الشخص الآخر .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993
لا شئ يحفظ على الحياة الزوجية نجاحها واستمرارها أكثر من التفاهم
والرفق المتبادل في التعامل بين الطرفين .. وحرصهما معا على ألا يكون زواجهما
قابلا للكسر، مهما كانت العواصف التي تعترضه رعاية لحق الأبناء على الزوجين ..
وتجنبا لمعاناة مرارة الفشل والإحباط .
عبد الوهاب مطاوع
أنا سيدة أعمل بالتدريس
بإحدى كليات القمة .. بدأت قصتي منذ ۱۲ عاما حين كنت طالبة في كليتي المرموقة والتقيت بشاب جامعي أحببته ورأيت فيه الرجل
الذي أريد أن يشارکتی
حیاتی، وعارض أبي في زواجی منه بشدة لتقاربنا الشديد في السن ولوجود تفاوت تعلیمي
وثقافي بين أسرتي وأسرته ، فأسرتي يتمتع كل أفرادها بمراكز اجتماعية مرموقة في حين
يعمل كل أفراد عائلته بالتجارة وكان من رأي أبي أن ثراءهم طارئ وحديث، وسوف تختلف
نظرة كل منا للحياة ومعاييره تبعا لاختلاف المستوى الثقافي بين الأسرتين إلى جانب
أن ظروف هذا الشاب العائلية لم تکن مستقرة فقد كان أبواه منفصلين وتزوجت أمه بعد
طلاقها زواجا لم يلق قبول أسرتها وترتب عليه نشأته مع أخته وأمه في عزلة عن بقية
العائلة.
لكني رغم كل
هذه الاعتراضات تمسکت به للنهاية وتحملت إساءة معاملة أبي له لكي يبعده عني .. وتم
زواجنا بعد حصولي على البكالوريوس .. ومنيت نفسي بتحقيق الأحلام والسعادة معه
ففوجئت بعد أيام بأنني قد تزوجت شخصا آخر غير الذي أحببته وحلمت به، شخصا يسيء معاملتي
ويضربني ويهينني لأتفه الأسباب ويمنعني من زيارة أهلي أحيانا واكتشفت عمق اختلاف
نظرة كل منا للحلال والحرام واختلاف قيمنا ومعاييرنا من خلال وقائع كثيرة لا مجال
لسردها الآن ، وكان من بينها أني حملت بعد زواجنا مباشرة فأراد التخلص من الجنين
بدعوى أنه لا طاقة له بنفقات زائدة فصدمت وفعلت كل ما بوسعي للاحتفاظ بجنینی بغير
أن أخالف أمر ربي .
وجاءت الطفلة
فإذا بأبواب الرزق تفتح لزوجي فانتعشت تجارته واشترى لي سيارة وانتقلنا من الشقة
الصغيرة التي تزوجنا فيها إلى شقة أوسع في حي راق ، ووقفت إلى جواره بكل قواي في
أزمة جديدة نشأت بينه وبين زوج شقيقتي حول التجارة وأحس هو بالامتنان لي وساندني
خلال استذكاري للحصول على الماجستير ثم ازدهرت أحوال زوجي المالية فانتقلنا إلى
شقة فاخرة كالقصر وخلال ذلك كنت قد أنجبت طفلي الثاني وجاء طفلا جميلا فأحسست بأني
قد ملكت كل شيء في الدنيا ، ورغم ذلك فلقد كان الإحساس بعدم الأمان يساورني من حين
لآخر ، إذ كان زوجي رغم رقته أحيانا يثور مرارا ثورات بركانية وينهال علي بالضرب
والإهانة حتى کسر لي في إحدى هذه المرات ضلعا ، ولست أدعي أنني كنت أقف ساكنة
أمامه ، فالحق أني بعد عامين من الزواج وبعد أن استمر في سبی وسب أهلي بدأت أرد عليه
إهاناته .
ومضت الحياة
بيننا هكذا سلسلة من الخلافات والمشاحنات المستمرة تصل أحيانا إلى حد ضربي تتخللها
بعض الأوقات الطيبة المريحة ، وكنت أطالبه دائما بحسن معاملتي .. ويطالبني هو
دائما بالتسبيح بحمده وفضله
على أنه انتشلني من قاع المجتمع واشترى لي سيارة واسکنني في شقة فاخرة .
ثم عانت تجارة
زوجي بعض الكساد فأصبح يقضي وقتا أطول في البيت وكثرت الخلافات والمشاحنات بيننا
وفي إحداها انهال علي ضربا حتى أغمى علي وحين أفقت قلت له إنني لا أريد لطفلي أن
يريا أباهما وأمها على هذه الحالة البشعة ، ولابد أن نعيد التفكير في ضرورة إصلاح
حياتنا ، وقال لي إنه سيسافر مع أصدقائه في رحلة يختلي فيها بنفسه ويفكر بهدوء في
حياتنا .. وسافر وانتظرت عودته بكل الشوق لأنه زوجي وحياتي رغم كل شيء ، وعاد بعد
أيام لكنه رجع إنسانا آخر غير الذي سافر .. فقد أعرض عني تماما ولم تعد به رغبة في
الحديث معي وأصبح يطيل السكوت خلال وجوده في البيت ويطيل الغياب حين يخرج رغم کساد
عمله ثم أقدم على خطوة أخرى فهجر فراش الزوجية وأصبح ينام في غرفة أخرى ، وأنا
أكاد أجن ولا أدري ماذا أفعل لاسترضائه ، ورغم كثرة مشاكلنا وخلافاتنا فلقد أحسست
أن الخلاف هذه المرة من نوع
آخر قاتل ومخيف، فقد لاحظت أنه لا يعبأ بي ولا شيء يقتل المرأة كإحساسها بأن زوجها
لا يكترث بها حتى في وقت الخصام خاصة إذا كان يعنى لها كل شيء في حياتها .
وفجأة بدأ زوجي يتحدث عن رغبته
في أن أترك وظيفتي في التدريس الجامعي لأتفرغ له ولبيتي ولطفلي مع أني کنت قبلها
بقليل في إجازة لمدة عام لرعاية طفلي ، وبدأ يتحدث عن رغبته في بيع الشقة الفاخرة
ليستفيد بثمنها في إنعاش تجارته وبدأ يشكوني لكل من يقابله ويدعي تقصیری في
واجباتي المنزلية وفي حقوقه كزوج وحقوق طفلي ويقول إن عملي أهم شيء في حياتي ويعلم
الله أن كل هذا غير صحيح، وضقت بكل ذلك وتمنيت أن تعود حياتنا إلى طبيعتها وطلبت
منه في جلسة طويلة خلال شهر رمضان الماضي أن يفتح لى قلبه ويحدثني بما يراه خطأ في
وأنا على استعداد لإصلاح كل أخطائي فأجابني بوجوم بأنه قد فات الأوان .
فقمت وصليت لله باكية وأنا أدعو
الله أن يهديه لنفسه ولولديه وفوضت أمري إلى الله ودعوته أن يختار لي ما فيه خيري
وصلاح أمري بعد أن أعيتني كل الحيل لإنقاذ زواجي ولم يعد في مقدوري شیء جديد .
وجاء زوجي ذات يوم وأخبرني بأنه
قد باع الشقة وأنا أعلم يقينا أن ذلك غير صحيح وبعد فترة قام بجمع ملابسي وملابس
ولدي وقال إننا سنترك الشقة اليوم وسيرسل هذه الملابس لشقتنا السابقة التي كان
يؤجرها مفروشة وطلب مني الإقامة لدى والدي لفترة مؤقتة إلى أن ينقل الأثاث إليها ،
وبعد أيام ذهبت إلى الشقة فوجدته قد نقل إليها أثاث غرفتين فقط من أثاث الغرف
السبع بالشقة الفاخرة ولم أجد ملابسه فيها وسألته عنها فقال لي إنه سيقيم لدى
والدته . وأحسست بنية الغدر في رنة صوته وملامح وجهه الجامدة .. وبأن هناك امرأة
أخرى قد احتلت مكاني في حياته لكني صبرت وسلمت أمري إلى خالقی .
وبعد فترة جاءني وقال إلى إنه
بعد أن فكر جيدا في حياتنا الماضية فإنه يدعوني للذهاب معه إلى المأذون ! .. وقلت
له إني أرفض الطلاق من أجل ولدي فأجابني بأنه قد وضع حجرا على قلبه بالنسبة لهم
فقمت باكية .. وأنا أقول له : حسبي الله ونعم الوكيل أنت ظالم .. ظالم ولن يهملك
الله أبدا لكنه سیمهلك إلى يوم تشخص فيه الأبصار .
ورفضت الذهاب
معه إلى المأذون وطلقني غيابيا سامحه الله ورفضت أنازعه في شيء أو أقاضيه لأني
أردت ألا أفعل شيئا يؤذي ولدي نفسيا في المستقبل وأحرص على ألا أثير كراهيتها ضده
وعلى الحفاظ على صورته الأبوية الطيبة في نظرهما لأني بحكم ثقافتي ودراستي أعرف
جيدة أهمية الحب المتوازن للأب والأم في نفسية الطفل . ولست أفعل ذلك من أجله بقدر
ما أفعله من أجل طفلي بل ومن أجلي أنا شخصيا لأني لن أسعد بطفلين نفساهما مشوهتان
وغير سويتين بسبب اهتزاز صورة الأب أمامها ، وها أنذا یا سیدی مطلقة في الثانية
والثلاثين من عمري وبعد سبع سنوات فقط من الزواج الذي حلمت به مع الشاب الذي
أحببته وتمسكت به في وجه معارضة أبي ونصائحه لي . وأنا الآن أستعد للسفر إلى
الخارج مع ولدي للحصول على الدكتوراه ، ورغم علمي بأنه في طريقه إلى الزواج من
"الأخرى" التي قوضت زواجي فأنا لا أشعر تجاهه إلا بالإشفاق عليه مما
فقد، لأنه لا يعي قيمة ما فقد ومازلت أدعو له الله بأن يهديه لنفسه ولولديه ، أما
أنا فلقد استرددت بفضل الله نفسي المحطمة وثقتي المهزوزة وأشرقت روحي مرة أخرى بحب
الحياة والناس حتى يظن من يراني أني لم أتزوج من قبل ، ولست في النهاية أعتبر ما
جرى لي في حياتي فشلا كما يفعل البعض وإنها تجربة وخبرة بالحياة حلوها ومرها ،
ويكفيني أني بفضل الله أستطيع الاعتماد على نفسي تماما وأستطيع أن أربي ولدى على
القيم التي نشأت عليها وأني أملك أمر نفسي وروحي الطليقة التي تسبح في ملكوت الله
الواسع وتؤمن بأنه ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها . وكل ما أدعو به ربي
هو أن يهديني ويصلح
لي أمري ويبدلنی به خيرا منه زوجا صالحا وأبا آخر لولدي أواصل حياتي معه .. فإن لم
تشأ عناية ربي بذلك فبدونه سوف أمضي في الحياة بإذن الله .
وقد تعلمت
الكثير من تجربتی ورأيت أن أكتبها لتستفيد بها بعض الفتيات اللاتي يصممن آذانهن عن
نصيحة الأهل قبل الزواج مع أنها تكون غالبا صادرة عن رغبة صادقة في سعادتهن كما
أريد في النهاية أن أقول للفتيات إن المال لا يصنع السعادة في الزواج وأن السعادة
الحقيقية هي في سكينة القلب إلى جوار إنسان مناسب عائليا وفكريا وماديا ومن كل
الجوانب ، ليؤانس روح الفتاة و ينشأ أولادهن سعداء وأصحاء نفسيا والسلام .
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
تعجبني دائما
كلمة للكاتب الأمريكي ولیم شیرر يقول فيها : في حالات ضعفي الجأ دائما إلى وسيلتين
: الأولى أن أنظر إلى حياة الناس وصفحات التاريخ وأجد أنه كانت هناك دائما آلام لا
أستطيع احتمالها فيساعدني ذلك على النظر لمتاعبي نظرة نسبية ، والثانية أن أنشد
دائما حياة جديدة ملؤها الأمل والتفاؤل مهما كانت الأحوال .
وهذا في تصوري
ما ينبغي أن يفعله كل إنسان تعترض حياته تجربة مؤلمة ولعل هذا أيضا ما احترمته في
قصتك وهو روحك العالية وشجاعتك في تقبل أقدارك وتطلعك بروح الأمل والتفاؤل إلى
مستقبل أفضل يمسح عنك الأحزان مع إدراكك في نفس الوقت لقدراتك واستعدادك للاعتماد على
نفسك ورفضك الانهزام أمام تجربة قد تدعو أخريات إلى اليأس والإحباط .
أما أكثر ما
شد انتباهي في رسالتك فهو ظاهرة "الشخص الآخر" الذي تكشف عنه أحيانا
تجربة الحياة الزوجية فإذا به نقيض مخالف تماما لصورة فتى القلب الواعد بكل سعادة
وشاعرية قبل الزواج !
وهي ظاهرة
المسها بكثرة في رسائل القارئات والقراء الذين يصطدمون أيضا بنفس المفاجأة أحيانا
بعد الزواج . ولا تفسير لها عندي سوی التسرع في الارتباط دون دراسة كافية للطرف
الآخر وشخصيته وظروفه وطباعه ، وفي تجاهل الفوارق المؤثرة على نجاح الزواج في
المستقبل تأثرا بأحكام القلب وحده وبغير عرضها على محكمة العقل إلى جانب عوامل لا
تقل أهمية عن ذلك كتأجيل المشاكل إلى ما بعد الزواج دون حسم أو التوصل إلى حل مرض
للطرفين بشأنها قبل أن تبدأ الحياة الجديدة ، كمشكلة عمل الزوجة مثلا أو مكان
الإقامة الزوجية ..
فضلا عن
الانفعالية والاستجابة السريعة لنزوات الغضب واتخاذ أسلوب الشد والجذب وصراع
الديكة كأسلوب حياة بعد الزواج؛ اعتمادا على أن الحب سوف يغفر كل الخطايا ، وهذا
ليس صحيحا في أحيان كثيرة .. إذ لا شيء يحفظ على الحياة الزوجية نجاحها واستمرارها
أكثر من التفاهم والرفق المتبادل في التعامل بين الطرفين .. وحرصهما معا على ألا
يكون زواجهما قابلا للكسر مهما كانت العواصف التي تعترضه رعاية لحق الأبناء
على الزوجين .. وتجنبا لمعاناة مرارة الفشل والإحباط .
والحق أن هناك
دائما جانبا خفيا في شخصية كل طرف لا يتعرف عليه الطرف الآخر إلا بالمعاشرة
اليومية ومواجهة اختبارات الحياة وكيفية تصرفه فيها واحتماله لها . وهو جانب لا
يمكن امتحانه للأسف جديا إلا عند الخلاف . لأنه في أوقات الصفاء يبدو الجميع ظرفاء
وشاعريين ومجاملين، أما في أوقات الخلاف الجاد فقد يتكشف الأمر عن شخص آخر أو
امرأة مختلفة لا علاقة لكل منها بفتى الأحلام القديمة أو فتاتها . لهذا قيل دائما
إن أخلاقيات الإنسان عند الخلاف .. تكشف عن جوهره الحقيقي ومعدنه الأصيل وكلما كان
عادلا وحريصا على ألا يجرح مشاعر الآخرين بقسوة وسادية وعلى ألا يتمادى في الخصومة
والفحش عند الخلاف، كان إنسانا فاضلا حسن المعاشرة .
وقصتك لم يكن ينبغي أن ترشحك لأية مفاجأة لأنك قد عرفت زوجك السابق وأحببته وخطبت له عدة سنوات قبل الزواج .. إذن فلقد تحطمت سفينة زواجك للأسف على صخرة الانفعالية ، وتقارب سنکما التي أظنها متساوية وعدم حسم مشكلة عملك قبل الزواج أو عدم توصلك إلى حل لها يرضيكما معا . وإلى استجابة كل منكما سريعا لدواعي المشاحنة والخلاف . وإلى تسرع زوجك في تحطيم زواجه بغير دفاع جاد عنه ولقد كان من حق طفليه عليه أن يتروى طويلا في اتخاذ قرار الانفصال خاصة بعد كل ما أبديته من حرص عليه وتمسك به رغم ما نالك منه من إهانات وضرب یکسر الضلوع في بعض الأحيان . لكنه لم يفعل للأسف ولم يرفع الحجر الثقيل عن قلبه ليعرف أن من واجبه تجاه طفليه ألا يرضى لهما بأن يدفعا ثمن أخطاء أبوين اختار كل منهما الآخر بملء إرادته ولم يستشرهما أحد في أمر زواجهما ولا في إنجابهما .. وسوف يتفهم ذات يوم حجم جنایته عليهما .. وسيدرك بكل تأكيد قيمة ما فقد، ولكن بعد أن يكتوي غالبا بنار التجربة .
رابط رسالة القيود الحديدية تعقيبا على هذه الرسالة
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر