العود الأخضر .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

بريد الجمعة 1993 كتاب نهر الدموع

العود الأخضر .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993


أريد أن أروي لك قصة أسرتي الصغيرة وأستشيرك في أمر هام .. لقد مات أبي - رحمه الله - وكان تاجرا وترك وراءه زوجة في الخامسة والأربعين من عمرها وابنا أكبر في الحادية والعشرين من عمره وثلاث بنات کبراهن في التاسعة عشرة وصغراهن في العاشرة من عمرها. وأنا يا سيدی إحدى هؤلاء البنات الثلاث ، لكني لن أقول لك من أنا قبل أن أكمل لك القصة . وكانت أمي ربة بيت طيبة عاشرت أبى بالمعروف وأحبته واحترمته دائما ، وحزنت عليه حين مات ، حتى هدها الحزن ثم تماسكت لكي تحمينا وتستكمل معنا رسالتها ..

أما شقيقنا فقد كان قد تخرج قبل شهور ويحلم بالسفر إلى أوروبا ليعمل هناك ويبني مستقبله ، ووعده أبي بالموافقة على شرط أن يرجع فورا ويتحمل مسئوليته عن أمه وأخواته البنات إذا جاء الأجل لأبي وهو في الخارج .. وكان أبي في الخامسة والخمسين من عمره ممتلئا صحة وشبابا ، فوافق أخي على رغبته هذه مطمئنا إلى رجولته وإحساسه بالمسئولية ، وآملا أن يزهد في التجربة بعد شهور ويعود ليعمل معه وبدأ أخي إجراءات السفر وحصل على التأشيرة وجواز السفر وأحضر له أبي الدولارات .. لكنه ظل لسبب أو لآخر يعطل سفر شقيقنا .. ويؤجله من شهر إلى آخر إلى أن فوجئنا بوفاته ، فكأنما كان يحس بدنو الأجل .

وتنازل أخي عن أحلامه على الفور، وواجه مسئوليته الثقيلة عن أم و3 شقيقات، وأدار عمل أبي ففوجيء بتركة مثقلة بالديون والضرائب ، واكتشفنا جميعا أننا لسنا أثرياء کما کنا نتوهم ونحن في حماية أبي .. وإنما نحن من هؤلاء الناس الذين تحسبهم أغنياء من التعفف ، وهؤلاء حالهم أصعب كثيرة من حال بسطاء الناس من الفقراء ، فلا هم أغنياء فيقوون على مواجهة متطلبات مظهرهم وحياتهم ولا هم بسطاء فيتقبلون مساعدة الناس لهم بلا حرج ، أو أزمات نفسية .

وكان هذا هو حالنا بعد وفاة أبي بعام واحد ، فقد جفت مواردنا التي استنزفتها الديون .. وقل دخلنا كثيرا بسبب انکماش التجارة بعد الديون والضرائب .. وأصبح ما يأتي منها لا يسد رمقنا إلا بصعوبة شديدة وأخي يصارع الحياة وحيدا بلا سند ولا معين . وأمي ونحن نبکي له وعليه .. وهو يواجه الدنيا القاسية وهو كما قالت أمي "عود أخضر" لم يكتمل نموه بعد ، وقد اشتدت عليه الضغوط حتى كان يبيت الليل مؤرقا تسح دموعه لأن عليه في الصباح شیكا لابد من دفع قيمته وإلا قدم للنيابة . وقد عرف طريق النيابة والمحكمة للأسف وعشنا أياما سوداء كئيبة بعد أن كان بيتنا لا يعرف إلا البهجة والسرور .

وقد جرى كل ذلك ونحن نتكتم ظروفنا عن الأهل .. والأقارب والجيران .. وإن كانت رائحة الضيق، لا يحبسها شيء وزاد من معاناة شقيقي أن كبرى الشقيقات الثلاث كانت مخطوبة قبل وفاة أبينا بشهور، وخطبها خاطبها وهي ابنة تاجر مستور الحال ، ويجب أن تزف إليه بما لا يجرح كرامتها أو يرخصها في عين زوجها ، وأن الأخت الوسطى كانت في إحدى الكليات العملية .. وتحتاج إلى مصاريف كبيرة للكتب والدروس الخصوصية وخلافه .

أما الأخت الصغرى فقد كانت دلوعة أبيها التي لا يرد لها طلبا ، ومات أبوها وهي طفلة فحرص أخي على استثنائها بقدر الإمكان من التقشف الذي فرضته الأسرة على نفسها فنشأت جريئة تطلب ما تريد بغير حرج أو تقدير لأي ظروف .. وتغضب إذا لم يستجب لها أحد .. وفي هذا العناء عاش شقیقي سبع سنوات طويلة قاسية غيرت كل شيء في شخصيته وحياته ، فبعد أن كان شابا مرحا أنيقا يتفجر صحة وحيوية قبل وفاة أبيه ، استقرت الكآبة والهموم في وجهه .. وسقط شعره وتحول العود الأخضر إلى عود جاف متجعد .. واكتسب عادة سرعة التأثر بأي شيء فكان لا يكاد يمضي يوم لا تراه فيه أمي أو إحدى البنات خلسة ودموعه على خديه وهو مختل بنفسه في غرفته .. كما بدا يعاني من آلام شديدة في معدته ويحس دائما بالغثيان والرغبة في التقيؤ ، وكثيرا ما صحونا في الليل على صوته وهو يفرغ ما في معدته في الحمام .

وبعد إلحاح شديد من أمي عرض نفسه على الطبيب وعرف أنه قد أصيب بقرحة في المعدة .. وكان هذا هو الثمن الذي دفعه من صحته لإنجاحه في تحمل المسئولية وتسديد الديون .. وتزويج الأخت الكبرى بأقصى ما يستطيع من إمكانيات مشرفة إلى جانب أدائه لكل تكاليف دراسة الأخت الوسطى .. وتعليم الأخت الصغرى التي رفضت دائما التنازل عن أي مطلب من مطالبها ، وأصبحت تمثل له أصعب مشاكله بعد أن بدأ يلتقط أنفاسه ويجني ثمار تعبه .. ففي سن السابعة عشرة سمع أنها تلتقي بطالب جامعي مستهتر ومتعثر في دراسته وسمعته سيئة .. وواجهها .. وصرخ في وجهها وضربها لأول مرة في حياته .. وبدأ يضيق عليها في الخروج والدخول ويترك تجارته ليراقبها .. ويبکي من القهر حين يعرف أنها لم تلتزم بما وعدته .. وأصبح الاشتباك بينهما شبه يومي ، وهي لا ترتدع ولا تخاف .. ورسبت في الثانوية العامة بعد أن كلفته في الدروس الخصوصية الكثير ، وأحكم رقابته عليها في العام التالي وجاءها بالمدرسين في البيت حتى لا تخرج ، فنجحت بصعوبة والتحقت بمعهد عال .

وبدأ يستريح قليلا ففوجيء بها تجيء إليه بهذا الطالب ليخطبها بدون أهله . ورفضه شقیقي وقال له بصراحة إنني لا أوافق عليك لسوء سمعتك ولأنك متعثر في دراستك ، وأنا لا أرتاح إليك لكني مستعد لأن أغير رأيي فيك إذا أصبحت إنسانا جادا وأكملت دراستك .. وجئت مع أهلك لخطبة أختي . وهاجت الشقيقة الصغرى على شقيقها .. وأعلنت بكل وقاحة أنها سوف تتزوجه سواء أكمل دراسته أو لم يكملها .. وخيم النكد والشقاق على بيتنا ، وازدادت نوبات القيء والغثيان عند شقيقنا وأمي ترجوه أن يرحم نفسه وصحته ويدعها للأيام لتربيها .. وهو يقول أنها أمانة في رقبته لابد أن يحافظ عليها .

 

واستمر الصراع وطال حتى أننا لم نشعر بأي فرح حين خطبت الشقيقة الوسطى وأصبح كل همنا هو أن نكتم عن خطيبها فضائحنا واقترب شقيقي من الثلاثين ولم يخطب ولم يتزوج ، ويقول إنه لن يستريح إلا إذا زوج الأخت الصغرى - قبل الوسطی - لأنها مشكلة حياته . وبعد ذلك سوف يبحث عن نفسه ، وخلال ذلك فوجيء بالأخت الصغرى تعلن أنها ستقطع دراستها بالمعهد وتتزوج من فتاها الذي قطع دراسته بعد ثماني سنوات وعمل في إحدى دول الخليج بوظيفة صغيرة بواسطة خاله المقيم هناك .. وانفجرت المشاكل من جديد وبعد أن أعيت الأخ الأكبر الحيل معها أعلنها أنه موافق على زواجها منه ولا يطلب منها سوى إكمال دراستها التي لم يبق على انتهائها سوى عامين فقط ثم اللحاق بزوجها .. فأصرت على أن تؤجل الامتحان عاما وتقطع الدراسة وتتزوج .. وبدلا من أن تتبين وجه الحكمة في نصيحة شقيقها لها اتهمته أمام أمه وشقيقته بأنه يعرقل زواجها حتى لا تطالبه بجهاز وفساتين العروس .. الخ بل واتهمته . قطع الله لسانها - بأنه اغتال حقها في میراث أبيها وطالبته به لكي تتزوج وتسافر !

فما أن سمعت الأم و الشقيقتان ذلك حتى صرخن فيها وبكين ونهضن إليها ليكتمن صوتها ، فوقفت كالنمرة الهائجة وهددت بأنها ستلقي بنفسها من النافذة إذا اقترب منها أحد. وانعقد لسان شقيقنا من التأثر ثم قال لها ذاهلا بعد حين : افعلي بنفسك ما تريدين فإني بريء منك إلى يوم الدين .. أما الميراث فقدري نصيبك منه وسأعطيه لك ... وليفعل الله ما يريد. وطلبت الشقيقة المتمردة مبلغ محددة لشراء ما تحتاج إليه من فساتين وملابس فأعطاها شقيقها أكثر مما طلبت لكنه لأول مرة في حياتنا طلب من أسمي أن تستكتبها ورقة وتسلمها له بأنها قد حصلت على نصيبها من الميراث ولم يعد لها في ذمته شيء . وكتبت الورقة وشهدت عليها الأم والشقيقتان و تزوجت الشقيقة الدلوعة فتاها المحبوب بالتوكيل، وسافرت إليه بفستان الزفاف الأبيض ومعها حقائبها محملة بالملابس الفاخرة وتم كل ذلك في جو كئيب .. وشقيقنا صامت لا يتكلم .. وقد تحمل مسئوليته في عقد زواجها وهو حزين .. وكلما اقترب موعد سفرها ازداد اكتئابا وانطواء وزادت نوبات القيء والغثيان .. والأم و الشقيقتان يلححن على الفتاة المدللة أن تعتذر لشقيقها وتسترضيه قبل سفرها ، فلم يخرج منها سوى أن صافحته وهي مسافرة في برود ولم تكلف خاطرها أن تسترضيه بكلمتين !
وبعد سفرها بأسبوعين دخل المستشفى لإجراء عملية القرحة وكتبت إليها شقيقتها لكي تكتب إليه خطابا طويلا تعتذر له فيه أو تتصل به تليفونيا ، فلم يخرج من يدها إلا خطاب قصير من عدة سطور تقول له فيه سلامتك !! فانسد قلبه تجاهها بعد صبر طويل ولم يرد عليها . وأصبح يتجنب رفع سماعة التليفون حين تتصل بالأسرة .

وبعد عام من سفرها تزوجت الشقيقة الوسطى في هدوء ولم تحضر الصغرى فرحها لأن ظروف زوجها المادية لم تسمح ، وتزوج شقيقنا من إحدى قريباتنا بعد قليل بلا فرح ولا احتفال ، كأنما كتب عليه ألا يفرح بشیء منذ وفاة أبيه ، وخاصة بعد خروج شقيقته الصغيرة على طاعته وإيلامها له ، ولم يمض وقت طويل حتى أصبحت الشقيقة الصغرى مرة أخرى مشكلة الأسرة كما كانت منذ بلغت سن الصبا .. فقد بدأت أفلام المعارك لا تتوقف بينها وبين زوجها المحبوب ، بما فيها من ضرب وكسر وجرح وبهدلة في الشرطة هناك ولجوء إلى بيوت الأصدقاء .. ورجوع إلى مصر ببيع ذهبها أو على نفقة خال الزوج حيث ترفض العودة لبيت الأسرة خوفا من مواجهة شقيقها وتنزل ضيفة عند شقيقتها الكبرى بالأسابيع ثم يعود يصالحها زوجها بالتليفون، فترجع إليه كأن شيئا لم يكن .. ويتكرر الفيلم بنفس تفاصيله بعد عام وكل مرة تعود فيها تخلع حذاءها أمام شقيقتها وتضرب به نفسها فوق رأسها لأنها لم تسمع نصيحة شقيقها وتقول لماذا لم تمنعوني بضرب الحذاء مما فعلت !

وشقيقنا يسمع بذلك فلا يتكلم ولا يعلق ويتألم جدا كلما جاءت لمصر ورفضت المجيء إلى البيت ويقول في حسرة إن الدم لا يتحول إلى ماء إلا عند أولاد الحرام .. ونحن لسنا كذلك فلا حول ولا قوة إلا بالله .

 

وقد زاد الطين بلة أنها أنجبت من زوجها طفلا وأنه لم يتخل عن استهتاره في الغربة .. ففصل من عمله أكثر من مرة بسبب إهماله وعدم التزامه بالمواعيد، وفي فترات تعطله تنشب بينهما المعارك على ذهبها ومصوغاتها ويستولي على ما يشاء بالقوة ويتظاهر أمام أهله بأنه ناجح في عمله، فيرسل لأبيه مثلا هدية وهو متعطل ونقود من ثمن ذهبها حتى يوهمه أنه يعمل مع أن خاله يقيم في نفس المدينة وقد ساعده على الالتحاق بأكثر من عمل . ويحرص على مظهره أمام من يعرفهم هناك ويشتري لنفسه الملابس وزوجته وطفله لا يجدان ما يسد الرمق وقد بلغ بها الحال أن عانت الحرمان والجوع هي وطفلها أكثر من مرة لولا مساعدات خاله له ، وهو لا يريد أن يستقيم ويحرص على لقمة عيشه وإنما يسهر حتى الصباح في بيوت أصدقائه ويتأخر عن عمله فيفصل إلى جانب أنها تعيش معه في سكن شعبي لا يختلف عن سكنى القرى وقد أنذره خاله في المرة الأخيرة بأنه لن يتدخل لإنقاذه إذا فقد عمله الحالي الذي لا يوفر له إلا الكفاف .. وسوف يفقده عاجلا أو آجلا لأنه مستهتر ، وقد استولى زوجها أيضا على معظم مصاغها بالضرب والبهدلة في فترات التعطل ولم يبق منه إلا شیء قليل تخفيه لدى أسرة صديقة لكي تستطيع شراء تذكرة الطائرة إذا ساءت الأحوال أكثر وهي رغم مرور 5 سنوات لا تزال مقيدة بالمعهد بعد أن قدمت اعتذار عن عدم دخول الامتحان أكثر من مرة ودخلته خلال وجودها بمصر مرة ونجحت والعام القادم هو فرصتها الأخيرة لدخوله . وقد يئست تماما من انصلاح أحوال زوجها لكنها تقاوم - بكل ما تملك من قوة - العودة خائبة بطفلها ومواجهة شقيقها وتريد العودة لدخول الامتحان وللبحث عن حل لمشكلتها وزوجها لا يمانع في ذلك بل إنه يطالبها بالعودة لمصر حتى يتخلص من تكاليفها .. ويسكن في غرفة مشتركة مع صديق له .. ويوفر إيجار السكن العائلي الذي لا يحتمله مرتبه .. وهي تريد ألا تعود إلى بيت الأسرة خوفا من شقيقها .. وزوجها لا يضمن لها أن تستريح في بيت أبيه بل إنه لا يضمن لها أن يقبل إقامتها عنده وقد تزوجها وقطع دراسته من أجلها على غير رغبة أبويه ، وسوف يغلقان غالبا بابهما دونها .. وحتى لو قبلاها فمن أين ستعيش وهي لا تضمن أن يفي زوجها بالتزاماته ويرسل لها المبلغ الشهري الذي وعد به ..

 

وأنت في النهاية يا سيدی تريد أن تعرف من أنا من هؤلاء الشقيقات الثلاث وقد كرهت بالتأكيد خلال قراءتك لرسالتي تلك الأخت الصغرى الجاحدة التي تنكرت لشقيقها بعد ما عانى من أجل أسرته وتتمنى ألا تكون قارئتك هي هذه الأخت الجاحدة لكنها أنا بعينها للأسف ، وقد علمتني الأيام ما لم أكن أعلم .. وعرفتني حكمة شقیقي وبعد نظره وأريد أن يصفو الجو بيني وبينه .. وألا يتخلى عني مهما كنت قد فعلت معه وأريده أن يعود أبا وأخا لی کما كان ولكن بدون شماتة وبدون ذل أو تذلل لأني قد شبعت ذلا وإذلالا ومهانة خلال 5 سنوات من الزواج والغربة رأيت فيها ما لم أكن أتخيل وجوده في الدنيا وأريدك أن تنصحني ماذا أفعل في حياتي مع زوجي .. وكيف أعود إلى رعاية أخي لی کما أريدك أن تتوسط بیني وبینه وتقول له أنني قد تعلمت الدرس .. وأريده أن ينسى كل ما كان بيننا وأن أعود أختا صغرى له فهل تفعل ذلك أو بماذا تنصحني أن أفعل ؟

  

جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"

abdelwahabmetawe.blogspot.com

ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

افعلي يا سيدتي ما ينبغي لك أن تفعليه وهو أن تواجهي نفسك بغير خداع أو مكابرة وتقرري على ضوء الواقع الصريح والتجربة هل هناك أي احتمال لإصلاح أحوال زوجك واستقرار الحياة معه من اجل طفلك ومن أجل حب الصبا الأهوج الذي جر عليك وعلى أسرتك كل هذه الأهوال ؟.. أم أن الزواج قد فشل وولد ميتا منذ زمن طويل لكنه مستمر بالقصور الذاتي أو العجز عن إيجاد البديل .. والخوف من مواجهة الفشل وشماتة الأهل الذين لم تسمعي لنداء الحكمة في صوتهم ؟

وإذا كان الاحتمال الأول هو الأرجح فواصلي المقاومة حتى آخر نفس لكيلا تصبح تجربتك في النهاية تجربة عبثية بعد كل ما تكبدت من اجلها من عناء وما تحملت من تبعات .

وإذا كان الاحتمال الثاني هو الأرجح فاتخذي قرارك بنفسك وتوصلي إليه باقتناعك الحر الكامل كما توصلت من قبل إلى اقتناعك الأول باختيار الحب ضد نداء العقل والأهل والحكمة ، حتى إذا اهتديت إلى القرار رضيت بتبعاته بغير أن تلومي أحدا كما فعلت حين تساءلت مرة لماذا لم يمنعك أحد من الزواج وقطع الدراسة .. ولو عفوا " بضرب الحذاء" ؟


إنه قرارك وحدك وأنت قادرة والحمد لله على اتخاذ القرارات وتحدي الإرادات المحيطة بك حتى النهاية .. فلماذا تضعفين عن القرار الآن أن كان من أجل طفلك فهذا ضعف حمید يستحق التأيد أما إذا كان لغيره فدعيني أحدثك بصراحة فأقول لك إنك لا ترغبين في الانفصال عن زوجك رغم ما قاسيت منه ، لكنك تريدين أن تعودي إلى حماية شقيقك في مواجهته ومواجهة ظروف حياتك القاسية ولا بأس حتى بالدوافع "المصلحية" أحيانا مادامت تقودنا إلى تصحيح وضع خاطىء ورفع الإثم والحرج عنا . فلقد كان الإمام أحمد بن حنبل لا يرى بأسا في إجازة بعض الأحاديث الضعيفة مادامت تحض على فضائل الأعمال .

والوضع بينك وبين شقيقك الآن وضع آثم لأن فيه قطعا للرحم بینکما وتنكرا منك له وجحود لفضله وحقه عليك كأخ وأب لك . وهو يضيق بهذا الإثم أكثر مما تضيقين به مع فارق هام هو أن رفع هذا الإثم عنه سوف يضيف إلى كاهله عبئا جديدا هو مسئوليتك ورعايتك وحمايتك ، في حين أن رفعه عنك سوف يخفف عنك بعض متاعبك ومعاناتك مع زوجك ومع الحياة .

 

فإذا كان الأمر كذلك فكيف تستكثرين أن تعترفي لشقيقك بخطئك في حقه وتعتذري له اعتذارا صريحا عنه ؟ وكيف تعتبرین ذلك ذلا وإذلالا وترغبين في العودة إليه بغير اعتذار ولا لوم من جانبه إن لامك أو عاتبك .

الحق أنني لا أفهم هذا النوع العجيب من الحساسية الذي يسمح للإنسان بأن يخطيء في حق الآخرين ويتمادي في خطئه ثم يرفض الاعتذار عنه ويكره لومه عليه .. لأن اللوم سوف "يجرح" مشاعره وأحاسيسه؟ إن الحساسية الايجابية هي التي تنأى بصاحبها عن الخطأ حتى لا يضع نفسه موضع اللوم من الآخرين أما حساسية ارتكاب الخطأ وعدم احتمال اللوم عنه .. فهذا ما لا أفهمه ولا استسيغه.

فلكل شيء في الحياة ثمن يا سيدتي .. وأهون ثمن للخطأ هو أن نتحمل عتاب من أخطأنا في حقهم أو من جافيناهم وتنكرنا لهم وآذينا مشاعرهم طويلا بلا ذنب جنوه سوی رغبتهم في حمايتنا . والإنسان الفاضل حقا هو من إذا أخطأ اعتذر ، وإذا عوتب على خطئه تقبل العتاب راضيا .

لقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي  اقترض من أعرابي بعيرا فلما جاء الأعرابي في موعد أداء الدين يطلب دينه أغلظ على الرسول في الطلب فاستاء الصحابة حتى هموا بالرجل لإساءته الأدب مع رسول الله فقال لهم عليه الصلاة والسلام : دعوه .. إن لصاحب الحق مقالا أي منطقا ومبررا لأن يطلب حقه بما يراه مناسبا له، ثم أمر برد دينه إليه بأفضل مما أخذ.

وواجب المدين دائما هو أن يؤدي دينه للدائن ولو اشتد عليه في الطلب .. ومن يرفق بمدينه كان أفضل و أقرب إلى الخلق الكريم . . وأنت قد اقترضت، يا سيدتي من شقيقك الكثير والكثير من سعادته وصحته وراحته الشخصية وراحة قلبه وأعصابه منذ صباك .. وواجبك الديني والأخلاقي هو أن تردي عليه دينه حتى لو اشتد عليك في اللوم.

أما تحسسك من الاعتذار له ومن عتابه لك فلا ينطبق عليه إلا قول الكاتب الأمريكي ريتشارد هاردنج "إن سوء فعلك لا يفوقه إلا رفضك الاعتذار عنه". وفي الحديث الشريف أن من لم يشكر الناس لم يشكر الله ، وشقيقك لا يطلب منك شكرا ولا عرفانا وإن كانا من حقه .. وإنما يطلب منك فقط ترضية بسيطة لنفسه وربما اعتذارا عن خطئك في حق نفسك و أسرتك قبل خطئك في حقه، وهو لن يشتد عليك في اللوم والعتاب و هيهات أن يفعل من كان من أهل العطاء وإنكار الذات مثله وقد فات أوان اللوم والعتاب وإنما من حقه عليك وعلى نفسك ألا تطلبي منه دينا جديدا بغير سداد ديونك القديمة له .. وما أسهل السداد ... وما أهون الأداء حين يتوقف على كلمات ترضي النفس وتمسح الجراح وتفتح الأبواب التي أغلقها الجحود والنكران في وجوهنا أما الشماتة .. فلا محل لها .. بين الأشقاء .. وهل يشمت المرء في يده إذا اعتلت وهو من يعاني أوجاعها ؟

 

يا سيدتي ارفعي عن نفسك أنت قبل غيرك إثم تنكرك لشقيقك وجحودك له وقطعك لرحمه .. باعتذار صریح لا لبس فيه منك فالأسوياء فقط لا يكابرون ولا يجادلون فيما لا يحتمل الجدال .. ثم عودي لاستكمال دراستك وأقيمي في بيت أبيك وأخيك واجعلي من شهور الدراسة في مصر فرصة اختبار أخيرة لزوجك، فإما استقام واهتدی وتعامل مع الحياة ومعك بجدية أب مسئول عن زوجته وطفله ، وإما أغلقت بمساعدة شقيقك هذه الصفحة من حياتك نهائيا وبدأت حياة جديدة بعد استكمال دراستك وأول مؤشرات التغير الايجابي في شخصيته هو حرصه على عمله ومورد رزقه ووقته وجدية الالتزام بمسئوليته المادية عنك وعن طفله ، وتفكيره في بدء مشروع شراء أو استئجار شقة في مصر لتكون بيتا مستقرا لك ، فإذا لمست منه هذه المؤشرات الإيجابية فبها نعمت ، وإن لم يتغير فلا مفر مما لا مفر منه ، وفي كل الأحوال فلابد لك من أن تصححي الوضع الخاطيء بينك وبين شقيقك وأن تستكملي دراستك مزودة بسلاح جدید ضد استهتار زوجك المحبوب هو رعاية شقيقك لك وصفحه عنك ، وشهادة دراسية تفتح لك أبواب العمل .

فلماذا تحرمين نفسك من مساندة أخيك لك في الحياة لمجرد كراهيتك للاعتذار له وتهيبك لعتابه ولومه أو حتى جفائه لك لفترة قصيرة إلى أن تصفو نفسه تجاهك ، وهل اللوم والعتاب والجفاء إذا حدث - ولن يحدث بإذن الله - أشد إيذاء لك من الضرب والكسر والنطح والبهدلة في الغربة؟ .

رابط رسالة القيود الحديدية تعقيبا على هذه الرسالة


نشرت في مايو سنة 1993 بجريدة الأهرام باب بريد الجمعة
 راجعها واعدها للنشر / نيفين علي
Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات