عصف الرياح .. رسالة من بريد الجمعة 1992

 

عصف الرياح .. رسالة من بريد الجمعة 1992


عصف الرياح .. رسالة من بريد الجمعة 1992


 كنت ضابطا بالقوات المسلحة ناجحا في عملي ومحبوبا من زملائي ومحترما في مجتمعي، وعندما تخطيت الثلاثين فكرت في استكمال نصف ديني ووفقني الله إلى شريكة حياة قاسمتني حلوها دون مرها لأنه لم يكدر علينا صفو الحياة شئ منذ تزوجتها , فهي رضية النفس طيبة ومريحة وأنا أرعى الله في حياتي وألتزم بحلاله وأخاف من حرامه .. وقد أنعم الله علينا بثلاثة أطفال فأصبحت زوجتي لا هم لها إلا رعايتهم والسهر على راحتهم والاستمتاع بطرائفهم ومشاغباتهم وقررت أن أسعى لبناء مستقبل أفضل لهم وكنت قد بلغت في خدمتي رتبة محترمة فطلبت إحالتي للتقاعد , وشاركت مع زملاء لي في مشروع صناعي وتجاري ناجح وفر لي مستوى ماديا لا بأس به , وتمكنت بفضله من أن أحصل على شقة متسعة فاخرة في أحد أحياء الاسكندرية حيث أعمل بعد التقاعد وانتقلت مع أسرتي للشقة الجديدة وبدأت احس بالاطمئنان للغد ويزداد أملي في المستقبل فأسرتي سعيدة , وزوجتي مثالية .. وصحتي جيدة والحمد لله وعملي ناجح ويزداد نجاحه يوما بعد يوم , فإذا بزوجتي تمرض مرضا قصيرا وتنهزم أمامه فجأة .. وترحل عني وهي دون الثلاثين من شبابها وأكبر أطفالنا في الثامنة من عمره وأنا لا أصدق ما أراه وما يجري حولي .. وحين بدأت أصدقه بكيتها بكاء مرا , وأحسست بالحسرة تمزق صدري على أطفالي الذين كتب عليهم الحرمان من عطف أمهم وحبها وهم في هذه السن الصغيرة وفقد كل شئ بهجته في قلبي وتحيرت ماذا أفعل في أمري وكيف أرعى هؤلاء الصغار وأتدبر شئونهم وأخيرا قررت أن أعود بهم إلى القاهرة لكي ترعاهم أمي المريضة المسنة وأعيش إلى جوارهم , وشجعني على ذلك زملائي وشركائي في العمل الذين غمروني بتعاطفهم وإشفاقهم وقاموا بعملي نيابة عني وطلبوا مني أن أتفرغ أنا لشئون صغاري إلى أن تستقر الحياة بهم , بعد أن عصفت الرياح بيتنا السعيد على غير انتظار وتفرغت بالفعل لحياتي الخاصة ولاحظت أن أمي المسنة تبذل جهدا لا تتحمله صحتها لرعاية أطفالي وهي التي تحتاج لمن يرعاها .. وأشار علي زملائي وأصدقائي بضرورة الزواج مرة أخرى لكي أجد لأطفالي أما بديلة ترعاهم بعد أمهم وكانت النصيحة أن أتزوج من أقرب الناس لأطفالي وهي شقيقة زوجتي وتمنيت أن يتحقق ذلك فعلا وتقدمت لها أعرض عليها الزواج لكي نواسي معا هؤلاء الأبرياء فرحبت هي وأسرتها بالمبدأ وتزوجتها في هدوء واسترحت إلى وجود اطفالي في رعايتها وعدت لمقر عملي في الاسكندرية وأنا طامع في رحمة ربي بي وبأبنائي , فلم يمض وقت طويل حتى حدث ما لم يكن في الحسبان , وإذا بزوجتي الثانية مريضة أيضا شفاها الله بمرض متمكن منها وتنتابها نوبات شديدة وغيبوبة تغيب فيها عن الوعي وقد أثر المرض على جهازها العصبي وعلمت للأسف أن كل أفراد الأسرة مصابون بهذا المرض القاسي شفى الله الجميع , وتجددت أحزاني بما عرفته عن مرض زوجتي وتكدرت حياتي مرة أخرى ثم فوجئت بها تصارحني بأنها لا تستطيع الاستمرار في حياتها الزوجية معي وفي تحمل أعبائها وأن فكرة الزواج مني كانت تجربة أرادت خوضها لتختبر قدرتها على تحمله.

لكنها أدركت الآن أنها غيرمؤهلة صحيا لها ولا لرعاية الأطفال الصغار, ولم أكن قد برئت بعد من تجربتي النفسية الأليمة في فقد شقيقتها فتضاعف ألمي حين سمعت منها ذلك وحاولت اثناءها واقناعها بالمقاومة والصبر لكنها تمسكت بأنها غير قادرة على ذلك فأجبتها إلى طلبها وانطفأ آخر أمل في حياة مستقرة بعد أن كنت قد ظننت أنني قد وجدت الحل لمشكلة أبنائي.

 والآن أسألك هذا السؤال الذي أسأله لنفسي كل يوم .. ماذا أفعل بأطفالي الصغار الذين فجعوا في موت أمهم .. ثم فقدوا خالتهم بعد قليل وبلا ذنب منهم أو مني وكيف أرعاهم وأطمئن عليهم وهم في حاجة إلى عطف الأمهات ورعايتهم ؟ إن أصدقائي ينصحونني بالإقدام على الزواج مرة ثالثة فأسألهم وأين هي الإنسانة التي تقبل رعاية ثلاثة أطفال صغار لا أم لهم وأين أجد مثل هذه المضحية التي تقدم على مثل هذا العمل ثوابا واحتسابا ؟ إن أصدقائي يقولون إن هذا ممكن وأنا أراه مستحيلا فما هو رأيك أنت يا سيدي ؟

 

ولـــكـــاتــب هـــذه الرســـالة أقول:

 

لست من أنصار التضحية كحل وحيد في مثل ظروفك , وإنما أنا من أنصار الحل العملي الذي يحقق مصلحة الطرفين ويتنازل فيه كل طرف عن بعض مطالبه من الحياة ليلتقي مع الآخر عند الهدف المشترك المشروع وهو إسعاد النفس مقابل إسعاد الغير.

والحل الأقرب للواقعيه في مثل ظروفك هو أن يوفقك الله إلى أرملة شابة امتحنتها الحياة بنفس محنتك وتحتاج إلى أب بديل لأطفالها كما يحتاج أطفالك إلى أم بديلة لهم , ثم تتعاونا معا على مواساة أطفالكما ورعايتهما والوصول بهم إلى شاطئ الأمان .. ومثل هذه الأسرة حين تتكون بإذن الله هي أحق الأسر برعاية الله لها وفضله .. فلقد جاء في الحديث الشريف أن "خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه" فما بالك ببيت سوف يظل أربعة أو خمسة منهم ؟ ويلي هذا الحل في الأفضلية أن ترتبط بمطلقة ذات أولاد أو مطلقة محرومة من الانجاب أما الاعتماد على التضحية وحدها وإن كانت ليست مستبعدة فإنه يقلل من فرص التوصل إلى حل عاجل لمشكلتك ومشكلة أطفالك الأبرياء فإذا كانت الدنيا لا تخلو ممن ترحب بهذه التضحية قربى إلى الله وطمعا في أجره فمن الحكمة أيضا أن تكون أنت على استعداد لتضحية مماثلة إذا كانت هي الحل المتاح عدلا ورحمة لمشكلة أسرتين عصفت بأمانهما أعاصير الحياة , فاصبر يا صديقي على بلائك وانتظر حلا رحيما من السماء لها وقل مع البارودي العظيم :

صبرت لها حتى تجلت سماؤها

وإني صبور إن ألم بي خطب

ولابد أن يتجلى سماؤها وتنكشف هذه الغمة المحزنة عن حياتك قريبا جدا بإذن الله.

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" ديسمبر 1992

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات