سـر التحـول .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999

 

سـر التحـول .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999

سـر التحـول .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999

الحجر الصلد "كغيره من الأحجار الجيرية يتكون من ذرات صغيرة , تتجمع فى البداية حوا نواة أولية ثم تتراكم عليه الإضافات الجديدة يوما بعد يوم ..فتتماسك معها وتلتحم معها وتزداد صلابتها على مر السنين إلى أن يأتي وقت يتعذر فيه تفتيتها وإزالتها إلا بقوة ضاغطة هائلة .

عبد الوهاب مطاوع

 

أنا رجل في الرابعة والأربعين من عمري ‏..‏ تزوجت منذ ستة عشرة عاما من إنسانة طيبة‏,‏ كانت أختا لصديق لي‏,‏ وكان والدي يحب صديقي هذا من بين كل أصدقائي فرشح لي شقيقته للزواج منها قبل أن يراها‏..‏ ورحبت أنا بهذا الترشيح قبل أن أتحدث معها أو أعرفها عن قرب‏,‏ وتزوجنا وأقمنا في البداية مع والدة زوجتي‏..‏ ثم انتقلنا بعد فترة إلى شقتنا التي أعددناها لتكون عشا للزوجية وانتقلت والدتها معنا حيث كانت تستريح للإقامة بيننا‏,‏ وأنجبنا طفلنا الأول‏,‏ وبعد مجيئه إلى الحياة رفضت زوجتي الإنجاب مرة أخري وتمسكت بذلك لمدة ثماني سنوات كاملة إلى أن اقتنعت بضرورة إنجاب شقيق أو شقيقة أخرى لابننا الوحيد‏,‏ فأنجبنا طفلنا الثاني وبلغ من العمر الآن سبع سنوات‏,‏ ومنذ الأيام الأولي لزواجنا ملكت علي زوجتي قلبي وعقلي وكياني بأخلاقها الكريمة وطيبتها وأصالتها‏,‏ حتى أصبحت بعد فترة قصيرة من الزواج أهيم بها حبا‏,‏ ولا أضع أية إنسانة أخرى في الوجود موضع المقارنة معها‏,‏ وأحرم علي نفسي مجرد النظر إلى غيرها من النساء أما هي فلقد اعتبرتني أيضا كل شيء في حياتها‏,‏ وملكت عليها أنا كذلك قلبها وعقلها وكيانها‏,‏ حتى كانت تتصل بي في عملي من عملها لتبثني شوقها وافتقادها لي الساعات القليلة التي فصلت بيننا‏..‏ ومضت بنا الحياة سعيدة وجميلة وهادئة على هذا النحو‏..‏ وأنا لا أقصر في بذل الجهد لإرضاء زوجتي وتخفيف الأعباء عنها‏,‏ فكنت مهما تأخرت في العمل ليلا أحرص على الاستيقاظ في السادسة صباحا لإعداد الشطائر للولدين‏..‏ والإفطار لزوجتي‏..‏ ثم اصطحب الولدين للمدرسة وأترك سيارتنا الصغيرة أمام مدرستهما وأهرول إلى عملي‏,‏ وعند انتهاء الدراسة أرجع إليهما فأصطحبهما ثم أتوجه إلى عمل زوجتي واصطحبها إلى البيت ونرجع معا‏,‏ فلا استريح سوى لحظات ثم أهرول عائدا إلى عملي‏,‏ هذا بخلاف قيامي بشراء كل مستلزمات البيت‏..‏ والاستجابة لرغبة زوجتي ووالدتها في شرائها من أماكن محددة بعينها على مسافات بعيدة ومختلفة فالخبز لابد من إحضاره من فرن خاص يبعد عن منزلنا‏12 ‏كيلومترا بالسيارة‏,‏ واللحم لابد من شرائه من جزار بعينه على مبعدة‏11‏ كيلومترا في اتجاه مختلف‏..‏ والبقوليات من محل محدد على مسافة‏ 15 كيلومترا‏,‏ وكذلك الخضراوات والدجاج والأسماك والبقالة كل منها من مكان معين لا بديل له في مكان مختلف وبعيد وفي مواعيد عمل مختلفة‏,‏ حتى المياه الغازية كان لها أيضا مكان أفضل من غيره لشرائها منه‏,‏ مع إنها تعبئة واحدة ومن خط إنتاج واحد‏,‏ لكني رأيت ذلك يرضي زوجتي ووالدتها فكنت استجيب لما تطلبان واحضر لهما ما تريدان من الأماكن التي يفضلانها إلى جانب تحملي لمسئولية نظافة الشقة وحدي ومعاناتي في سداد أقساط شقة أوسع نخطط للانتقال إليها‏,‏ واختلاف مواعيد نومي تبعا لتغير ورديات العمل‏,‏ ثم بدأت في الفترة الأخيرة ألاحظ إهمال زوجتي لي وتجاهلها على غير سابق عادتها لغضبي إذا غضبت منها لأي سبب من الأسباب العابرة وتركها لي دون سؤال عن سبب غضبي وانفعالي إلى أن أبدأها أنا بالكلام والعتاب كما بدأت تتجاهل محاولاتي الخفية للحديث معها في أي شيء‏,‏ بكبرياء راح يتزايد مع الأيام‏,‏ فإذا انتهى هذا التجاهل بانفجاري فيها وسبابي بكت وراحت تشكو من أنها مظلومة وأنني دائم العصبية بلا سبب‏,‏ ثم يتدخل شقيقاها ويسمعان منها ومن والدتها ومني‏,‏ فيجدان اللوم واقعا عليها لتجاهلها لي وتركها للأمور حتى تصل إلى حافة الانفجار‏,‏ وقد تكرر هذا الموقف منذ أربعة أشهر وجاء شقيقها فشهدت لي والدة زوجتي بأنني لم أقصر في حقها في شيء بل إنني حتى في حالة الخصام أعد لها طعام الإفطار واحضرها بالسيارة من العمل‏,‏ فلام شقيقته وغضب منها‏.‏ وانهارت هي ورفضت اللوم فاتفقت مع شقيقها على أن أترك لها البيت إلى أن تهدأ أعصابها وانتقلت إلى بيت والدتي‏,‏ وأمضيت به ثلاثة أيام‏,‏ مرت علي كأنها ثلاثة أشهر دون أن يسأل عني أحد من زوجتي أو أبنائي فاتصلت بشقيقها واقترحت عليه أن أرجع إلى بيتي وان تنتقل هي للإقامة لديه لبعض الوقت حرصا على انتظام الأبناء في الدراسة وإلى أن ترجع المياه إلى مجاريها بيننا‏,‏ ورجعت للبيت وفوجئت بأن والدة زوجتي قد غادرته مع ابنتها وكنت قد طلبت بقاءها معي ومع الأبناء‏,‏ وبعد يومين جاء شقيق زوجتي ليبلغني بإصرار زوجتي على الانفصال وطلب الطلاق‏,‏ وانهرت حين سمعت ذلك ورفضت بشدة وطلبت منه التروي لأنه ليس هناك سبب جدي يدعو إليه وكثيرا ما تشهد الحياة الزوجية خلافات أكبر من ذلك ثم تستمر وتتواصل بلا عناء‏..‏ لكن كل المحاولات مع زوجتي لإثنائها عن رغبتها باءت كلها بالفشل‏,‏ ومنذ أربعة أشهر لم يمض أسبوع واحد دون أن أرسل إليها فضلاء الأقارب والمعارف للتوسط بيني وبينها لإقناعها بالعودة دون جدوى‏..‏ وقد تركت الأبناء طوال هذه الفترة معي وهي تعلم ظروف عملي التي تضطرني لتركهم في الليل في كثير من الأحيان‏,‏ ومنذ أسابيع جاءت إلى البيت وطلبت مني الطلاق وهددتني بأني إن لم استجب لطلبها فإنها سوف تنتحر‏,‏ وطلبت من ابنيها أن يقنعاني بطلاقها وإلا فإنها سوف تنتحر‏..‏ ويعيشان وأعيش أنا وهما ونحن نحمل ذنبها في أعناقنا‏!‏ وانهار الولدان باكيين وهدأت من روعهما لكنهما مرضا بعد ذلك لمدة‏ 15 يوما لم يرق خلالها قلبها لهما أبدا‏!‏

 



 لكنها ترفض كل ذلك وتقول إنها لم تكن سعيدة معي وتروي أشياء صغيرة من تراكمات‏16‏ سنة من الزواج كنت قد نسيتها تماما ولا أراها تستحق أن يتذكرها أحد‏..‏ لكنها تحفظها عن ظهر قلب وتعيد روايتها بتفاصيلها العجيبة ولا تقتنع بكلام الأهل والأقارب والأصدقاء‏..‏ وتصر على أن تفقد أكثر ثلاثة أشخاص في الوجود يكنون لها كل الحب والإعزاز وهم أنا والولدان فماذا أفعل لكي استعيد زوجتي وسعادة أبنائي واستقرارهم‏..‏ إنني لست ممن يبيعون العشرة بسهولة حتى ولو باعتها زوجتي‏,‏ ومازلت آمل في أن يهديء الله النفوس ويفتت هذا الحجر الصلد الذي تكون داخل صدر زوجتي حتى ما عادت تهتم برؤية الولدين وتصرح بأنهما إذا كانا لا يريدانها فإنها هي الأخرى لا تريدهما‏..‏ فهل تستطيع لي شيئا يمنع هذا البيت من الانهيار؟

 

ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:

إن لم استطع لك شيئا وقد فشلت كل الجهود والمساعي بما فيها جهود رجل الدين الجليل الذي أشرت إليه في إقناع زوجتك بالتنازل عن رغبتها العنيدة في الانفصال عنك‏,‏ فلعلي استطيع على الأقل أن أفسر لك بعض ما غمض عليك فهمه من سر تحولها المفاجيء عنك وقد كنت تظن كما تقول انك قد ملكت عليها قلبها وعقلها وكيانها كما ملكتها هي عليك بالفعل‏.‏

فالحجر الصلد الذي تقول انه قد تشكل في صدر زوجتك كغيره من الأحجار الجيرية يتكون من ذرات صغيرة‏,‏ تتجمع في البداية حول نواة أولية ثم تتراكم عليها الإضافات الجديدة يوما بعد يوم‏..‏ فتتماسك معها‏,‏ وتلتحم بها وتزداد صلابتها على مر السنين إلى أن يأتي وقت يتعذر فيه تفتيتها وإزالتها إلا بقوة ضاغطة هائلة‏.‏

وآفة العلاقات الزوجية في كثير من الأحيان‏..‏ هو أن طرفيها أو احدهما قد لا يبادر بإزالة هذه الذرات الجيرية الضئيلة في بدايتها‏,‏ مستعينا علي ذلك بالرغبة المشتركة في السعادة وإنجاح الحياة الزوجية‏..‏ وروح التسامح‏..‏ ونسيان الإساءات الصغيرة‏,‏ فتكون النتيجة هي أن تتراكم هذه الذرات تحت السطح‏,‏ وتستقبل المزيد والمزيد‏,‏ وتساعد الذاكرة غير المتسامحة على اختزانها والحفاظ عليها‏..‏ إلى أن تأتي لحظة فاصلة يشعر فيها أحد الطرفين وكأن حجرا هائلا قد جثم فوق صدره وحال بينه وبين التواصل مع شريك حياته‏,‏ فإذا كان من أهل العطاء وإنكار الذات من أجل سعادة أبنائه تجرع علقم الانفصال الروحي عن شريكه صابرا ورضي بحياته كما هي عليه مفضلا سعادة أبنائه علي سعادته‏,‏ وإذا كان من طالبي السعادة الشخصية ولو على حساب أمان أبنائه‏,‏ فوجيء الطرف الآخر بتحوله المفاجيء عنه وإصراره على الانفصال عنه فوقف أمامه ذاهلا وعاجزا عن الفهم والتفسير‏!‏

والخلاصة هي أننا لا نحسن في بعض الأحيان فهم دخائل نفوس شركاء الحياة وحقيقة مشاعرهم تجاهنا وتجاه الحياة المشتركة التي تجمع بيننا‏,‏ ونظن في أحيان عديدة أن ركود سطح الماء في بحيرة الحياة يعني صفاء الجو وخلو القاع مما يمور فيه من تيارات متضاربة ودوامات عنيفة واحسب أن هذا هو ما حدث في حياتك بالرغم من أن زوجات كثيرات قد يغبطن زوجتك على شريك محب‏,‏ متعاون ومعطاء مثلك يعد الشطائر لأبنائه والإفطار لزوجته في الصباح‏..‏ وينظف البيت دونها‏.‏ ويجوب شوارع المدينة طولا وعرضا لشراء احتياجاتها من أماكن محددة علي مسافات بعيدة وتشهد له حتى والدتها بأنه لا يقصر في أداء واجباته تجاهها ولو في حالات الخصام معها‏..‏ اذن ما هي المشكلة يا صديقي؟

المشكلة هي أن زوجتك هي التي ملكت عليك قلبك وعقلك وكيانك طوال السنوات الماضية وانك لم تملكها بنفس هذا القدر ولا ببعضه‏..‏ أو حتى بشيء منه‏..‏ والحب كالدنيا التي قال عنها الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إذا أقبلت على إنسان كسته محاسن غيره‏,‏ وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه‏!‏ ..ولقد أدبر عنك حب زوجتك لك فسلبك للأسف محاسن نفسك ولم يكسك محاسن غيرك‏,‏ وساهمت الانفلاتات العصبية والذاكرة الحافظة لزوجتك في تضخيم العيوب حتى عدتها خطايا لا يجوز التجاوز عنها‏,‏ مع انه لا يخلو إنسان على وجه الأرض بمن فيهم زوجتك من قدر من العصبية والانفعالية في بعض الأحيان‏..‏ لكن الحب قلب غفور‏..‏ والكره قلب حقود لا يغفر ذنبا ولا ينسي إساءة‏,‏ وهكذا راح الحجر الصلد يتشكل تحت السطح ببطء إلى أن جاءت اللحظة الفاصلة وانفجر الموقف بينكما .. فأما هذه اللحظة الفاصلة فالله سبحانه وتعالي هو وحده من يعلم إذا كانت هناك أسباب خارجية قد عجلت بظهورها إلى السطح أم لا‏..‏ غير أن ظاهر الأمر وإصرار زوجتك على الطلاق إلى حد التهديد بالانتحار ومطالبتها لابنيها بإقناعك به‏..‏ كل ذلك يوحي بأن الأمر لم تعد تجدي معه أي محاولات للإقناع أو المناشدة‏..‏ وفي ظني أنها لن تتنازل عن تمسكها بطلب الطلاق‏..‏ مهما فعلت أنت أو تمسكت بها وتذللت لها لكي تقبل بالعودة إليك وفي كل الأحوال فانك لا تستطيع أن تمسك عليك زوجة كرهت الحياة معك ولم تقدر لك كل ما قدمت لها من حب وتضحية وعطاء علي مر السنين‏,‏ وبلغت بها كراهيتها لهذه الحياة أن ضحت في سبيل الخلاص منها‏,‏ بسعادة ابنيها واستقرارهما وحبهما لها‏..‏ والمرأة إذا بلغت هذا الحد من الإصرار على رفض حياتها الزوجية ولو ضحت في سبيل ذلك بمشاعر أبنائها تجاهها‏,‏ فانه لا يعدل بها عن هذا الإصرار شيء‏,‏ ولا هو من الحكمة إرغامها في مثل هذه الظروف على القبول بحياتها الزوجية مرة أخري‏..‏ لأن ذلك لن يعني في الأغلب الأعم إلا الحفاظ علي شكل الأسرة دون جوهرها‏..‏ وقد يفتح الباب لشرور وآثام أخرى

فإذا كنت أقدر لك حرصك على أبنائك وأسرتك ومحاولتك المخلصة لإنقاذ حياتك الزوجية من الانهيار‏,‏ فإني أذكرك على الناحية الأخرى بأنك قد أديت واجبك في السعي للحفاظ على أسرتك ورأب صدعها وحماية استقرار حياة أبنائك‏,‏ لكن ليس كل ما يرجوه الإنسان لنفسه يستطيع أن يحققه لها حين يتعلق الأمر بإرادة طرف آخر لا يشاركه مثل هذا الحرص على الحياة الزوجية وهذه الرغبة المخلصة في استمرارها وإنقاذها من الانهيار فلا تمتهن نفسك أكثر من ذلك يا صديقي في استجداء عودة زوجتك لك ولابنيها‏,‏ واقبل بما ليس منه بد ـ ولو مؤقتا ـ عسى أن تعلمها الأيام ما لم تكن تعلم‏..‏ أو يعوضك الله عنها وعن حياتك السابقة معها خيرا كثيرا‏..‏ والسلام‏.‏

 

 نشرت عام 1999 في باب بريد الجمعة بجريدة الاهرام
كتبها من مصدرها بكتاب حصاد الصبر / أحمد محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات