نداء المجهول .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1996

 


تمهيد
هذه الرسالة من بريد الجمعة " رسالة مختلفة عن كل ما سبق نشره "
فهي من فصلين
الفصل الأول  ..بعنوان " نداء المجهول " نشرت عام 1996 في بريد الجمعة لاستأذنا الكبير عبد الوهاب مطاوع رحمة الله عليه وبعدها ضمها لكتاب أقنعة الحب السبعة.
أما الفصل الثاني والمكمل بعنوان " حاملة الأمانة " .. فجرت أحداثه ومازالت في وقتنا الحالي وتم نشر تفاصيله في بريد الجمعة  بتاريخ 18 يناير 2013 بقلم الأستاذ / احمد البري " محرر بريد الجمعة بجريدة الأهرام "

 الفصل الأول 

↓↓↓↓

نداء المجهول .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1996

 نداء المجهول .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1996

    اكتب إليك بعد مرور حوالي عشرة شهور كاملة على ما شهدته حياتي من تغيرات جوهرية وكانت المناسبة التي أهاجت شجوني ودفعتني للكتابة إليك هي حلول عيد الفطر المبارك قبل أسابيع وأنا فى حال تختلف عنها فى الأعياد السابقة.

    فأنا يا سيدي طبيب شاب أبلغ من العمر خمسة وثلاثين عاما. أعمل أخصائيا فى أحد فروع الجراحة بإحدى محافظات الجنوب, وتبدأ قصتي التي ارويها لك وأنا طالب بالثانوية العامة حين تعرفت على احد زملائي بالمدرسة.. وتوثقت الصداقة بيننا, وزرته فى بيته القريب من بيت أسرتي لأول مرة لتهنئته بعيد الفطر فرأيت فى بيته فتاة صغيرة تلهو ببالونه أطفال كما يفعل غيرها من الصغار فى الأعياد, وعرفت منه أنها شقيقته الصغرى والوحيدة. وأنها تلميذة بالصف السادس الابتدائي.. وانتهت الزيارة وغادرت بيت صديقي وأنا لا أفكر فى شئ سوى فى هذه الفتاة الصغيرة, أو الطفلة التى رأيتها عنده.. وتعجبت من أمر نفسي بعد ذلك طويلا حين وجدتني مشغول الخاطر بهذه الفتاة الصغيرة التى لا تدرى من أمر الدنيا شيئا, وحاولت رد نفسي مرارا عن التفكير فيها لأنها مجرد طفلة وشقيقة صديقي الحميم, فإذا بى ازداد مع الأيام تعلقا بها وانشغالا بأمرها, وأديت امتحان الثانوية العامة والتحقت بكلية الطب, وحصلت هى أيضا على الابتدائية وانتقلت للمرحلة الإعدادية, وتعلقى بها مازال يغلبنى على امرى, ولا اعبر به سوى بالاهتمام البرئ بأمرها وأمر دراستها حين أزور صديقي فى بيته, وازداد اقترابي منها تدريجيا فتعلقت هى أيضا بى بشدة وبإخلاص شديد البراءة, واعترفت لنفسي بأنني أحب هذه الفتاة الصغيرة حبا يفوق الوصف واننى أريد أن تشاركني رحلة حياتي حتى نهايتها, وقر عزمي على ذلك بالفعل " فاصطنعتها " لنفسي, وحرصت على أن اغرس فيها كل ما أحب من قيم ومثاليات أخلاقية وعادات وطباع وسلوكيات ووجدت لديها استجابة مخلصة لكل ما اطلبه منها, فأصبحت نموذجا رائعا للإنسانة التي أريد أن اقضي عمري كله معها, فحتى الكلية التى التحقت بها بعد حصولها على الثانوية العامة كنت انا الذى اخترتها لها.. ولقى اختياري منها كل ترحيب وحماس على الفور, كأنما قد سلمت لى بحقي عليها فى كل شئ حتى فى نوع دراستها, وتخرجت أنا فى كلية الطب وهى مازالت طالبة فى عامها الجامعي الثاني , ومضت الأيام بنا سعيدة وواعدة بكل شئ جميل حتى تخرجت فتاتي فى كليتها وحصلت على شهادة البكالوريوس وبعد تفاصيل لا داعي للإطالة فيها تم زفافنا, وضمني أخيرا عش الزوجية " بالطفلة " البريئة التى رأيتها لأول مرة قبل سنوات وهى تلعب بالبالونة فى بيت صديقي!

    ولقد كنت أتصور حين بدأنا حياتنا الزوجية أنني اعرف هذه الفتاة كما أعرف جيدا كف يدي , فإذا بالعشرة تكشف لى من شخصيتها ما لم أكن اعرفه من قبل من الخصال الجميلة والروح العطوف النبيلة وطهارة النفس والقلب والسجايا التى يندر وجودها فى هذا الزمان, وفجأة وأنا فى قمة سعادتي بها وسلامي النفسي معها خلال شهور الزواج الأولى, وجدتني أشعر فجأة بالقلق والخوف من شئ مجهول لا استطيع تحديده وحاولت تفسير خوفي الغامض هذا بأنه بعض الخوف الطبيعي الذى قد يساور الإنسان أحيانا إذا اكتملت سعادته, فخشى عليها الا تدوم أو ان يفسدها عليه الكدر, لكنى لم استسلم لهذا القلق طويلا وان لم أتخلص منه نهائيا, ومضت الأيام بسلام بى و"بطفلتي" الحبيبة التى راقبت عن قرب كل مراحل نموها الجسدي والنفسي إلى ان جمعنا معا عش الزوجية, وبعد عام من الزواج بدأت حبيبتي الوديعة تشعر بالقلق لتأخر الحمل وأجرينا الفحوص اللازمة فثبت خلونا نحن الاثنين من أية موانع للإنجاب , ورحت أطمئنها إلى ذلك وساعدها إيمانها القوى وصلتها الوطيدة  بربها على التسليم بقدرنا, وبعد فترة أخرى بدأت تشعر بآلام الحمل وتعانى من مغص وتقلصات غريبة حاولت أنا وزملائي الأطباء جاهدين أن نعرف أسبابها بلا جدوى, وبعد ثلاثة شهور من الحمل والمعاناة الرهيبة تبين انه حمل خارج الرحم وفى الأنبوبة اليسرى التى انفجرت وانتهت عملية الاستكشاف التى أجريت لها باستئصال الأنبوبة اليسرى كلها مع المبيض الأيسر ومضت الأيام بنا بعد ذلك ومر عام آخر دون حمل وبدأ القلق يعاود زوجتي مرة أخرى لأن استئصال المبيض الأيسر يقلل فرص الحمل بنسبة 50% فأجرينا لها فحصا آخر بالمنظار فكشف عن ان الأنبوبة اليمنى أيضا قد حدثت بها التصاقات بسبب جراحة للزائدة الدودية أجريت لها بعد ثلاثة شهور من الزواج, ولكى يحدث الحمل فلابد ان تكون هذه الأنبوبة حرة لتستطيع التقاط البويضة من داخل تجويف البطن ويتم الحمل, فما العمل إذن لكى يتحقق لها أمل الإنجاب ؟.. لقد كان الحل الذى اقترحه الزميل الطبيب الذى عرضت حالتها عليه هو ان نجرى لها عملية تسليك للأنبوبة بفتح البطن مرة أخرى, وأنا بحكم عملى كطبيب وجراح أعرف جيدا أن اى فتح جراحة لكى يلتئم مرة أخرى فلابد ان تحدث التصاقات مرة ثانية , إذن فسوف ندور فى حلقة مفرغة تتعرض فيها شريكة حياتي لآلام الجراحة وفتح البطن بلا نهاية.. فضلا عن ان أمل الحمل لم يكن فى تقديري يتجاوز نسبة الواحد فى المائة, فلماذا اعذبها بالجراحات والآلام بلا نهاية ؟.. لقد اتخذت قراري كزوج أولا وكطبيب ثانيا, وطلبت من زوجتي ان تدعها من الطب والأطباء.. وتسلم أمرها لخالقها وحده وأقسمت لها بربى ودينى وايمانى ان الله سبحانه وتعالى سوف يعطيها ما تأمل فيه وينعم عليها ويهبها ما يرضى نفسها لأن إيمانها بربها عميق ومتين, ولأنها ممن ينطبق عليهم قول احد الصالحين رضوان الله تعالى عليهم " إن لله عبادا إذا أرادوا أراد ".. ولهذا فلابد أن يهب لمن كان فى صفاء نفسها وطيبة قلبها وعميق تدينها وإيمانها , من يرث أو ترث عنها بعض هذه السجايا الكريمة..

    وسلمت زوجتي لإرادتي فى هذا الأمر عن اقتناع وحب ولم تعد للحديث عن الجراحة مرة أخرى, وانصرفنا عن العلاج ومشاكله وأحاديثه.. وبعد حوالي ثلاثة شهور أخرى كنت بالبيت معها فى المساء, وتناولنا العشاء, وبدأت استعد للنوم فإذا بها تبلغني بأن الدورة الشهرية قد تأخرت عنها يومين, وإذا بى أجد نفسى أجيبها بتلقائية وثقة لا أعرف مصدرها: أنت حامل!

    ثم أويت إلى فراشي , واستيقظت كعادتي من نومى بلا منبة لصلاة الفجر فلم أجدها بجواري فى الفراش وخرجت من غرفة النوم أبحث عنها فوجدتها فى غرفة أخرى تبكى وتنتحب , وفزعت لمرآها وهدأت من روعها وسألتها عما يزعجها فإذا بها تظنني كنت اسخر منها أو ألومها بطريقة غير مباشرة حين قلت لها بعفوية "أنت حامل"!.. ولهذا فلو كنت ارغب فى الزواج من أخرى لأنجب منها فلن تعترض على ذلك ولن تحرمني مما أريد, ولم يكن هذا هو ما دار بخلدي لحظة وأقسمت لها على ذلك وعلى سلامة نيتي فيما قلت, وإيماني به بحدسى وإلهامى واتفقت معها فى هذه الجلسة حسما لهذا الأمر على الا نتحدث مطلقا فى أمر الحمل أو احتمالاته لمدة أربع شهور كاملة من هذه الليلة, حتى ولو علت بطنها بالحمل أمامى وعلينا خلال هذه المهلة أن نرتقب ما سوف يختاره لنا الله سبحانه وتعالى ونرضى به كيفما يكون ورجع إليها صفاؤها على الفور ونهضت معى لأداء الصلاة راضية مطمئنة ومضى شهر آخر فإذا بها تحس بأعراض الحمل وتحاول ان تلفت نظرى إلى ضرورة إجراء فحوص واختبارات للتأكد منه, فرفضت ذلك تماما تمسكا باتفاقنا السابق معا وهو مرور أربعة أشهر كاملة, وبعد مضى هذه المدة أجرينا لها فحصا بالأشعة التليفزيونية فتأكدنا من الحمل, ومن انه طبيعى جداّ.. ولا تسل عن سعادتها ولا عن تألق وجهها بالفرحة والابتهاج والرضا وزميلى الطبيب يبلغها بذلك, وهى تنتقل بعينيها بينه وبينى بحذر طفولى جميل كأنما لا تصدق ما تسمع.. أو كأنما تقول لى بنظرتها اننى قد صدقتها "البشرى" حقا حين ألهمنى الله أن أقول لها ما قلت قبل أربعة شهور!

    ومضت أيام الحمل عادية جاءت الولادة ورزقنا الله سبحانه وتعالى بطفل جميل أسميناه "أحمد" تيمنا باسم الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه, وغردت طيور البهجة أكثر وأكثر فى حياة زوجتى الحبيبة وأصبح لها مع مولودها كل يوم حكاية ترويها لى وهى سعيدة ومبتهجة وتطفر عيناها بالحب والعرفان والرضا, وبعد ثمانية شهور أخرى فقط بدأت تشكو من أعراض الحمل مرة أخرى, ولم أندهش لذلك رغم ضآلة احتمالات الحمل فى ظروفها الصحية, لأن من يتوكل على الله فهو حسبه ولأنها تعرف حقوق ربها حق المعرفة وتتقرب إليه بكل أنواع القربات, ومضت أيام الحمل الثانى أيضا طبيعية وسلسة وبلا مشاكل.

    ورزقنا الله بمولودة جميلة أسميناها "أشرقت" لأنها أشرقت بالفعل على حياتنا بالبهجة والرضا والامتنان لله سبحانه وتعالى, وأصبحت "طفلتي" الصغيرة التي أحببتها وهى تلهو ببالونة أما لطفلين جميلين ترعاهما وتحنو عليهما وعلى أبيهما بطبعها العطوف الحنون, وتقدم أحمد فى العمر حتى أكمل عامه الثالث, وتجاوزت أشرقت عامها الأول ببضعة أيام ثم رجعت من عملي فى الظهيرة ذات يوم منذ حوالي عامين, فإذا بزوجتي تشكو لى من ألم عارض فى بطنها, فلم أتوقف طويلا أمام هذه الشكوى العابرة وكنت مرهقا وجائعا فطلبت منها الغداء أولا, وبعد ذلك أفحصها وأعالجها أو اتخذ القرار المناسب لحالتها وتناولنا الغداء معا فى هدوء ونهضت من المائدة ورأسي مثقل فأويت إلى فراشي وغفوت بعض الوقت, ثم نهضت من النوم وخرجت على عجل للألحق بموعد عيادتي فى المساء , وحين رجعت إلى البيت فى الليل كررت لى زوجتي نفس الشكوى فتنبهت إلى اننى لم أفحصها فى الظهر حين شكت من قبل, وتعجبت لنفسي كيف سهوت عن ذلك, وكشفت عن بطنها لأفحصها فما ان ألقيت أول نظرة عليها حتى انقبض صدري واضطربت اضطرابا داخليا عنيفا.. وارتبكت.. وشعرت بأن هناك شيئا غير عادى ولا طبيعي فى زوجتي, وإذا بى أيضا أتمتم بصوت غير مسموع قائلا لنفسي وقلبي يخفق بشدة: " إنا لله وإنا إليه راجعون ".. نعم يا سيدي تمتمت بهذه الآية الكريمة رغما عنى وبغير إرادة منى حين رأيت بطنها وأحسست بحكم عملي أن حبيبتي وزوجتي وأم طفلي ربما كانت تواجه الآن "المجهول" الذى ساورني القلق الغامض بشأنه فى الأيام الأولى لزواجنا واكتمال سعادتنا!.. ولم تسمع زوجتي ما تمتمت به لحسن الحظ, وسألتني عما قلت فأجبتها بأنه لا شئ لكنى لم استطع إخفاء اضطرابي وقلقي عنها, فراحت هي تهدئ روعي وتطمئنني إلى أن الأمر بسيط ولا يستحق هذا القلق, لكن هيهات ان تنجح فى ذلك والاحتمالات المخيفة لما رأيت تتراءى أمامي كالنذير المقبض.. ولن أستطرد طويلا فى التفاصيل, فلقد أجرينا الفحوص اللازمة والتحاليل والاشعات وكل ما يخطر لك على بال وجاءت النتائج كلها تؤكد نفس هذه الاحتمالات المخيفة التى اضطربت أمامها بشدة وأنا أفحص زوجتى فحصا ظاهريا تلك الليلة الكئيبة.

    وطرقنا كل الأبواب يا سيدي وطلبنا كل الوسائل وحينما تأكد لى فى النهاية أن الأمر قد حسم, جلست إلى زوجتي وقلت لها بصوت هادئ وقلب حزين: يا حبيبة القلب إن أمرك الآن فيه قولان لا ثالث لهما.. فإما أن يمن الله عليك بمعجزة من عنده وليست على الله بكثير ولا على مثلك أيضا بمستبعدة , وإما أن يكون الله قد قضى أمرا لن يطول أكثر من أيام قليلة وعلينا ان نتقبله بثبات ونسلم به راضين!.. هل تتهمني بالقسوة حين فعلت ذلك؟.. إنني لم أكن قاسيا وحاشاى أن أكون معها, وهى قرة عيني وآسرة قلبي منذ طفولتها, لكنى كنت قد خبرتها جيدا وأعرف عمق إيمانها وصلابتها ورضاها بكل ما يقدره لها وعليها الحق تبارك وتعالى, ولهذا صارحتها بحقيقة الأمر وأنا على ثقة من حسن تقبلها له ومن قوة إيمانها, وقد أجابتني حينما قلت لها ذلك بأنها قد استراحت الآن فقط وإنها راضية بما أراده الله لها لأنه سبحانه قد حقق لها كل ما تمنته فى الدنيا فأحبت أول من نبض قلبها له بالحب وتزوجته ومن الله عليها بالولد على خلاف كل التوقعات, وعاشت أجمل السنوات والأيام معي قبل الزواج وبعده ولم تعد تريد من الدنيا شئ سوى ان أرعى الله فى ابني منها بعد الرحيل!.. وبعد جلسة المصارحة هذه بأيام قليلة أسلمت- قرة عيني وحبيبتي - الروح وهى بين ذراعي ولم تكمل بعد الثامنة والعشرين من عمرها! ومنذ رحلت عنا زوجتي قبل عشرة شهور وأنا أعيش على ذكراها وأرعى طفلي منها حق الرعاية كما أوصتني بذلك, ورضيت بما قدره الله لى ودعوته آناء الليل وأطراف النهار أن يجيرني فى مصيبتي ويخلفني عنها خيرا.

    ورغم قوة إيماني الذى أدعو الله أن يثبته ويزيدني منه , إلا أن منظرا واحدا من صور حياتي مع شريكة عمري فى الأيام الأخيرة مازال يلاحقني في مخيلتي كل لحظة.. فأضعف أمامه وتنساب دموعي ويتهمني بعض من حولي بالجزع وعدم الصبر, وهو منظرها حين ساءت حالتها فى أيامها الأخيرة, حين كانت تنتقل بين غرفة النوم وغرفة الأولاد لتنام هنا أو هناك وكان كل ما يشغلها فى ذلك هو قالب الطوب اللبن الطاهر الذى كانت تتيمم به قبل كل صلاة.. فقد كان هذا القالب من الطوب هو كل ما يشغلها عند الحركة من مكان إلى مكان ولا شئ سواه ومازال منظرها وهى تحمله بين يديها وتمشي ببطء وإعياء من مكان لمكان محفورا فى مخيلتي ويلاحقني فى كل لحظة ويسيل دموعي رحمها الله.

    ولست أشكو إليك فجيعتي فيمن أحببت وسكنت إليها أجمل سنوات العمر أو أشكو إليك أقداري وحاشاي أن أفعل ذلك لأن من يعرف ربه حق معرفته يسلم بكل ما يقدره عليه ويرضى عنه عالما بأن فى الرضا كل الشفاء من كل داء وبلاء, فالله جل شأنه يقدر ما شاء على خلقه وتقديره هو الخير بذاته وان بدا للإنسان أحيانا غير ذلك, لكنى أكتب إليك لأنني اعتبر نفسي صديقا لك على الورق منذ سنوات طويلة وكذلك كانت قرة عيني وحبيبة قلبي وقد كنا نتبادل الحديث عن بابك يوم الجمعة كل أسبوع ونتأمل أحوال الدنيا والبشر فيه.. ونشعر كأننا نعرفك وتعرفنا, وأن صلة ما تربطنا بك وإني لأشعر الآن بأن من حقي عليك أن أترقب منك مشاركتي فى أحزانى وآلامي ومواساتي فيما أصابني بكلمة تعزية.. فهل هذا كثير على يا سيدي؟



ولكاتب هذه الرسالة أقول:

    من حقك علي بكل تأكيد وأكثر يا صديقي , ومن واجبي حقا أن أشاركك بعض أحزانك وأن أخفف عنك قدر جهدي بعض آلامك..

    فالإنسان يحتاج بالفعل لأن يستشعر مشاركة الآخرين له فى أحزانه وتعاطفهم معه واحترامهم لهذه الأحزان على الأقل ولا شك ان حزنك على شريكة حياتك الملائكية هذه من أنبل الأحزان, وأكثرها استحقاقا للاحترام.

    فلا شئ يؤلم كالحب كما يقولون, وليس هناك ما هو أشد إيلاما منه سوى أن تفقده!, كما فقدت أنت شريكة أحلامك وصباك وأيامك فى هذه الظروف المؤلمة غير انه لا مفر فى النهاية من أن أكرر عليك ما سبق أن قلته مرارا للمحزونين من أمثالك, من "أن من نحبهم لا يموتون حقا حين يواريهم الثرى وإنما يموتون بالفعل حين ننساهم" كما يقول لنا الأديب الفرنسى.. ونحن لا ننسى من نحبهم حقا ولو غادرونا إلى العالم الآخر, وهم أحياء دائما فى قلوبنا ومخيلتنا وتتراءى لنا فيها صورهم كما تتراءى لك الآن صورة زوجتك الطيبة يرحمها الله, وهى تحمل قالب الطوب الذى تتيمم به من مكان إلى مكان, وترافقنا أطيافنا فى مسراتنا من بعدهم وأحزاننا, فنتمنى لو كانوا معنا فشاركونا أفراحنا, وسعدوا معنا أو شاركونا أحزاننا وتساندنا وتعاونا معهم عليها, وهكذا فهم لا ينقطعون عنا.. ولا ننقطع عنهم وإن غابوا عن أنظارنا أو تفرقت بنا السبل ومن حق كل إنسان أن "يرعى حزنه الخاص" لفترة كافية على حد تعبير شاعر الهند الحكيم طاغور, لكنه من واجبه أيضا تجاه نفسه وتجاه الحياة ألا تكون هذه الفترة أبدية ولا أطول مما ينبغي لأن نهر الحياة لابد أن يجرى رغم كل الأحزان فى طريقه المرسوم, ولأن ما كان حزنا بالأمس.. ينبغي له أن يكون سلاما بعد حين.

    وهذا السلام هو جائزة الصابرين والراضين بقضاء الله وقدره والمكافأة السخية التى يحصل عليها من يظفر بهذا السلام الداخلي هو ألا تقوى على زعزعة سلامه أيه عاصفة من عواصف الحياة مهما رافقها من أحزان.

    ومن بعض السلوى أن نتذكر بامتنان للخالق الوهاب لا بالحسرة, الأيام الجميلة التى نعمنا فيها بالسعادة والأمان وراحة القلب, وأن نعتبرها زادا نفسيا لنا يعينا على تحمل أيام العناء وعمر الإنسان فى النهاية إنما يقاس حقا بمساحة السعادة الحقيقية فى حياته وليس بمساحة السنين, ولقد كان الرسام الإيطالي الكبير موديليانى يقول: أتمنى أن أحيا حياة قصيرة بشرط أن تكون حافلة!, وبهذا المفهوم فلربما كانت زوجتك الراحلة رحمها الله قد عاشت "عمرا" من السعادة لم يحظ به بعض من طالت بهم رحلة الأيام.. بل ولعل البداية المبكرة لقصتك معها وهى مازالت طفلة صغيرة تلهو لهو الصغار فى العيد, كانت إرهاصا قدريا بأن تبدأ السعادة فى حياتها مبكرة لأن رحلة الأيام لن تطول بها أو ربما لأن "الملائكة" من مثيلاتها إنما تطوف بالأرض طوافا عابرا ولا تقيم وإلا فكيف تفسر لى أن يقع شاب مثلك فى هوى طفلة صغيرة فى الثانية عشر من عمرها على الأكثر, ويعيش معها قصة حب برئ طويلة قبل أن يحتويهما عش الزوجية السعيد خمس أو ست سنوات هانئة, إلا إذا كان ذلك إرهاصا قدريا بتبكير البدايات إيذانا باقتراب النهايات القدرية؟

    لهذا فقد كانت صادقة فى مشاعرها حين قالت لك إنها راضية بأقدارها لأنها قد نالت من الحياة كل ما تشتهى من سعادة ولا بأس بأن يحين وقت الرحيل.

    وأما اضطرابك وتمتمتك بالآية الكريمة لا إراديا حين القيت نظرتك الأولى على بطنها, فما كان ذلك عن علم بالطب أو خبرة, بقدر ما كان عن شفافية قد يخص الله بها بعض من عباده المتقين وإحساس باطني غير مفهوم بأن السعادة لن تطول, ولعل هذه الشفافية نفسها هى التى أنذرتك للأسف إنذارا مبكرا فى شهور الزواج الأولى, بأن "لكل شئ إذا ما تم نقصان" كما يقول الشاعر العربي ولعلها ايضا هى التى هدتك بحس المحب العطوف لأن ترفض تعريض زوجتك لآلام جراحات متوالية غير مضمونة النتائج, جريا وراء أمل الإنجاب, ثم لأن "تبشرها" بعد ذلك بالحمل قبل أن يلوح فى الأفق طيف البشير فإذا كنت قد اعتمدت على إيمانها بربها وحسن صلتها به فى مصارحتك المؤلمة لها بما يشق على كل إنسان ان يسمعه فى مثل هذه الظروف,

فلقد كان هذا هو اختيارك الذي أطمأن إليه قلبك, وهو اختيار يؤمن به الأطباء فى الغرب ونكرهه نحن هنا ونشفق منه على أحبائنا وأعزائنا وعلى كل إنسان من ان يطلعه احد مهما كانت أسبابه على ما حجبه الله سبحانه وتعالى عنه رحمة به.

    لكن ما مضى فقد مضى, ولم يبق لنا الآن إلا التحمل وتضميد الجراح وحصر الخسائر, وجرح الشباب سريع الالتئام يا صديقي كما يقولون, على خلاف جراح الشيوخ بطيئة الشفاء, فلا بأس إذن بدموعك التى ترق لمنظر زوجتك التقية وهى تحمل قالب الطوب فى أيامها الأخيرة, فمن اجل مثل هذه الفتاة الطيبة الوادعة ينبغي حقا أن تسيل الدموع وفاء وحنانا.

    والدمع لا يكتم غالبا ما قد ينجح اللسان أحيانا فى كتمانه, والشاعر العربى العباس بن الأحنف يقول:

لا جزى الله دمع عيني خيرا                    وجزى الله كل خير لساني

نم دمعي فليس يكتم شيئا                         ووجدت اللسان ذا كتمان

    فلا بأس إذن بأن تدمع عيناك لذكرى هذه الفتاة الجميلة الطيبة, وأن تترجم وفاءك لها برعاية طفليك منها حق رعايتهما, وبأن تحمل لزوجتك الراحلة دائما ومهما طال العمر أجمل الذكرى.. وأرق المشاعر, لكن "حزن الأمس" لابد أن يصبح بعد حين سلاما, يا صديقي.. ولابد ألا تعوقنا الأحزان عن التواصل مع الحياة والانفتاح عليها والاستعداد لاستقبال مؤثراتها الجديدة, بعد أن تنتهي فترة"رعاية الأحزان" الضرورية, فهذه هي سنة الحياة ولا مهرب لنا منها, ولا مفر وأما زوجتك الطيبة المتدينة فهى ومثيلاتها وأمثالها"لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون" إن شاء الله العظيم..

    فقر أنت عينا.. بما نالت زوجتك من جوائز الدنيا والآخرة, وامض فى طريقك مشاركا فى مباراة الحياة.. ومتشاغلا بسباقها وشئونها وشئون طفليك عن كل الأحزان.  

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1996

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


الفصل الثاني 

 بريد الجمعة يكتبه :احمد البري

حاملة الأمانة 


أنا طبيب في الثانية والخمسين من عمري أكتب إليك لكي أطلعك علي الفصل الثاني من قصتي‏,‏وكان الأستاذ الراحل عبد الوهاب مطاوع قد نشر الفصل الأول منها منذ سبعة عشر عاما بعنوان نداء المجهول.

 وفيه رويت له حكايتي مع فتاتي البريئة التي رأيتها لأول مرة وهي طفلة في منزل صديقي, وعرفت منه أنها أخته, وكانت تتمتع ببراءة شديدة ووجه طفولي جميل, وجذبتني إليها, وملكت عقلي وتفكيري فرحت أطمئن عليها وأسأل شقيقها عنها, ثم انشغلت في دراستي بكلية الطب لكن وجهها الملائكي لم يفارقني, وبعد أن تخرجت وعملت طبيبا كانت هي قد التحقت بالجامعة, فطلبت يدها من صديقي, وأبلغ أسرته برغبتي في الزواج منها فرحبت الأسرة, ولاحظت السعادة في عينيها, ولا أستطيع أن أصف لك فرحتي بقبولها الارتباط بي, فلقد تأكدت يومها أنها تكن لي المشاعر نفسها التي لم أستطع أن أبوح بها من قبل.. وظللنا نترقب اليوم الذي تنهي فيه دراستها لكي نعقد القران ونقيم أسرتنا الصغيرة التي طالما حلمت بها, وبعد أن تزوجنا مرت بعدة متاعب صحية قبل أن تحمل في ابننا أحمد, ثم قبل أن يكمل عامه الأول كانت قد حملت في شقيقته أشرقت, ومرت الأيام سريعا ـ وأنا أشعر أن شيئا ما سيحدث لنا, وأن زوجتي ستواجه مصيرا غامضا. وتأكد ذلك عندما وقعت الكشف الطبي عليها, حيث انقبض صدري, وخفق قلبي بشدة, وأنا أقول إنا لله وإنا إليه راجعون ولم تسمع زوجتي ما قلته, ولكنها أحست بقلقي الذي لم أستطع أن أخفيه, والعجيب أنها هي التي راحت تهدئ روعي وتطمئنني أن الأمر بسيط, وهيهات أن تنجح في ذلك والاحتمالات المخيفة لما أوضحه الكشف الطبي تتراءى أمامي كالنذير المقبض.
ودار بيننا حوار صريح شرحت لها فيه مخاوفي وفقا للمعايير الطبية لكنها بتلقائيتها ونقائها قالت لي أنها راضية بما قسمه الله لها, وأنها حققت كل ما كانت تصبو إليه من الحب والزواج والإنجاب, ولم تعد تريد من الدنيا شيئا سوي أن أرعي الله في ابني منها بعد الرحيل..
لقد سمعت كلماتها والدموع تنساب من عيني, وهي تستحلفني بالله ألا أحزن, ولم تفارق الابتسامة البريئة شفتيها برغم كل ما كانت تعانيه من متاعب وآلام..
وبعد هذه الجلسة بأيام قليلة أسلمت قرة عيني وحبيبتي الروح, وهي بين ذراعي, ولم تكن قد أكملت الثامنة والعشرين من عمرها ـ وبرغم قوة إيماني الذي دعوت الله أن يثبته إلا أنني وجدتني أمسك بالقلم وأكتب هذه التجربة إلي بابكم الكريم من منطلق شعوري بأن من حقي عليكم أن أترقب منكم مشاركتي في أحزاني وآلامي ومواساتي فيما أصابني بكلمة تعزية.. ولن أنسي تعليق الراحل الكريم عبد الوهاب مطاوع وقوله لا بأس بأن تذرف الدموع علي فتاتك الجميلة الطيبة, وأن تترجم وفاءك لها برعاية طفليك منها حق رعايتهما, وبأن تحمل لزوجتك الراحلة دائما ومهما طال العمر أجمل الذكري وأرق المشاعر, لكن حزن الأمس لابد أن يصبح بعد حين سلاما يا صديقي, ولابد ألا تعوقنا الأحزان عن التواصل مع الحياة والانفتاح عليها والاستعداد لاستقبال مؤثراتها الجديدة بعد أن تنتهي فترة رعاية الأحزان الضرورية, فهذه هي سنة الحياة, ولا مهرب منها, ولا مفر, وأما زوجتك الطيبة المتدينة فهي ومثيلاتها وأمثالها لهم دار السلام عند ربهم, وهو وليهم بما كانوا يعملون.. صدق الله العظيم.
فقر أنت عينا بما نالت زوجتك من جوائز الدنيا والآخرة, وامض في طريقك مشاركا في مباراة الحياة, ومتشاغلا بسباقها وشئونها وشئون طفليك عن كل الأحزان.
وبعد أيام من نشر رسالتي اتصل بي مكتبكم, وجاءني صوت الأستاذ الكبير طالبا مني زيارته لأمر مهم فذهبت إليه, فأطلعني علي مئات الرسائل التي طلب أصحابها مساعدتي في الارتباط بمن تكمل معي الرسالة التي حملتني إياها زوجتي الراحلة, وقد شكرت له وللجميع اهتمامهم بأمري, ووعدتهم بأنني سأنفذ ما أوصتني به زوجتي وهي في فراش الموت ـ وهذا هو الفصل الثاني من قصتي التي أكتب إليك به هذه الرسالة, فلقد تولت ابنة عمها وهي تصغرها بعدة سنوات رعايتها خلال فترة مرضها, وأقامت معنا في المنزل إقامة كاملة في الشهرين الأخيرين قبل وفاة زوجتي, التي طلبت مني قبل رحيلها بساعات أن تتولي ابنة عمها رعاية الطفلين, ومازالت كلماتها ترن في أذني مفيش حد يربي أولادي غير فلانة, فترقرقت الدموع في عيني, وأنا أشد علي يديها, وأؤكد لها أن الله سبحانه وتعالي سيكون لطيفا ورحيما بنا من أجلها, وهي التي راعت ربها في كل صغيرة وكبيرة, ولم تعرف يوما البغض ولا الكراهية, وبعد وفاتها قررت أن أقوم بالمهمة وحدي, وظللت عاما كاملا أرعي شئونهما دون مشاركة من أحد, وقاسيت كثيرا في التوفيق بين عملي وبيتي ومطالب طفلي, ثم وجدتني في مهب الريح, وخشيت علي الأمانة التي تحملتها بمفردي, أن تضيع مني أو إن شئت قل لا أؤديها علي أكمل وجه, ففكرت في وصية زوجتي الراحلة بأن أعرض الأمر علي ابنة عمها, وكلي خوف أن ترفضني, فمن هي الإنسانة التي في سن العشرين أو أزيد قليلا, وعشرات الشباب يخطبون ودها ويسعون للزواج منها, تقبل بالارتباط برجل مثلي يكبرها بأكثر من عشر سنوات, ولديه طفلان, وقد أنهكته التجربة التي مر بها..
أقول لك لقد توكلت علي الله وتقدمت لها فإذا بها توافق من أجل أن تحمل أمانة ابنة عمها أو قل أختها الكبرى, وتزوجنا بعد عام ونصف العام علي رحيل زوجتي, وكانت خير خلف لخير سلف, وراحت تؤدي رسالتها تجاه الطفلين بمنتهي التفاني والصدق والإخلاص, لدرجة أنني خشيت من تدليلها المبالغ فيه لهما..
ومرت الأيام وحصل أحمد علي الثانوية العامة بمجموع قدره ستة وتسعون في المائة, وكان قد برمج نفسه علي الالتحاق بكلية الطب التي عشقها منذ طفولته, حيث كان يتردد علي المستشفي الذي أعمل به وأيضا العيادة, ولكن كيف يحقق حلمه بهذا المجموع في ظل المجاميع الخيالية التي يحصل عليها الطلاب الآن, والتي رفعت تنسيق الطب إلي تسعة وتسعين في المائة علي الأقل؟... وسألته: ماذا ستفعل يا أحمد؟... فقال سأدخل الكلية التي تناسب مجموعي, قالها, والدموع تملأ عينيه, ولاحظت الأسي علي وجهه, وفجأة قطعت زوجتي علينا جلستنا, وقالت: أحمد سيدخل كلية الطب, وطلبت مني تقديم أوراقه في جامعة خاصة, فقلت لها: أنت تعلمين كل شيء عن ظروفنا المادية, ولو ألحقته بجامعة بمصروفات خاصة سوف يؤثر ذلك علي شقيقته, وعلي أخواته الثلاث نورهان وآية ومنة اللاتي رزقنا بهن, فردت علي ردا حسم الأمر بقولها: لأن يقال أن شقيق بناتي في مركز مرموق يشار إليه بالبنان خير لي من كنوز الدنيا حتي لو وضعتها بين أيديهن.. وحقق أحمد أمله, وأصبح الآن في السنة الرابعة.. وبعده التحقت أشرقت. بإحدى كليات الطب الحكومية بفضل أمها بعد أمها التي كرست لها كل وقتها, وقدمت لها من الرعاية والحنان, ربما أكثر من الرعاية التي كان من الممكن أن تقدمها والدتها لها لو كانت علي قيد الحياة.
وهنا يا سيدي أريد أن أثير معك قضية مهمة تشغل بال الكثير من البيوت, وهي قضية زوجة الأب التي يصورها البعض علي أنها الفك المفترس الذي ما إن يدخل إلي عرين الزوج حتي يهجم علي أبنائه من زوجته السابقة, فيفترسهم, بعد أن يذيقهم العذاب ألوانا وأشكالا, ويتسبب في تشريدهم وضياع مستقبلهم, ويسعي إلي إحداث القطيعة بينهم وبين أبيهم, فالتجربة التي مررت بها تؤكد عكس هذا الاعتقاد الخاطئ, وأحمد الله أن زوجتي حملت الأمانة التي القتها علي عاتقها, ابنة عمها الراحلة عندما اشارت علي بأن أوكل إليها أمر طفلي منها.. وقد أردت اطلاعك وقرائك الكرام علي الفصل الثاني من قصتي, وأن أثلج صدوركم بما وصل إليه أحمد وأشرقت.. وأرجو أن تهنأ روح زوجتي الراحلة بما قدمت ابنة عمها لطفليها اللذين أصبحا صاحبي شأن الآن بين أقرانهما.. وأسأل الله أن يتم نعمته علينا, ولك ولكل قرائك ومحبيك التحية والسلام.


 :ولكاتب هذه الرسالة أقول


ذكرتني رسالتك الجميلة وحبك الصادق لفتاتك البريئة التي جذبتك منذ الطفولة بوجهها الهادئ الذي يفيض بالبشر والسرور بقول المفكر الراحل عباس محمود العقاد:
لست أهواك للجمال وإن كان
جميلا ذلك المحيا العفوف
لست أهواك للدلال وإن كان
ظريفا يصبو اليه الظريف
لست أهواك للذكاء وإن كان
ذكاء يسبي النهي ويشوف
أنا أهواك أنت.. أنت لا شئ سوي أنت بالفؤاد يطوف.


نعم ياسيدي فهي الفتاة والزوجة والحبيبة التي طاف بها فؤادك, ووجد فيها الحب والحياة والأمل, ولما أيقنت بروحها الشفافة أن النهاية قريبة, وأحست بدنو أجلها, لفتت نظرك إلي من هي قادرة علي حمل الأمانة باخلاص واستكمال مشوار تربية إبنيها, فالواضح من ثنايا كلماتك أن ابنة عمها كانت بالنسبة لها توءم روحها, ووجدت في نقاء سريرتها ما يزكيها لأن تقوم بدور الأم بديلا عنها, وصدق ما استقر في قلبها تجاهها, فها هي ابنة عمها تكون عند ظنها بها, حيث أثرت الارتباط بك علي غيرك من الشباب الذين راحوا يخطبون ودها برغم ظروفك الصعبة لكي تربي الطفلين اللذين حملتها الراحلة أمانة تربيتهما, وأدت دورها كما ينبغي أن يكون حتي التحقا بكلية الطب وصار لها خمسة أبناء بعد انجابها زهراتها الثلاث.
حقا ما أروع صنيع زوجتك, وما أجمل الاستقرار في كنف زوجة تراعي ربها وتتطلع إلي رضاه ولقد ضربت المثل للأخريات ممن يعيشن ظروفا مماثلة كيف تكون زوجة الأب أما ثانية, وأنه لا يمكن التعميم بأن من تحتل موقع الأم تضمر لأبناء زوجها الحقد والكراهية والضغينة وتحيل حياتهم إلي عذاب, فلكل حالة ظروفها, ويتوقف الأمر في النهاية علي اختيار الأب زوجة أخري له بعد الزوجة الراحلة أو السابقة, فتدقيق الاختيار هو العامل الفاصل في هذه المسألة, وليس أدل علي ذلك من تجربتك, حيث أنك أجلت موضوع الارتباط لمدة عام بعد رحيل زوجتك برغم أن المؤشرات كلها كانت تصب في خانة أبنة عمها إلي جانب العروض الكثيرة التي جاءتك من الكثيرات عقب نشر رسالتك في بريد الجمعة, وهكذا يكون تحكيم العقل أمرا مهما قبل الاقدام علي الزواج خصوصا في مثل هذه الظروف.
لقد بذلت كل جهدك واستعنت بالله سبحانه وتعالي وتوكلت عليه, ورضيت بقضائه, فكافأك بالرضا والطمأنينة, وكان مبعث سعادتك هو زوجتك الراحلة ثم الحالية وأولادك الذين يسلكون الطريق الصحيح بحسن تربيتهم وتوجيههم, وهي سعادة تجعلك قادرا علي تحمل المصاعب, وعدم الشعور بالخوف مهما اشتدت الابتلاءات, وصدق الله العظيم إذ يقول فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون, ويقول أيضا الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله, ألا بذكر الله تطمئن القلوب.
وتبقي الحقيقة التي يغفلها الكثيرون وهي أن الإيمان هو الذي يحرر الإنسان من كل حزن وقلق, وأنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا, وسوف يظل الاعتصام به والتوكل عليه هو منهج الحياة القويم, وسر السعادة والقوة الخفية لتحقيق الأهداف والأماني.
فاسعد بزوجتك وأبنائك, وواصل سعيك في الحياة بنفس العزيمة والاصرار والإيمان بالله, وقد آن لك أن تهدأ بالا بعد أن قطعت شوطا كبيرا في المهمة التي تركتها لك زوجتك الراحلة, وتسلحت بزوجتك الثانية التي حملت المسئولية باقتدار, فهي نعم الزوجة والأم, وسوف تأتيها جوائز السماء تباعا جزاء صنيعها الرائع ونقاء معدنها الأصيل, والحمد لله رب العالمين.

بتاريخ 18 يناير 2013 منقولة من موقع جريدة الأهرام

 تعقيب د/جمال كاتب الرسالة بتاريخ 7 مايو 2024




Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات