القيود الحديدية .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993
أنا سيدة في العقد السادس من عمري أرملة لرجل فاضل وأم لثلاث بنات نملك بيتا ومحلا والحمد لله على ذلك .. وقد ربيت بناتي على الأخلاق واحترام الأبوين وحب الناس، وبعد رحلة طويلة من المعاناة تخرجن جميعا فتخرجت الكبرى والوسطي في الجامعة , أما الصغرى التي كانت تحظى منا بإهتمام زائد فقد تعثرت وبعد أن أنهت دراستها أرادت أن تعمل فرفضت ورفض أهل أبيها خوفا عليها من نفسها لأنها كثيرة التحدث مع الآخرين .. ويخشى الأهل مما قد تجره علينا من متاعب، لكنها ألحت وأصرت وحولت حياتي إلى جحيم إلى أن وافقت مرغمة على عملها فخرجت للعمل وبعد فتره قصيرة لاحظت عليها تغيرها وميلها للانفراد بنفسها طويلا .. وسألتها عما ألم بها فعلمت منها أنها قد تعرفت بشاب متزوج وله أبناء وأحبته .. وأنها طالبته بأن يتقدم لخطبتها فرفض .. وهي لا تعرف ماذا تفعل فنصحتها على الفور بأن تقطع علاقتها به لأنه شاب غير جاد وسمعته كما عرفت سيئة فضلا عن أنه متزوج وأب ولا يحمل أي مؤهل دراسي ولا يعرف حتى كيف يكتب اسمه.
وبدلا من أن تتبين الحكمة في رأيي ضربت بنصيحتي عرض الحائط وواصلت علاقتها به بلا مبالاة .. وتكتمت أنا أمر هذه العلاقة خوفا من نشوب المشاكل بينها وبين شقيقتيها وأهل أبيها إذا علموا بها .. وانتظرت بأمل أن تفيق لنفسها وترجع عن هذا الخطأ .. ثم تقدم لابنتي الكبرى شاب جامعي ممتاز ظروفه المادية مناسبة فوافقت عليه ابنتي ورحبنا به وأعددناها للزواج بشكل لائق كريم .. فاستقر في نفس ابنتي الصغرى من ذلك الحين أنني لا أحبها بنفس القدر الذي أحب به شقيقتيها مع أن والله شهيد على أني أحببتهن جميعا بنفس القدر لأنهن بناتي ومهما شكوت من الصغرى أو اختلفت معها في بعض الأمور, فقلبي لا يستطيع أن يحمل لقطعة منه إلا الحب .. وحاولت إقناعها بذلك , لكنها أصرت على أفكارها الغريبة هذه.
وذات يوم خرجت إلى عملها وتأخرت عن موعد العودة وانتظرناها بقلق شديد فمضى النهار ثم حل الليل وهي لم تعد بعد ..ووسط قلقي ومخاوفي خطر لي هاجس غريب لا أدري سببه بأن أتفقد تحويشة العمر التي احتفظ بها في دولاب ملابسي .. فلم أجدها .. وتبينت لي الحقيقة صريحة ومرعبة .. لقد اخذت ابنتي الصغرى المبلغ الذي ادخرته بشقاء السنين لزواج أختها الوسطى وزواجها واختفت وانهرت باكية ! ودعوت شقيقتيها وصارحتهما بالحقيقة المؤسفة .. ولم انزعج لاختفاء النقود بقدر انزعاجي لما يعنيه تصرفها الخسيس من نية أخطر من الهروب من البيت للزواج من فتاها سيئ السمعة بلا مبالاة بأسرتها وأمها ولا أي شئ في الحياة سوى أن تحقق ما تريد.
وبدأنا البحث عنها في كل مكان وعرفنا أنها قد تزوجت ذلك الشاب فعلا وقدمت له هذه النقود ليستعين بها على أمره وأنه قد طلق زوجته وأقام مع ابنتي في شقة صغيرة.
واجتمع الأهل في بيتي لمناقشة هذه الكارثة العائلية وقرروا ومعهم بنتاي الكبرى والوسطي مقاطعتها نهائيا وعدم الإتصال بها, واضطررت للالتزام بهذا القرار مرغمه , لكني بقلب الأم رحت اتسقط أخبارها وحزنت حين عرفت أنها على خلاف مستمر مع زوجها الذي هجرتنا واستولت على تحويشة عمري من أجله وصدمت حين عرفت أنه يضربها كثيرا ويعايرها بأنها تركت أهلها جريا وراءه وأنه يرغب في طلاقها بعد أن نال منها ما أراد , وأغتممت بما عرفت وأشفقت عليها مما تقاسيه وحيدة بغير سند من أهلها.
وفي أحد خلافاتها ضربها ضربا مبرحا نقلت بسببه إلى المستشفى وعلمت بذلك فهرولت إليها وحدي ووجدتها راقدة في سرير المستشفى في أسوأ حال وبكت حين رأتني وبكيت على حالها واعترفت لي بأنها نادمة على ما فعلت بنا وقالت أنها ادعت للأطباء أنها سقطت من سلم البيت , حتى لا تعترف بضرب زوجها لها فيطلقها ولا تجد مكانا تذهب إليه بعد أن فعلت بنا ما فعلته إلى جانب أن زوجها الذي هجرتنا وقطعت ما بيننا وبينها من أجله قد رد زوجته الأولى ولم يعد حريصا على استمرار زواجه بها هي.
وطيبت خاطرها بالرغم من كل شئ وأكدت لها أن بيت أبيها مازال مفتوحا لها في أي وقت ترغب في العودة إليه وقدمت لها بعض النقود وانصرفت باكية حزينة , وواظبت على زيارتها في المستشفى إلى أن سمح لها الأطباء بالخروج , ورجعت إلى شقتها.
فلم يمض سوى وقت قصير حتى تم طلاقها ولم تجد مكانا تذهب إليه سوى بيتي فرجعت إليه ذليلة, وعاشت بيننا منكسرة صامتة لا تكلمها شقيقتاها ولا أحد من أهلها وبدأت أتوسط لديهم لكي يخففوا عنها ولا يزيدوا من معاناتها بهذه المقاطعة بلا جدوى.
وذات يوم كان في زيارتي بعض الأهل ومعهم ابنتاي فحدثتهم من جديد في موقفهم من ابنتي الصغرى وطالبتهم بأن يغيروا موقفهم منها واحتدت المناقشة بيننا وأصر الأهل والأختان على أنها أخطأت ويجب أن تتحمل نتيجة ما فعلت وحدها لأنها حين هربت من بيتها لم تبال بأهل ولا بأخوات, فماذا يستطيعون أن يقدموا لها الآن.
وسمعت ابنتي الصغرى المناقشة الحادة وهي في غرفتها فدخلت إلى الحمام .. وطال وجودها فيه وانتظرت خروجها فلم تخرج وساورنا القلق عليها بعد فترة فكسرنا الباب عليها ففوجئنا بها ملقاه على الأرض وإلى جوارها عشرات العبوات الفارغة من الإسبرين وصرخت من الفزع وارتبك الجميع .. وأسرعنا بها إلى المستشفى وقام الأطباء بإسعافها .. لكن محاولاتنا ذهبت سدى ولفظت ابنتي الصغرى أنفاسها الأخيرة وماتت منتحرة كافرة ولا حول ولا قوة إلا بالله .. في حين يعيش مطلقها الوغد الذي خدعها ينعم بالحياة وبما سرقته له من مالنا واغتصبه منها .. بين زوجته وأولاده كأنما لم يفعل شيئا ولم يحطم حياة فتاة صغيرة بخسته معها وقسوته عليها وغدره بها.
إنني أكتب إليك هذه الرسالة الدامية بعد أن مرت الشهور ثقيلة على وفاة ابنتي واستطعت أن أتمالك نفسي بعض الشئ وأتعايش مع أحزاني وأتقبل قضاء الله وقدره راضية مستسلمة .. لأقول لك أنني قرأت رسالتي "العود الأخضر" و"الشخص الآخر " اللتين تروي كاتبة كل منهما في رسالتها أنها تزوجت شابا ضد إرادة أهلها ورغم نصائحهم المخلصة لها بألا تفعل ثم دفعت الثمن غاليا من سعادتها كما حدث مع ابنتي تماما .. وأتساءل بقلب أم حائرة لماذا تصمم الفتاة أحيانا على من تختاره وتتمسك برأيها في حمق وعناد في وجه معارضة أهلها رغم أن كل الظروف والملابسات تؤكد للعاقل أنها لن تسعد باختيارها الأحمق هذا .. فلا تقتنع هي بذلك أبدا ! وتعادي أهلها وتنفذ ما أرادت ثم تدفع الثمن الباهظ من سعادتها وكرامتها وترجع نادمة وطالبة صفح أهلها ومعترفة بهم بأن رأيهم كان الأصوب لكنها كانت أسيرة لعمى القلب والعناد .. ولماذا تتصور الفتاة أحيانا أن نصائح أهلها لها قيود حديدية على إرادتها لابد أن تكسرها لكي تنال سعادتها الشخصية مع أن الأهل لا مصلحة لهم في نصحها ومعارضتها إلا سعادتها ولا مطلب لهم إلا أن تعيش هانئة لكي تطمئن خواطرهم وقلوبهم عليها.
إنني أبعث لكل فتاة بنصيحة من قلب أم ذاق مرارة الثكل القاسية بألا تتجاهل نصائح أهلها وألا تعتبرهم أعداء لسعادتها لمجرد أنهم يحذرونها من الطريق الذي تريد أن تمضي فيه ولأنهم أقدر منها على رؤية الخطر البعيد قبل اقترابه .. أما هي فلا تراه .. ولا تعترف به إلا بعد أن تكون قد تجرعت كؤوس الخيبة والتعاسة والندم .. وبعد فوات الأوان .
كما أكتب لك أيضا لكي أرجوك أن تكتب لإبنتي أن يسامحا أختهما فيما فعلت بهما وبنا وبنفسها ويترحما عليها حتى يخفف الله عنها عذابها في العالم الآخر .. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
abdelwahabmetawe.blogspot.com
ولــكــاتـــبة هـــذه الــرسالـــة أقـــول:
أواه لو "عرف" الشباب
وآه لو "قدر" المشيب
إن محنة ابنتك يا سيدتي بل وأزمة تعارض الإرادات والرغبات بين الأجيال المختلفة كلها تتلخص في هذا البيت من الشعر الحكيم , فالشباب "يقدر" على الفعل لكنه تنقصه المعرفة أي الخبرة والحكمة المكتسبة من تجربة السنين لكي ترشد خطواته وتجنبه الزلل والمهالك. والمشيب "يعرف" أي يملك الخبرة والحكمة .. لكنه قد لا يقدر على الفعل الذي يحيل رغباته إلى أمر واقع أو يمكنه من أن يحمي من يتحمل مسئوليتهم من أنفسهم ومن السقوط في الهاوية التي يتجهون إليها بعنادهم .. واستسلاما لمشاعرهم وحدها.
ولا حل لهذه المحنة الأزلية إلا أن يستفيد الشباب والمشيب معا بما ينفرد به كل طرف عن الآخر من مزايا , فيكمل كل منهما نقص رفيقه .. ويعوضه عما يفتقر إليه .. لكن من يسمع ومن يستجيب يا سيدتي وقد فطرنا في كثير من الأحيان على ألا نتعلم الحكمة إلا بعد فوات الأوان , وعلى ألا نعترف لمن نصحنا "بمنعرج اللوي" ببعد نظره وصدق رغبته في تجنيبنا الشقاء والتعاسة .. إلا "ضحى الغد" وبعد أن نكون قد تجرعنا كؤوسها حتى الثمالة !
إنها قصة قديمة جديدة تتكرر بنفس تفاصيلها منذ قديم الزمان وربما لا يكون من المفيد الآن أن نتلمس البدايات الخاطئة التي قادت إلى هذه النهاية المأساوية في قصة ابنتك .. لكني أقول لك فقط أن كثيرات من المآسي كان من الممكن تداركها قبل استفحالها لو كانت البدايات الخاطئة قد وجهت بالعلاج السليم دون إبطاء.
فالواضح أن فتاتك الصغرى قد لقيت في صباها وطفولتها التدليل ما أفسد عليها نفسها حتى لقد خشي عليها الأهل من انفلاتها إذا هي خرجت للعمل .. كما أن تكتم الأم لأخطاء أحد أبنائها عن أقرب الناس إليها تجنبا لإثارة المشاكل بينه وبينهم وحفاظا على العلاقات الودية بين الجميع يسهم في تفاقم الأخطاء ويصعب من العلاج , مشاركة بالصمت لأن الكتمان في مثل هذه الحالة يصبح بغير وعي فيما يرتكبه المخطئ من أخطاء .. في حين أن مواجهة المشاكل أهون كثيرا من تجاهلها أو تأجيلها إلى أن تنفجر بغتة بعد أن خرجت عن حدود السيطرة واستعصت على العلاج .. تماما كما يتجاهل المرء النار التي تسري تحت الرماد ويتعامى عنها إيثارا للسلامة فيفاجأ بعد قليل بألسنتها ترتفع كالمارد أمامه ومن ناحية اخرى فإن نبذ الأهل والشقيقيتين للأخت الضالة بعد عودتها وإنكسارها لم يكن هو الطريق الصحيح للتعامل معها .. فلقد كان من واجبهم تقبلها بينهم ومساعدتها على الإستفادة من دروس تجربتها وتبين عمق الخطأ الذي ارتكبته في حق نفسها وأسرتها .. ليس بالنبذ والتجاهل .. وإنما بالتواصل معها حتى ولو كان متحفظا في البداية .. بل إن هذا التحفظ نفسه مطلوب ومرغوب لأنه جزء من العقاب الإجتماعي لمن يخطئ في حق الآخرين ولا يبالي بالإساءة إليهم أو تحدي إرادتهم تطبيقا لمبدأ الجريمة والعقاب وحتى لا تستوي الحسنة والسيئة أو يستوي المحسن والمسئ في تعاملنا مع كل منهما واحترامنا له وحفاوتنا به .
وأيضا لأننا لا نستطيع أن نخالف الطبيعة البشرية فنطالب "الضحية" بأن تحتفي بظالمها وقاتلها وتقيم له الزينات عند عودته مضطرا كأنما تهنئه على فعل وتشجعه على أن يكرره , وهذا هو خطأ بعض الأمهات حين يطالبن الأهل والأخوة بقلب الأم أن يغفر للابن أو الابنة المفضلة كل الخطايا والأخطاء ولو كانت في حجم الجبال بأن يصفحوا عنه بنفس السرعة ويتعاملوا معه بقلبها هي لا بقلوبهم .. كأنها تطالبهم بذلك بما عناه الشاعر حين قال :
يساء إلينا ثم نؤمر بالشكر !
وهذا ضد طبائع الأشياء .. ولابد من أن نعطي الزمن فرصة لتهدئة الجراح .. وتصفية النفوس بغير حث أو إكراه .. ولهذا كله فلقد كان بنذ الأهل والأختين لشقيقتهما العائدة من الجحيم خاطئا .. وكان تعجلك وإلحاحك عليهم بأن يصفحوا عنها بغير مراعاة للطبيعة البشرية أو لأهمية دور الزمن في ذلك خاطئا أيضا بنفس الدرجة ومن أسف أنه قد أسهم من حيث من لم يرد أحد في هذه النهاية المأساوية لحياتها.
وليس بعد الرحيل ملامة كما يقولون .. ونداؤك لابنتيك أن يترحما على شقيقتهما .. لا يحتاج إلى تأييد لأن الرحيل يسقط القضايا ويزيل المرارات .. والحق إني لست أشك في صدق حزنهما عليها ولا في فجيعتهما فيها كما فجعت أنت أعانك الله على أمرك , لكن لا بأس من الاستزادة من الرحمات .. ومطالبتهما بما تريدين لكي يستريح قلبك المكلوم .. أما نداؤك للفتيات بألا يتجاهلن نصيحة الأهل .. وألا يعتبرنهم أعداء لهم لمجرد اختلاف رؤيتهم عن رؤاهم .. حتى يتجنبن نفس المصير فليس لي من تعليق عليه سوى أن أصدق النصائح هو ما تصهره نار الألم وخبرة التجربة المريرة .. فشكرا لك على نصيحتك .. شكرا لك على رغبتك النبيلة في حماية الأخريات مما جرت به المقادير على ابنتك الراحلة .. والسلام !
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" يوليو 1993
كتابة النص من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر