تحت المنظار .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2002
أنا سيدة شابة نشأت في أسرة مترابطة، واعتدت أنا وأخي أن نستشير أبي وأمي في أمورنا.. وتعودا هما أن يرشدانا بحقائق
الأمور ويتركا لنا اتخاذ القرار لكي نتعود على تحمل المسئولية.
ومشكلتي التي أكتب إليك راجية مساعدتي على حلها قد بدأت حين بلغت سن الشباب.. فتقدم لخطبتي رجل في الأربعين من عمره وتمت الخطبة واستمرت عاما وسعدت بها لما
لمسته من حسن معاملة خطيبي وأسرته.. ولإعجابي بترابطها وكانت أسرته قد أقامت في
الخارج لفترة, وتفرغت والدة خطيبي من عملها لرعاية أبنائها, وتم الزواج منذ
عام واحد وساد الود والاحترام علاقتي بأهل زوجي .. وبعد 10 شهور من الزفاف
اكتشفنا أن لدي مشكلة في الإنجاب وأن أملي الوحيد في الأمومة هو عملية الأنابيب
وصدمت صدمة شديدة, لكني تقبلت أقداري وحمدت ربي على كل شيء خاصة أن الأطباء
أكدوا لي أن نسبة نجاح عملية الأنابيب بالنسبة لي ستكون كبيرة نظرا لصغر سني.
وكنت خلال مرحلة الفحوص قد حرصت على تكتم
المشكلة عن أهل زوجي خوفا من رد فعلهم.. وكان هو يؤكد لي أن والدته إذا عرفت بها
فسوف تحيطني بحنانها وعطفها, كما تفعل الأم مع ابنتها, وحين تأكدنا من أنه لا
أمل لنا إلا في الأنابيب رأى زوجي أنه لابد من مصارحة أهله بالأمر لأن من حقهم أن
يعرفوه.. وبدأت أستعد نفسيا لعملية الأنابيب وأتخيل نفسي وأنا أجريها وحولي أهلي
وأهل زوجي يشدون من أزري, لكني وجدت زوجي مهموما وحزينا وعرفت منه أن أهله قد
رفضوا فكرة الإنجاب عن طريق الأنابيب وقالوا له إنهم يريدون له طفلا طبيعيا وليس
طفل أنابيب!
وسألته في إشفاق
عما إذا كان يفكر في الزواج من أخرى لينجب منها بطريقة طبيعية, فقال لي إنه حائر
ولا يريد أن يفقدني, لأنه سعيد وراض عن حياته معي, أو لا يريد في نفس الوقت أن
يغضب والدته ولا أن يحرمها من الأمل الذي تتطلع إليه وهو أن ترى حفيدا لها منه..
ونهشني القلق والخوف ثم بدأت أستعين توازني مرة أخرى حين قال لي زوجي بأنه سيحاول
إقناع والدته بقبول فكرة الأنابيب ونصحني بالحديث إليها وإشعارها برغبتي في الحفاظ
على حياتي الزوجية معه وبحقي في أن أستمسك بالأمل حتى اللحظة الأخيرة, وتحدثت
إليها بالفعل وإلى شقيق زوجي وقلت لهما إنني لا أريد أن أفقد زوجي الذي أحببته ولا
حياتي معه ولا أملي أيضا في الإنجاب منه, وتأثرا كثيرا بما سمعاه مني وعبرا عن
تفهمهما لمشاعري وكيف أنهما يقدران جيدا أنه لا ذنب لي في هذه المشكلة, لكن
العمر يجري من ناحية أخرى وزوجي لم يعد صغيرا في السن لكي ينتظر محاولات قد تنجح
وقد تفشل للإنجاب عن طريق الأنابيب, فطالبتهما وطالبهما زوجي بمنحنا فرصتنا
للمحاولة ووعدته بأننا إذا يئسنا من هذا الحل فإنني سأدع لزوجي حرية التصرف وفعل
ما يريد بحياته.. بل إنني أترك له هذه الحرية من الآن إذا شاء أن يتزوج غيري,
وبعد مناقشات طويلة بيني وبينهم حول الحب وهو هل أنانية أم تضحية توصل زوجي مع
أهله إلى موافقتهم على إعطائنا مهلة عشرة شهور نحاول خلالها الإنجاب بهذه الطريقة..
فإذا لم ننجح في تحقيق الأمل يكون علي أن أترك زوجي وأنفصل عنه وأفسح له المجال
لكي يتزوج مرة أخرى لأنه لن يستطيع الجمع بين امرأتين, وقبلت بذلك على مضض لقصر
المهلة وشعرت بالقلق وعدم الأمان وكيف لي أن أشعر بالأمان وأنا أحس بأنني موضع
اختبار أو تحت المنظار لفترة محدودة من الزمن إذا فشلت خلالها تنتهي حياتي الزوجية
وأفقد زوجي؟
وكيف لي أن أنجح
في هذا الاختبار والإنسانة السليمة القادرة على الإنجاب قد تعجز عنه في مثل هذه
الظروف المشحونة, لأن الحمل يحتاج إلى
الاستقرار النفسي والدفء الأسري والشعور بالأمان. إنني أشفق على زوجي الذي يريد
إرضاء جميع الأطراف.. فيريد أن يحقق لأهله أملهم المشروع في رؤية طفل منه..
ويريد في نفس الوقت ألا يظلمني وأن يمنحني حقي في الإنجاب.. وأنا أريد من ناحيتي
الحفاظ على بيتي وزوجي وأملي في الإنجاب وأهله يشعرون أنهم قد قدموا لنا تضحية
بالقبول بفكرة الأنابيب التي لا يحبذونها وبالانتظار لمدة عشرة شهور لإجراء
المحاولات التي يرفضونها من الأساس.. والجو مشحون من كل الاتجاهات.. فأين
الخطأ والصواب في مواقف كل طرف من الأطراف وما هي حدود المسموح والممنوع في تدخل
الأهل في حياة الأبناء الزوجية, وما هي حدود البر والطاعة للأهل في هذا الأمر
الحساس؟
إنني شخصيا أسلم من
الآن بأن كل ما سوف يحدث بعد فترة الانتظار سيكون خيرا بإذن الله لأنه سيكون حكم
الله في وحكم الله خير دائما للإنسان, لكني متألمة وحائرة.. وأريد نصيحتك.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
جميل أن تسلمي من الآن بأسوأ العواقب المحتملة وتتقبلي أقدارك معها إذا جرت بها المقادير, ذلك أن التسليم بأسوأ الفروض يحرر الإنسان من الخوف والقلق وترقب البلاء, ويطلق ملكاته المكبلة بالخوف من المستقبل ويزيد من قدرته على مواجهة المصاعب, وتحجيم خسائرها واستثمار المتاح له من جوانب السعادة الأخرى على نحو أفضل, فإذا ترفقت به السماء بعد ذلك وأعفته مما تحسب له طويلا وفاجأته ببعض جوائزها الثمينة كانت سعادته بها مضاعفة لأنها قد هبطت عليه بعد فقد الرجاء فيها, وإن شاءت له عكس ذلك, فلقد عرف منذ البداية ما كان ينتظره من اختبارات الحياة القاسية وتهيأ له نفسيا واستعد لمواجهته واحتمال الحياة به, وحق له أن يقول ما قاله أحد الصالحين من قبل.. الخير أردت ولا يعلم الغيب إلا الله غير أنه من المؤلم حقا أن يشعر المرء أنه موضع اختبار الآخرين في أمر شديد الخصوصية والحساسية بطبيعته.. ولا حيلة لأحد فيه كهذا الأمر, فإذا كان ثمة ما يقال حول مواقف الأطراف المختلفة من هذه المشكلة.. فهو أنه لم يكن يجوز التعامل معها أبدا بصيغة الإنذارات القضائية التي تمنح للمدين مهلة زمنية محددة باليوم والساعة لسداد الدين وإلا اتخذت الإجراءات العقابية ضده فور انتهائها, فالزوجة ليست مجرد رحم يجري ملؤه وتفريغه بأوامر الأهل المتلهفين على رؤية حفيد لهم.. ولقد كان الأحرى بهم أن يسلموا لكما بحقكما في اختيار حياتكما إذا رضيتما عنها سواء تحقق لكما الإنجاب أم لم يتحقق, أو كان الأحرى بهم على الأقل أن يعفوكما من هذا الشرط المعيب ويطلقوا أيديكما في السعي وراء أمل الإنجاب عن طريق الأنابيب دون تحديد صارم لمهلة الانتظار, ذلك أن هذا التحديد الزمني الدقيق يتعامل معكما كما لو كنتما زوجين من فئران التجارب, يرقب العلماء تزاوجهما في صندوق زجاجي, وحتى حيوانات التجارب قد تعجز عن الانسال إذا استشعرت وطأة العيون التي ترقبها وتحرمها من خصوصيتها الضرورية في مثل هذا الأمر. فكيف بزوجين من البشر يرغب كل منهما في الآخر
ويتطلعان كل يوم إلى نتيجة الحائط ليعرفا كم بقي لهما من زمن الحياة المشتركة قبل
أن يفترقا! إن الحمل كما تقولين يحتاج بالفعل إلى اطمئنان الطرفين ليومهما
وغدهما لكي يتحقق لهما الأمل منه, فإذا كان الأهل يبررون هذا التحديد الزمني
العجيب بتأخر سن زوجك نسبيا, فإن الرجل يستطيع بيلوجيا أن ينسل حتى سن السبعين,
وتأخره في الزواج إلى الواحدة من الأربعين من عمره هو مسئوليته وحده وليس مسئولية
أي طرف آخر, فضلا عن أن عمليات الحمل عن طريق الأنابيب قد تتكرر عدة مرات قبل أن
تحقق المرجو منها.. فما معنى هذا التحديد الزمني الصارم إذن؟
وماذا يضطرك يا
سيدتي للقبول بهذا الاختبار المهين؟
إن أهل زوجك ليسوا
في تقديري المسئولين وحدهم عن هذه المهلة القصيرة وإنما يشاركهم المسئولية عنها
زوجك إذ يخيل إلي أنه يتمزق في داخله بين الرغبة في الاحتفاظ بك وبين اللهفة على
الإنجاب من غيرك إذا عجزت أنت عنه, ولهذا فإنه لم يحسم الأمر بقوة ويرفض هذه
المهلة.. ولم يستمسك بحقه في اختيار حياته الخاصة سواء نجحت محاولة الإنجاب منك
أم لم تنجح وإنما شارك أهله هذا الحل الوسط.. وقبل بهذه المهلة الأخيرة إبراء
للذمة ودفعا للحرج الإنساني وربما العاطفي الذي يستشعره تجاهك, ولو لم يكن الأمر
كذلك لما عجز عن حسم الأمر بلا تردد.. ولو فعل ذلك لما تعدى على حق الأهل عليه
في شيء.. لأن حياته الخاصة ملك له في النهاية.. وليس من عقوق الأهل أن يحتفظ
بالزوجة التي أحبها بغض النظر عن قدرتها على الإنجاب أو عجزها عنه.. كما أن
الأهل لا يتطلعون إلى إنجابه إلا أملا في سعادته هو في الأساس, ثم سعادتهم
بذريته من بعده ولو استشعروا رغبته الجادة في استمرار حياته مع زوجته على أي نحو
شاءته لهما الأقدار لما ألحوا عليه طويلا بتغيير هذه الحياة والتطلع إلي حياة أخرى
لا يعرف أحد هل سيسعد بها أم سيشقى. لهذا فإن الأمر كله يرجع إليه في تحديد هذه
المهلة.. أو مدها أو إسقاطها نهائيا وفتح باب الأمل على مصراعيه أمامك في
الإنجاب والسعادة إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2002
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر