دفء الحياة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994



دفء الحياة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

دفء الحياة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994


سيظل لكل إنسان دائما ما يفقده من أسباب السعادة .. وما يتعذب بالرغبة المستحيلة فيه وهذا هو قدر الإنسان منذ الأزل .. ولا جديد تحت الشمس، غير أن نداء العقل يهمس لنا دائما بان الرضا بما أتيح لنا من أسباب والتسليم بإرادة الخالق فيما لا حيلة لأحد فيه سيظلان دائما الطريق الوحيد لمواجهة التجارب الأليمة في حياتنا وللتواؤم مع ظروفنا والتعايش معها.
عبد الوهاب مطاوع

 أنا سيدة متزوجة منذ عشر سنوات حرمني الله نعمة الأمومة التي لا تعادلها في نظري نعمة أخرى من النعم وبسبب عجزي عن الإنجاب وفقدت زوجي الذي وهبته كل ما أملك من حب ومشاعر فقد تزوج من أخرى لتهبه ما فشلت أنا في أن أقدمه له، وفعلا وهبته ما أراد واستأجر لی مشكورا مسكنا صغيرا متواضعا لأقيم فيه وبقي هو وأولاده منها في المسكن الوثير الذي تستحقه من أدت دورها في الحياة وأنجبت البنين والبنات.
إنني أكتب رسالتي هذه لأفضى لك بما في داخلي لعل في ذلك ما يخفف عني وطأته، فانا رغم ثقافتي العالية وعملي بالمجتمع لا أشعر بدفء الحياة واعتبر أنه لا دفء للمرأة إلا باحتضانها لوليدها الذي هو أملها وهدفها في الحياة.. إنني أعرف كل ما يقال في مثل حالتي، وقد تلفت حولي ورأيت النعم الأخرى التي أنعم الله بها علي ولم أجدها
تغنيني عن حاجتي لنعمة الأمومة.. وعرفت أيضا أن من الأبناء من كانوا مصدر شقاء لأمهاتهم.. ولم أجد في ذلك ما يعزيني عن حرماني منهم، وحاولت أن أكون أما لأطفال العائلة الكثيرين.. لکن لا أم صدقني إلا الأم الحقيقية .. فكثيرا ما اصطحب طفلا منهم ليقضي معي يوما وأعطيه فيه كل ما أملك من مشاعر وتدليل وفي المساء يجري بعيدا عني إلى حضن أمه الذي لا يعادله حضن آخر.. إنني لا استطيع أن أصف لك معاناتي كلما جاء يوم عيد الأم، ففيه اشعر بوحدة داخلية قاتلة ويلتف الآباء والأحفاد والأزواج حول الأمهات وأجدني مخلوقا مهملا لا قيمة له يتضاءل بعلمه وثقافته أمام دوره الأساسي في الحياة وهو الأمومة.
 لقد حاولت أن أعزي نفسي بكل ما يقال في مثل ظروفي فوجدتني ارفض العزاء وكان شوقي للأمومة أكبر وأرجو ألا تعتبرني مغالية في تجسيم هذا الإحساس المرير فهو إحساس لا يستطيع أن يدرك مرارته إلا من عاناه كما أرجو الا تراني غير راضية بما قسمه الله لي فهذا هو شعوري الذي لا حيلة لي فيه، لقد فكرت جديا في أن أحصل على طفلة يتيمة وأحاول أن أعوضها عن فقدها لأمها .. وأن تعوضني هي عن حرماني من الأمومة وليحدث بعد ذلك ما يحدث في المستقبل فما رأيك في ذلك يا سيدی؟

ولكاتبة هذه الرسالة أقول:

سيظل لكل إنسان دائما ما يفقده من أسباب السعادة .. وما يتعذب بالرغبة المستحيلة فيه وهذا هو قدر الإنسان يا سيدتي منذ الأزل.. ولا جديد تحت الشمس، غير أن نداء العقل يهمس لنا دائما بان الرضا بما اتيح لنا من أسباب والتسليم بإرادة الخالق فيما لا حيلة لأحد فيه سيظلان دائما الطريق الوحيد لمواجهة التجارب الأليمة في حياتنا وللتواؤم مع ظروفنا والتعايش معها، ومن واجب الإنسان دائما تجاه نفسه أن يتعزى عن نواقص حياته بما أتيح له من أسباب التعويض النفسي عنها، حتى ولو كانت غير كافية أو غير مشبعة اشباعا كاملا لإحتياجاته الإنسانية.. فهذا أفضل كثيرا من الحرمان الكامل من أي قدر من الإشباع وأفضل كثيرا من موقف "رفض العزاء" الذي تتخذينه مع نفسك الآن والذي لا عائد له إلا مكابدة المعاناة النفسية بلا نهاية وتضاعف البلاء بالخسائر النفسية والصحية الأخرى، تماما كمن علم الداء ورفض الدواء .. فكان له من إثم المنتحر نصيب، كما يقول أحد الفقهاء الأجلاء.

إنني قد لا أراك مغالية في تضخيم احساسك بالحرمان من الأمومة، لأني أدرك جيدا أنه لا يعرف الجرح إلا من به ألم، لكني أعرف أيضا من ناحية أخرى أنه لا معطي لما منع الله ولا مانع لما هو معط .. فماذا نملك تجاه هذه الحقيقة الأزلية؟
لقد استشهدت مرة بكلمة للأديب الأيرلندي العظيم برنارد شو يقول فيها أن "كل من تؤلمه ضروسه يظن أن جميع من لا يشكون من أسنانهم سعداء".
وهذا صحيح إلى حد كبير لأنه حين تهيج آلام ضروسنا فإننا نركز كل تفكيرنا فيها ويصبح أملنا الوحيد في الحياة لحظتها أن نتخلص من هذا الألم وحده ولربما حسدنا الآخرين الذين لا يشكون من اسنانهم واعتبرناهم لبضع لحظات أسعد البشر جميعا. وهكذا حال الإنسان دائما حين يركز كل مشاعره وتفكيره فيما يعاني منه وحده.. ويرفض أن يتعزى عنه بجوانب حياته الأخرى ويرفض أن يستعين على آلامه بالمسكنات الآمنة.. وبدائل التعويض النفسي المتاحة. 
إنني أؤيدك بشدة في فكرة رعاية طفلة يتيمة تشعرك بدفء الحياة وتعوضينها أنت عن حرمانها منه، ولن يحدث بعد ذلك إلا خير بإذن الله .. وأرجو أن أستطيع مساعدتك في تحقيق هذه الرغبة في وقت قريب إن شاء الله.
 
 نشرت في جريدة الأهرام باب بريد الجمعة ابريل سنة 1994
راجعها واعدها للنشر / نيفين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات