القائمة الرئيسية

الصفحات

المرآة الداخلية .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2001

 المرآة الداخلية .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2001

المرآة الداخلية .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2001

إن الإنسان إذا صدق مع نفسه صدق مع الناس جميعا‏، كما نبهنا إلى ذلك شاعر الإنجليزية الأعظم شكسبير منذ عدة قرون‏، كما أن الصدق مع النفس ييسر على المرء التعامل مع الغير وييسر عليهم التعامل معه‏..‏ ووضوح الأهداف القائم على اعتراف المرء لنفسه برغباته وأفكاره الحقيقية‏..‏ يحدد له الطريق الذي يسلكه لبلوغها‏..‏ ويوفر عليه عناء الدوران حول الهدف والتخبط في الطرق المتشابكة التي لا تبلغ به الغاية‏.‏
عبد الوهاب مطاوع

هل تتذكرني؟‏ ..‏ إنني الأرملة التي كتبت لك منذ نحو سنة أو أكثر تقول لك إنها تزوجت عن طريق المعارف من مهندس شاب يعمل بالخليج‏,‏ وكانت تعود معه في الأجازات لمدينتها لتزور أهلها أو للولادة وكان هو يذهب للعاصمة ليكمل إعداد شقة الزوجية‏..‏ ثم شاء القدر أن يموت فجأة فتعود وتدخل شقتها للمرة الأولى أرملة مع ثلاثة أطفال أكبرهم لا يزيد عمره على 8 سنوات وصغراهم لم تزل رضيعة ولم يمض وقت طويل على إقامتي أنا وأمي في القاهرة التي كانت بلد غريبة بالنسبة لي شأنها كشأن البلد الذي عشت فيه مع زوجي الراحل حتى فاتحني صهري في زواجي من ابنه الطبيب وتناقشت أنا وأمي في ذلك ووافقت وتم الزواج وكتبت لك أن زوجي قد تجنبني تماما كزوجة‏,‏ ولكنه نعم الأب لأولادي فلم يعوضهم فقط عن أبيهم الراحل وإنما غمرهم أيضا بالحنان لطيبته الشديدة ومرحه على عكس شدة أبيهم وطباعه المتحفظة‏,‏ ولم يمض وقت آخر حتى فوجئت بزيارة عاصفة من صهري يعايرني فيها بقبول ابنه بي وهو الذي لم يسبق له الزواج وامتناعي أنا عنه ويهددني بأنه  سوف يزوجه من أخرى إذا استمر هذا الوضع.

 

 وكتبت لك أشكو ما حدث وقلت لك إنني قد ثرت على زوجي للمرة الأولى وبكيت بحرقة لأنه فضح ما ستره الله علي مع أني لم أقصر في حقه ويعلم الله ذلك ولم يزد رد فعله على ثورتي عن أن اعتذر لي ثم لم يعد حتى يتحدث معي‏..‏ ولم أكن قد قرأت بعد ردك علي رسالتي صبيحة يوم الجمعة الذي نشرت به حتى وجدت زوجي الذي كان لم يزل على خصامه لي يناديني في غرفة نومي ليعرض علي الجريدة ويقول لي هل أنت صاحبة هذه الرسالة‏..‏ وجرت عيناي على السطور وشعرت بخجل شديد وأطرقت رأسي فإذا به يصارحني بأنه لم يقصد أن يفعل والده ما فعل وأنه كان يتصارح معه فقط‏,‏ محاولا إخباره أن هناك حاجزا نفسيا يقوم بيننا ويحول دون تعامله معي كزوجة غير أن أباه لم يعطه الفرصة ليكمل حواره معه وفعل ما فعل وأنه لم يستطع الحديث معي لأنه لم يعتدني حتى تلك اللحظة‏,‏ وطلب مني أن نخرج معا للحديث بعيدا عن الأولاد وصارحني أن أباه قد ضغط عليه بشدة ليتزوجني وأنه قد وافق على ذلك من منطلق حرصه على أولاد أخيه الذين هم الآن قرة عينه وأنه لمس في خلال ذلك حسن الطباع وحلاوة الإحساس بالأسرة والعقل السديد ويشعر بتأنيب الضمير لي‏..‏ وأن حدسي قد صدق بشأنه لأنه بالفعل مرتبط بزميلة له ولا يستطيع التخلي عنها وهي تعرف كل شيء منذ بداية القصة بوفاة أخيه ووافقت على أن يتزوجني لأنها نشأت يتيمة وتزوجت أمها بغير أبيها‏.

ولذلك فهي تشعر بواجبه الإنساني تجاه أولاد أخيه وكان شرطها الوحيد هو أن يكون الزواج صوريا وأنه رأى أن  ذلك من أبسط حقوقها‏,‏ وقال لي أيضا إن أباه لا يعلم أي شيء عن ارتباطه بزميلته وأنهى حديثه بأن اعتذر لي ثانية بأني امرأة استحق أن يحبني أعظم رجل وأنه لا يجاملني في ذلك‏,‏ ولكنها الظروف التي لم يخترها أي منا لنفسه‏..‏ ولم أنطق بكلمة يومها يا سيدي وطلبت منه الانصراف وعدت للمنزل لأبكي طوال الليل ولا أعرف إن كنت أبكي على نفسي أم على الأيام القادمة‏..‏ وصارحت أمي بما حدث فطلبت مني أن أسأل نفسي ماذا أضاف زواجي منه إلي وماذا سيغير انفصالي عنه لو أردت‏..‏ من وضعي؟ وطلبت مني أن أضع في اعتباري أن صهري سيرفض هذا الانفصال بكل الصور وأن السبب الأكبر لذلك هو الثروة التي تركها زوجي لأولاده قبل أن تكون مصلحتهم الشخصية‏..‏ وسألت نفسي هذا السؤال فوجدت أن زواجي منه لم يزدني إلا السعادة الغامرة لأولادي التي لا أستطيع أن أنكرها بل إني لا أنكر أنهم أسعد حالا من أيام أبيهم ولا أقول بالطبع أنهم قد نسوه‏,‏ ولكنهم في منتهي السعادة وتكفي ضحكاتهم مع عمهم كل مساء لتثبت ذلك وأنهم هم الذين طلبوا أن يقولوا له يا بابا ولم يطلب هو منهم ذلك‏,‏ أما انفصالي فلن يغير في الأمر سوى تعاسة أولادي أولا‏,‏ ثم أبواب جهنم التي سيفتحها جدهم علي وأنا لا حول لي أنا وأمي ولا قوة وليس لنا بعد الله أحد‏.

 

وسألت أنا نفسي كيف أحسن هذا الوضع فوجدت أن الحرج الذي كان يقوم بيني وبين عم أولادي قد زال بمعرفتي أن هذا الزواج صوري‏,‏ وأن أحسن تغيير لحياتي هو أن أحول هذا الزوج إلى أخ حقيقي وبدأت في ذلك يا سيدي‏,‏ أما هو فكأن جبلا قد انزاح عن صدره وبدأ يتعامل معي بلا تحفظ وأنا الأخرى كذلك وبدأ الحوار بيننا حول الأولاد وشئون المنزل والأوراق التي لا تنتهي أبدا في المجلس الحسبي الذي هو نقمة على كل الأرامل‏,‏ وبدأ هذا الحوار يدور داخل غرفتنا التي عاد لها بعد حواره معي وكانت هذه الغرفة لا تشهد كلمة واحدة بيني وبينه‏,‏ كما بدأ يحكي لي عن عمله وعن حبيبته وأحكي له أنا عن حياتي قبل الزواج وأبي الراحل والتشابه في الطباع بينهما وبدأت أحثه على مفاتحة أبيه في زواجه وأعرض عليه أن يأخذ من نصيبي في الميراث ليستعين به على زواجه ثم يرده فيما بعد وبدأت العلاقة بيننا تأخذ شكلا جميلا أعانني على تقبل الواقع والتعايش معه‏,‏ وانتهت زوابع جد أولادي تجاه زواج ابنه حتى تزوج واتفقنا ألا يعلم الأولاد وأن يعتقدوا أنه يبيت في المستشفى نصف الأسبوع‏,‏ وكان يبيت عندي أكثر أيام امتحانات الولدين حتى كنت أخشى أن تغضب زوجته ولكنه طمأنني أنها تتفهم الموقف وأن قلبه هو الذي لا يأبى تركهم أيام امتحاناتهم وكانوا يتصلون به على المحمول دائما لتحيته تحية المساء أيام مبيته خارج المنزل وبالرغم من إنني كنت أحاول منعهم.

 

 وحمدت ربي على ذلك ولكن أتت الرياح بما لا تشتهي السفن فقد بدأت ألاحظ بوادر أزمة عندما لاحظت بعد عدة أشهر عصبية زوجي الشديدة وأحسست أن الموضوع خطير بالرغم من محاولته إقناعي أنها مشاكل خاصة بالعمل‏,‏ وصبيحة أحد الأيام سألته مباشرة إن كانت زوجته قد تضايقت من هذا الوضع وقلت له إني أتلمس لها العذر إن كان الأمر كذلك لكنه نفى ذلك بشدة وقال لي إن الموضوع مختلف تماما وشكا لي من تدخل أبيه مما قد يفسد حياته‏..‏ وبإحساس الأنثى توقعت مع بداية تكرار زيارات صهري لي ووجوده مع الأولاد وبضع كلمات  متناثرة أنه يلمح إلي أن زوجة ابنه لم تحمل حتى هذا الوقت وعجبت لهذا الرجل وتدخله في حياة الجميع بهذا الشكل خاصة أن الزواج لم يكن قد مضى عليه سوى عدة أشهر فقط‏,‏ ومع تطور الأحداث التي كنت ألاحظها فقط ولا أعرف عنها شيئا وجدت زوجي ينطوي على نفسه مرة أخرى ويتباعد عني وعن الحديث معي وحاولت أن أخرجه من صمته فكان يطلب مني ألا أحاول الحديث معه حول هذا الموضوع تماما‏,‏ وامتثلت لذلك واحترمت إصراره على سرية مشاكل بيته وأكدت له أنني أسأله كأخت له‏,‏ خاصة أنني كثيرا ما تدخلت لإقناعه في مواقف سابقة بينه وبينها في مشاكل الحياة العابرة ويعلم الله أنني كنت دائما أمينة في الحديث معه بمنطق الأخت له بل كنت في بعض الأحيان أصر على ألا ينام إلا بعد مصالحتها ولكن هذه المرة لم يسمح لي حتى بمعرفة ما يحدث‏,‏ ولا أطيل عليك أني وجدته ذات يوم يرجع بحقيبة ملابسه قائلا إنه طلقها وكان ذلك عقب أربعة أيام قضاها عندها وعاد لي أشعث الشعر وطويل الذقن وعصبيا بشكل غريب حتى كاد يضرب أحد أولادي فتدخلت بلطف وحزم ومنعته من ذلك وأجبرت الصغير على الاعتذار له برغم أنه لم يكن مخطئا .

 

وبعد هدوء الأمور نسبيا حاولت إقناع زوجي أن يرد زوجته إلى عصمته فلم يقتنع وعرفت أنها قد عرفت باستحالة حملها وأصرت على الطلاق وظلت تطلبه بشدة وجمعت أهلها ووالده لإجباره على طلاقها وأنه قد أصر ألا يفعل حتى ذهبت إلى المستشفى وشتمته أمام الناس فلم يتحملها وطلقها‏,‏ هذا ما قاله لي‏ ..‏ وعبثا حاولت إقناعه بأنها فعلت ذلك لأن نقصها قد جرحها وأن حبها له هو الذي جعلها تصر على الطلاق من أجل سعادته وأنها بذلك لا تستحق منه إلا أن يتحمل من أجلها وطلبت منه أن يردها ويترك لها حرية أن تظل بعيدة عنه فترة حتى تهييء نفسها فأخبرني أن تصرفات أبيه معها ومع أهلها لن تسمح له بذلك ومضت فترة وطالبته مرة أخرى بأن يحاول فقال لي إنه قد حاول بالفعل لكن أمها قد أخبرته بأنها ستتزوج فأصررت على أنها كذبة وطلبت منه المحاولة مرة أخرى وبعد فترة أخبرني أنه قد حاول ولم يفلح وكان طبيعيا بعد تطور علاقتي به طوال الفترة الماضية أن يتحول زواجي منه إلى زواج كامل‏..‏ ولم تمض فترة بسيطة حتى كانت بوادر الحمل قد بدأت تظهر علي بوضوح ولا أستطيع أن أصف لك سعادة زوجي وأبيه بذلك‏,‏ أما زوجي فقد شعرت أنه يطير ولا يمشي على الأرض وكنت أضحك من قلبي على خوفه علي مع أنها المرة الرابعة بالنسبة لي ولا أشعر بأي شيء غريب أصلا‏,‏ أما هو فلا يفارقني ويتشاجر بشدة لو تحركت حركة عادية وأضحك أنا فيزيد غيظه وقد كانت كثرة ضحكي بداية للذي أكتب لك من أجله وكأنه مكتوب علي ألا يهدأ بالي سواء بعدم الزواج أو بالزواج الحقيقي‏..

 

 ففي أحد أيام حياتي السوداء استيقظت على صوت أمي تستنجد بي ونهضت جريا فوجدتها تشير إلى قلبها ولم تكن أبدا مريضة من قبل فانزعجت خاصة من شكل وجهها وجريت إلى التليفون لأتصل بزوجي ووجدت تليفونه مغلقا واتصلت بالمستشفى وأنا أبكي بفزع فردت علي إحداهن لتقول لي إنه في غرفة العمليات ولا تستطيع استدعاءه للتليفون‏,‏ ومن شدة بكائي قالت لتطمئني إن علي أن أترك رقم التليفون ليتصل بي فور انتهاء العملية وأنها ستخبره بذلك‏,‏ وكنت لا أستطيع السيطرة على كلماتي مع ارتفاع آهات أمي فقالت لي اهدئي يا مدام سأبلغه بكل تأكيد‏..‏ أنا زوجته الدكتور فلانة‏!‏ وتوقفت للحظة عن البكاء فسألتني عن اسمي فقلت لها إنني زوجته فشهقت وأغلقت أنا السماعة واتصلت بالإسعاف وخلال وجود طبيبها حضر زوجي وتكلما باللغة الانجليزية وكان تعبير وجه طبيب الإسعاف يقول إنها النهاية وطلب زوجي من أمي أن تنهض للذهاب للمستشفى فرفضت بشدة وقالت له إن أمها ماتت بأزمة شبيهة في فراشها وستكون هي مثلها وحاولت إقناعها فرفضت وجلست مستندة إلى ذراع زوجي وطلبت منه أن يقسم على القرآن أن يرعاني وقالت له كلاما لم تقله لي أنا شخصيا قبل ذلك‏..‏ قالت له إنني لم أكن سعيدة مع أخيه وأنها كانت تشعر بذلك من خطاباتي ومن وجهي خلال أجازاتي لكنها كانت تسكت لأنه نصيبي وقالت له إنها شعرت أنني أحبه هو منذ تعاطفي معه في قصة زواجه وبعد فشلها وتطور الأحداث وقالت له هل يعرف ما معنى أن تحب امرأة مرة واحدة في حياتها من رجل تعرف أنه ليس لها ثم يتحقق فجأة زواجها منه ونظر لي زوجي ولكنني كنت لا أعرف هل أبكي على سندي في الدنيا التي تفارقني في أحلك لحظات حياتي أم على حظي؟‏!.

 

ورحلت أمي عن الحياة وأصابتني حالة من القيء اللا إرادي حتى أصبحت لا أقوى على الوقوف نهائيا وبعد فترة وجدت زوجي يقول لي إنني لم أنظر في وجهه من يوم وفاة أمي وأنه يعرف أن لدي كل الحق في ذلك وأن عودته لزوجته لم يكن قد مر عليه حين علمت به أكثر من أسبوع بتدخل من أصدقاء مشتركين وأنه كان سيخبرني بالطبع‏ ..‏ ولم أرد عليه أن الخيانة ليست في رجوعه لها لأنه من حقها هي في الأصل وأنا الدخيلة عليها ولكن انظر كيف تعاملوا معي منذ البداية؟ لقد زوجوني من رجل لا يريدني ليكون فقط قيدا في يدي يمنعني من الزواج من آخر أنا التي لم أتعد الثلاثين من عمري وأرملة وغنية وجميلة برغم أني لم أكن لأفعلها مطلقا من أجل أولادي‏,‏ وإذا قلت إن له ولأبيه العذر لأنهم لم يكونا يعرفانني فما هو العذر لرجل قال لي إنه لا يريدني برغم ذلك تعاملت معه بمنتهى الأمانة وكرامة النفس وقد عرفني جيدا وساعدته في زواجه وفي وقوفه أمام أبيه حتى يتزوج ممن يريد وتطلعت لسعادته حتى مع أخرى‏,‏ وحاولت أكثر من مرة أن أجعله يردها وكان يتعلل بأنها ترفض‏.‏

 

إنني أشك أن الأمر برمته كان تمثيلية لأحمل أنا هذا الطفل لتكتمل سعادة من تزوجني رغما عنه ليجبرني على أن أظل وفية لأخيه ثم تعامل معي وكأنني جزء من تركة أخيه له عندما احتاجني لأكون أما لطفله بتمثيلية ساذجة لا أدري الآن كيف صدقتها؟‏!‏ وإذا كانت حقيقية فكيف لم أدرك أنه سيعود إليها في يوم من الأيام وإذا كان ما حدث كما رواه لي حقيقة فلماذا أخفى عني عودته لها‏..‏ لماذا الخيانة‏..‏ وأنا التي ناصرته من البداية‏..‏ إنني يا سيدي لا أستطيع النظر في وجهه بالفعل ولا التحدث معه ولا أن أسامحه وقد طلبت منه أن يسرحني بإحسان وأن يظل المنزل منزله ولأولاد أولاده في كل وقت وأن يأتي وقت ما يشاء ويبيت في غرفة أمي رحمها الله فقال لي صراحة إني أستطيع أن أطلب منه ما أشاء حتى ترتاح أعصابي أما تحقيقه فلن يكون مدى حياتي تحت أي ظرف من أجل أولاد أخيه وابنه القادم وأنه حتى بدون ابنه فلم يكن ليطلقني أبدا وأحسست أني أمام زوجي الراحل بجبروته وإحساسه بالامتلاك لمن حوله وإني كنت مخطئة عندما تصورته مختلفا عنه‏.‏

إنها نفس العائلة التي تتحكم في مصيري منذ قرابة السنوات العشر مرة بالزواج والآن بالإرث‏ (‏وليس بالزواج‏)‏ فإحساسي أنه قد ورثني ولم يتزوجني‏ ..‏ والمصيبة أنني أحتقر نفسي وأتساءل ليل نهار‏:‏ لماذا فعلت ذلك بنفسي لقد كان موقفي كريما كأم لأولاد أخيه أما الآن فأنا مجرد ‏(‏ضرة‏)‏ فأي مهانة وأي احتقار أن زوجي يقول لي إنني سأقتل نفسي وجنيني بكثرة بكائي وأن ضغط دمي لا يستجيب للعلاج برغم المهدئات وأنني المسئولة عن ذلك ويحذرني من أن أحاول الإضرار بابني والوضع بيني وبينه في منتهى السوء لأني لا أطيقه ومجرد وجوده يشعرني بالتوتر‏,‏ أما هو فيشعر بالذنب من ناحيتي ويخاف لدرجة الموت على ابنه ويحملني المسئولية وأخشى أن يضار الجنين وأنا متوترة ولا أستطيع السيطرة على نفسي وليس لي في الدنيا الآن من أتحدث معه فرأيت أن أفضفض عن نفسي بالكتابة لك‏..‏ فماذا تقول لي؟

ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏

بعض أسباب معاناة الإنسان وعجزه عن تحقيق سعادته أنه قد يلجأ أحيانا إلى إنكار أفكاره الحقيقية خجلا منها أو رفضا للاعتراف بها‏,‏ ويستعير لنفسه أفكارا أخرى تبدو أكثر عدلا ونبلا واحتراما وأقل مدعاة للشعور بالخجل تجاهها‏,‏ ثم يزعم لنفسه أنها أفكاره الحقيقية ويتعامل مع الآخرين أو يطالبهم بالتعامل معه على أساسها‏.‏

ولأن الإنسان إذا صدق مع نفسه صدق مع الناس جميعا‏,‏ كما نبهنا إلى ذلك شاعر الإنجليزية الأعظم شكسبير منذ عدة قرون‏,‏ كما أن الصدق مع النفس ييسر على المرء التعامل مع الغير وييسر عليهم التعامل معه‏..‏ ووضوح الأهداف القائم على اعتراف المرء لنفسه برغباته وأفكاره الحقيقية‏..‏ يحدد له الطريق الذي يسلكه لبلوغها‏..‏ ويوفر عليه عناء الدوران حول الهدف والتخبط في الطرق المتشابكة التي لا تبلغ به الغاية‏.‏

ولعل الأديب الجزائري مالك بن حداد كان يعني شيئا من ذلك حين قال في أحد أعماله الأدبية‏,‏ إن المرء يفتح شباكه لينظر إلى الخارج‏,‏ ويفتح عينيه لينظر داخل نفسه‏,‏ ويتعرف عليها جيدا وعلى رغائبها وسماتها‏!‏

 

ويخيل إلي يا سيدتي أنك تحتاجين إلى النظر الثاقب في مرآتك الداخلية لكي تتعرفي على أفكارك الحقيقية ورغباتك الأصيلة وتعترفي بها لنفسك بلا خجل‏,‏ ومن ثم للآخرين بلا مواربة‏.‏
ذلك أنه من قبيل تلك الأفكار المستعارة التي قد ينتحلها الإنسان لنفسه هو قولك أن سبب غضبك الضاري من زوجك وضيقك الشديد به ورفضك لقبول الأمر ليس مبدأ إعادته لزوجته الثانية إلى عصمته في حد ذاته‏,‏ وإنما لأنه قد فعل ذلك سرا وتخفى به عنك وذلك برغم أنك أنت التي شجعته من الأصل علي الزواج منها وإعانته عليه ماديا ونفسيا وعائليا‏,‏ وشعرت بالحزن حين انفصل عنها من قبل وكانت تحثه على ردها لعصمته‏,‏ وبالتالي فإنه وفقا لهذه الفكرة المستعارة فإن سبب غضبك منه هو الخيانة بمعنى خيانة الثقة والصداقة القائمة بينكما على المصارحة والمشاركة في كل أمور حياتيكما‏,‏ وليس بمعنى خيانة عهد الوفاء للزوجة‏..‏ والإخلاص لها دون غيرها من النساء‏.‏

والمؤكد هو أن زوجك قد أخطأ في حقك برده لزوجته الثانية إلى عصمته دون استئذانك في ذلك وقبولك به‏,‏ وموافقتك على الاستمرار معه علي هذا الحال‏,‏ لكن المؤكد أيضا هو أن بركان غضبك لم ينفجر لخيانة الصداقة وإنما لخيانة العهد بالمعنى الطبيعي لها لدى أي امرأة تفضل دائما أن تستأثر بزوجها وتكره أن تشاركها فيه أخرى مهما تكن المبررات‏.‏
فلقد تغير حالك مع زوجك عما كان عليه حين كنت تشجعينه على الزواج من زميلته‏...‏ وتتحدثان معا في هذا الأمر حديث الصديقين وليس حديث الزوجين‏,‏ فلقد كنت زوجة صورية له جمعت بينكما الأهداف المشتركة في رعاية الأطفال تحت مظلة واحدة‏,‏ وقبل كل منكما بالآخر راغما أو محرجا‏.‏

أما حين اكتشفت عودته إلى زوجته الثانية فلقد كنت حينذاك زوجة حقيقية له وتضطرب أحشاؤك بجنين منه‏,‏ وقد اتخذت العلاقة بينكما شكلها الطبيعي وتعمقت الألفة والمودة بينكما‏.‏ فإذا قلت الآن إنك غاضبة بشدة لأن ظهور هذه الزوجة في حياته مرة أخرى قد هدد حلمك المشروع في حياة طبيعية مع زوج يخلص لك وحدك وتخلصين له‏..‏ ويستأثر كل منكما بصاحبه دون العالمين‏,‏ لما لامك أحد في ذلك‏..‏ ولاتضح الطريق أمامك‏,‏ وعرف زوجك على الأقل ماذا تريدين‏..‏ وما هو المطلوب منه أن يقدمه إليك لكي تعود المياه إلى مجاريها بينكما‏,‏ ذلك أنه إذا كان الأمر يتعلق حقا بخيانة الثقة والصداقة بإعادة الزوجة الثانية دون علمك فإنه لا يتطلب أكثر من الاعتذار لك عن هذا الخطأ والتكفير عنه بترضية معقولة ويحق له أن يلومك إذا لم تقبلي الاعتذار والتجاوز عن الخطأ‏.‏
أما إذا لم يكن الأمر كذلك فإن إصلاح الخطأ وترضية النفس لا يتحققان في هذه الحالة بالاعتذار وحده‏..‏ وإنما بانفصاله عن زوجته الثانية‏..‏ وتفرغه لك ومعاهدته لك ألا يجمع بينك وبين أخرى في المستقبل‏..‏

فهل أنت قادرة على الجهر بأفكارك ورغباتك الحقيقية والدفاع عنها للنهاية؟ أم أنك تفضلين الدوران حول الهدف‏,‏ والتعمية على الرغائب الأصلية بالوقوف أمام الشكليات بمثل هذه الأفكار المستعارة‏.‏
إن الأمر بيدك فقرري لنفسك على ضوء الممكن والمستحيل في مثل هذه الأوضاع‏..‏ ولا تنسي وضع سعادة الأطفال ومستقبل الوليد القادم من عالم الغيب في الاعتبار‏,‏ كما أن صهرك الذي يحرص على استمرار هذا الزواج بغض النظر عن حقيقة أهدافه من ذلك‏,‏ يستطع أن يؤدي دورا في الحفاظ عليه‏..‏ وإزالة العقبات من طريقه إذا كنت راغبة في ذلك‏..‏ وشكرا‏..‏

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2001

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


reaction:
Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما ستشربه غدا

تعليقات

محتوي المدونة غير منسوخ من الانترنت ولكنه جهد فريق عمل قام بجمعه من أرشيف جريدة الأهرام وإعادة كتابته ومراجعته وتهيئته للنشر ليكون مرجع شامل لمحبي الأستاذ .. لذا نرجو من السادة الأفاضل الذين يتخذون المدونة أساسا ومرجعا لمنشوراتهم عدم النسخ والاكتفاء بروابط الرسائل لحفظ مجهود فريق العمل وإلا عرضوا أنفسهم للإساءة والفضح على وسائل التواصل الاجتماعي ليكونوا عبره لغيرهم من سارقي جهد غيرهم. نيفين علي .. بسنت محمود