أكتب إليك لأستشيرك في
أمر يشغلني ويملك علي كل فكري .. فأنا سيدة في السادسة والأربعين من عمري مازلت
أحتفظ بقدر كبير من جمالي ورشاقتي, كما أن شخصيتي اجتماعية ومحبوبة من
الآخرين.. ولقد تزوجت منذ 22 عاما من إنسان تعرفت عليه في نطاق الأسرة
وأعجبتني شخصيته وأحببته.. وأحبني, وتعاونا على إقامة عشنا المشترك.. ووقفت
وراءه في كل خطوة حققها في حياته العملية.. وأنجبنا بعد الزواج ابنتين وولدا..
وتخليت عن طموحي المهني من أجله ومن أجل أبنائي, فحصلت على إجازة بدون مرتب بعد
الإنجاب لرعاية أطفالي الصغار, وتفرغت لهم وله, وتفننت في تجميل بيتنا
وحياتنا, بموهبتي التلقائية في الديكور والتزيين.. وأنفقت كل هبات أبي المالية
لي بعد الزواج في إضافة الجديد من قطع الأثاث.. وتغيير الستائر.. وتركيب
الباركيه, حتى صار بيتي تحفة يفتخر بها زوجي ويدعو رؤساءه في الشركة التي يعمل
بها للعشاء فيه في المناسبات وهو يزهو بي وبإجادتي للطهي أمامهم.. وبعد أن
استنفدت رصيدي من الإجازة بدون مرتب عدت للعمل في الهيئة الحكومية التي عينت
بها بعد التخرج وعملت بضعة أعوام أخرى .. ثم عدت للتفرغ للأسرة مع بدء ابنتي
الكبرى لمرحلة الثانوية العامة.. وبعد نجاحها بتفوق والتحاقها بالكلية التي رغبت
فيها عدت للعمل لمدة عام آخر ثم تفرغت مرة ثالثة حين جاء دور الابنة الثانية مع
مرحلة الثانوية العامة.
وهكذا وزوجي سعيد بي
وبأبنائه وبيته ويشيد بأمومتي وعطائي له ولأبنائي.. في كل مناسبة.. وحياتنا
تمضي سعيدة وزاخرة بالحب والود والصداقة والتفاهم.
أما المشاكل العابرة التي لا يخلو منها أي
بيت.. فلقد كانت تعبر حياتنا عبورا سريعا لا يترك أية مرارة تؤثر علي علاقتنا
الحميمة.. وحافظنا دائما علي علاقة المودة والحب والرحمة التي تجمع بيننا, ومنذ
بضع سنوات رحل أبي عن الحياة يرحمه الله وهو راض عني وعن زوجي ويوصيني به ويوصيه
بي, وورثت عنه مبلغا من المال وضعته في وديعة بالبنك.. واستفدت بعائدها السنوي
في التوسعة على أبنائي ونفسي وزوجي, وأصبحت أمي بعد رحيل أبي لا تجد راحتها إلا
في بيتي.. بالرغم من إلحاح إخوتي عليها لاستضافتها عندهم.. فكانت تنتقل بين
بيتها وبيوتهم.. وتستقر عندي لفترات أطول لحبها لي ولزوجي وأبنائي.. وفي غمرة
سعادتنا بحياتنا وأسرتنا مرض زوجي فجأة مرضا شديدا.. وتدهورت حالته الصحية خلال
وقت قصير.. وأنا لا أكاد استوعب حقيقة ما يجري أمامي, وتركت أبنائي في رعاية
أمي وانشغلت كلية برعاية زوجي والتنقل معه بين الأطباء.. ودخول المستشفى من حين
لآخر, وأوفدته الشركة الكبرى التي يعمل بها للعلاج في الخارج ولم يكن في قرار
سفره بند لمرافق لأن طبيب الشركة يسافر مع مرضاها المحتاجين للعلاج في
الخارج, فاقتطعت من وديعتي بالبنك مبلغا كبيرا وسافرت معه, وأمضيت بالغربة
شهرين كاملين تلقى خلالهما العلاج المكثف في أحد المراكز المتخصصة.
ولاحت بشائر الأمل في
تحسن حالته ورجعنا ونحن نتعلق بالأمل في الشفاء فلم تمض أسابيع حتى كان الداء قد
هزمه.. ورحل عن الحياة وتركنا وأحسست بعد رحيله بأنني فقدت الأمان.. والإحساس
بطعم الحياة.. واستسلمت للحزن والاكتئاب. وخيم الصمت والظلام والكآبة على
حياتنا, وأسدلت ستائر المسكن الجميل الذي أثثناه معا قطعة قطعة على النوافذ
وأبواب الشرفات كأنني لا أطيق أن يتسلل ضوء النهار إلى البيت الحزين.. ورفعت
فيشة أجهزة التليفزيون في غرفة المعيشة وغرف النوم.. وغطيتها كلها بقطع من
القماش. وحرمت على نفسي وأبنائي سماع الموسيقى والغناء من الراديو أو أجهزة
التسجيل بالرغم من إشفاقي عليهم من حزنهم وافتقادهم أبيهم الحنون طيب القلب الذي
كثيرا ما غبطت نفسي عليه وشكرت الله كثيرا أن أنعم به وبأبنائي علي ودعوت له ولهم
كل يوم أن يحفظهم ربهم من كل سوء, وواصلت الاستسلام لنوبات البكاء وأمي تلومني
على استغراقي في الحزن والكآبة.. وتطلب مني التخفيف عن نفسي وعن أبنائي وفتح
نوافذ المسكن ومساعدة أبنائي على تجاوز المحنة والخروج من البيت.. وقطع الإجازة
والعودة للعمل لكي يشغلني عن أحزاني.

وتتساءل الابنتان عن السبب في هذا الانقلاب
فأشفق عليهما من الإجابة وأغير الموضوع.. وأتحمل نظرات اللوم في عينيهما, حين
أخرج في زيارات عائلية أو إلى الأسواق وأدعوهما للخروج معي للترويح عن نفسيهما.
وبالرغم من كل ما أحسست
به من غيظ وقهر حين عرفت بأمر الزوجة السرية لزوجي فلم أصارحهما بعد بسبب
تغيري.. وخلعي لملابس الحداد.. أما حيرة ابني الصغير لما طرأ علي من تغيرات
فلقد فسرتها له بأنني أريد مساعدتهم بذلك على عدم الاستسلام للحزن حتى لا تتأثر صحتهم
ودراستهم..
وفي بعض الأحيان استريح لما فعلت.. ولالتزامي الصمت مع أبنائي بشأن أبيهم..
وفي بعض الأحيان يتملكني السخط والغيظ فأعتزم مصارحتهم بالسبب الحقيقي.
وإني أسألك يا سيدي كيف يأمن المرء للآخرين إذا كان أقرب الناس إليه قد تكشف له في
النهاية عن شخص آخر له حياة سرية استمرت سبع سنوات دون أن أدري عنها شيئا.
وبماذا تنصحني أن أفعل مع أبنائي.. هل أصارحهم بهذه الحياة السرية لأبيهم..
وبسخطي الهائل عليه بسببها أم أدعهم في أحزانهم علي الأب المثالي الذي يفتقدون
حنانه ورعايته وطيبته ؟
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
ذكرتني
رسالتك ب قصة شهيرة للأديب الفرنسي جي. دي موباسان بعنوان الجواهر روي فيها قصة
فتاة شابة جميلة كالملائكة ذات خفر وحياء ووداعة.. تزوجت من موظف بوزارة
الداخلية فسعد بها وسعدت به, وكانت مثالا للإخلاص والوفاء والطهر.. وتتفنن في
إرضاء زوجها.. وفي تبرير معيشتها بمرتبه المحدود بلا شكوى ولا أنين.. ولم يكن
يعيبها في نظره سوى شيئين هامشيين هما ولعها الغريب بمشاهدة المسرح.. وولعها
الأغرب بارتداء الجواهر المقلدة رخيصة الثمن لتكمل بها زينتها البسيطة.. ولقد
كان يتجاوز عن هواية الجواهر المزيفة ويشفق عليها من فقره وعجزه عن أن يهديها ذات
يوم قطعة جواهر حقيقية.. لكنها سعيدة بحياتها وراضية عنها ولا تشكو شيئا, ثم
رجعت من المسرح ذات ليلة مصابة بالتهاب رئوي من أثر البرد القارس, واشتد
بها المرض خلال فترة قصيرة حتى أودي بحياتها, فكاد زوجها يهلك حزنا عليها وافتقد
برحيلها عن الحياة أنس عشرتها الطيبة له وإخلاصها ووفاءها وأخلاقها الملائكية,
وازداد افتقاده إياها حين عجز عن أن يدبر شئون حياته بمرتبه المحدود, وتعجب كيف
كانت تتفنن في تدبير أمور حياتهما معا بهذا المرتب نفسه. واشتدت أزمته المالية
ذات يوم ورأى أمامه صندوق مجوهراتها المزيفة الذي كان يطلق عليه مازحا صندوق
الخردة, فقرر أن يبيع عقدا منه لعله يأتيه ببضعة قروش تعينه على أمره, وتوجه
إلى أحد محلات الجواهر وعرض العقد الزائف على صاحبه على استحياء فإذا به يكتشف أنه
من اللؤلؤ الحقيقي وباهظ القيمة, وإذا به يكتشف بعد ذلك أن صندوق الخردة الذي
خلفته وراءها زوجته يضم ثروة ثمينة من الجواهر الحقيقية أهداها إليها عشاقها خلال
السنوات التي عاشتها معه.. ويكتشف أنها كانت لها حياة سرية مؤسفة لم يكن يدري
عنها شيئا ولم تتكشف له أية إشارة إليها إلا بعد رحيلها المفاجيء عن الحياة,
والدرس الذي ينبغي لنا أن نستخلصه من رسالتك ومن هذه القصة ومثيلاتها في الحياة هو
أنه ليست هناك حياة سرية يمكن أن تبقى طي الكتمان إلى ما لا نهاية. وأنه من
الحكمة أن تخلو حياة المرء الخاصة مما يسؤوه أن يعرفه عنه الآخرون في حياته أو بعد
رحيله عن الدنيا.. إذا كان حقا ممن يحرصون علي احترامهم لأنفسهم واحترام الآخرين
لهم في الحياة.. وبعد رحيلهم عنها.
والكارثة هي أن بعض البشر لا يتصورون أن طائر الموت يمكن أن يحل فوق رؤوسهم
فجأة.. فيهتك كل الأستار ويذيع كل ما أجهدوا أنفسهم في تكتمه وإخفائه من أسرار
شخصية, مع أن كل الأسرار لابد أن تتكشف بعد حين.
وقديما قال الشاعر العربي:
ومهما تكن عند امريء من خليقة وإن
خالها تخفي علي الناس تعلم
غير أنني أقول لك بعد ذلك إن النبلاء من البشر هم الذين إذا أساء إليهم أحد
تجاوزوا عن إساءته واستهدوا في ذلك بمضمون الحديث الشريف الذي يقول لنا: تجافوا
من عثرات الكريم أو سخطوا عليه إن عز عليهم الصفح. ولكن بغير أن يجرفهم السخط
إلي هاوية الرغبة في الانتقام منه وبغير أن يمدوا مظلة سخطهم عليه إلى الآخرين
الذين لم يسيء إليهم إساءة مباشرة, ويطالبونهم بالانضمام إليهم في موقفهم
منه.. أو يعمدون إلي تشويه صورته أو ذكراه في نفوسهم.
والزواج السري أو الحياة السرية لزوجك التي طالت سبع سنوات ولم تكتشفي وجودها إلا
بعد رحيله عن الحياة خطأ كبير ارتكبه زوجك في حق الوفاء لك بغير جدال, ومن حقك
بكل تأكيد أن تغضبي له.. وتشعري بالسخط علي مرتكبه بل أن تهتز ثقتك لبعض الوقت
في قيم الحب والوفاء والإخلاص والعشرة الزوجية.
لكن ما ليس من حقك هو أن تسحبي غضبك لكرامتك الشخصية من زوجك الراحل على ذكراه في
قلوب أبنائه وصورته المثالية كأب عطوف وحنون لهم في مخيلتهم, ولو فعلت ذلك
استجابة لنوازع السخط والرغبة في الانتقام منه بأثر رجعي.. فإنك ترتكبين بذلك
خطأ أكثر فداحة في حق أبنائك ومعنوياتهم ومثلهم العليا في الحياة, فالأبناء يا سيدتي
لا يسعدون باهتزاز رمز الأب في مخيلتهم.. ولا بالإساءة إلى ذكراه.. مهما يكن
رأي الغير فيه.
ولقد خسر الأبناء بفقد أبيهم
خسارة إنسانية كبرى مهما يكن من أمره معك.. وليس من الرحمة بهم أن تضاعفي من
أحزانهم على فقد أبيهم بتجريح ذكراه أو الإساءة إليه أو التشكيك في جدارته بالحزن
عليه فاغفري له إن شئت ما كان من أمره بعد أن أصبح بين يدي مولاه, أو اسخطي عليه
كما تشائين إذا عجزت عن الصفح الآن, ولكن لا تصدمي أبناءك في أبيهم, ولا تهزي
مثاله الطيب في نفوسهم وتحفظي في تحررك من الحداد عليه أمامهم علي الأقل لكيلا
تجرحي مشاعرهم وتزيدي من أحزانهم وحيرتهم أمام حقائق الحياة المؤلمة..
فالحق أنه لا شيء يجرح قلب المحزون أكثر من أن يستشعر استهانة الغير بأحزانه أو
عدم احترامهم لذكري الراحل الذي يحزن عليه, خاصة إذا كان هذا الغير هو أقرب
الناس إليه وأجدرهم بمشاركة أحزانه علي من فقده.
ولقد يكون من الأوفق لك إن ترجعي إلى عملك الآن لكي يشغلك عن أفكارك وهواجسك..
ورغبتك المؤرقة في الانتقام لنفسك من الطعنة الغادرة التي تلقيتها في وفاء زوجك
لك.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد
الجمعة" عام 2000
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر