك لها خطأ أبشع من خطأ زواجك الثاني ، وطلاقك للزوجة الثانية البسيطة التي تزوجت بولاية أبيها ولم تتصور أنها ترتكب شيئًا خطأ لا يقل بشاعة الآن عن خطأ زواجك منها لأنه يشرد طفلين بريئين ، ويحرمهما من حقهما العادل في أن ينشآ نشأة أفضل تحت رعايتك .

إنه وضع شديد التعقيد كوضع المصاب الملقى في الطريق والذي يؤدي تحريكه أية حركة خاطئة إلى تعريضه لخطأ أكبر مما أصابه .. ولا مفر في مثل هذا الوضع الشاذ من بقاء الحال على ما هو عليه وترويض النفس على قبوله برغم شذوذه وغرابته ، ولا مفر أيضًا من مطالبة زوجتك الأولى بأن تنظر إلى الأمر كله نظرة أكثر شمولاً ورحمة بهذين الطفلين البريئين فأمهما ليست مؤهلة فعلاً لتنشئتهما وحدها تنشئة أفضل ، وهما في النهاية أخوان لفتياتها الثلاث شئن ذلك أم أبين .. ولأن ينشأ نشأة فاضلة وصحيحة برعاية أبيهما أفضل كثيرًا لبناتها في المدى البعيد من أن يظهرا في حياتهن فجأة في المستقبل ، وهما على حال من الجهل وربما الانحراف يثير خجلهن أو يحط من أقدارهن لدى أزواجهن ولدى الآخرين ، لهذا لا مفر من أن يتحمل الأب مسئوليته عنهما ولم لم تكن قد أنجبت من زوجتك الثانية هذه لما ترددت لحظة في تأييد زوجتك الأولى في شرط طلاقك للأخرى مع تعويضها التعويض العادل .

 

فأعيدا معًا التفكير في الأمر كله .. على هذا الضوء ، واتركا للأيام فرصتها العادلة لأداء دورها في هذه المشكلة فهي وحدها القادرة على إيجاد الحل "المثالي" لما تعجز العقول أحيانًا عن فهمه أو استيعابه .. ناهيك عن حلّه حلاً مثاليًا .. وشكرًا !


  *نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1994

كتبها من مصدرها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات