الأسرة الكبيرة .. رسالة من بريد الجمعة 1992
أتابع بابك الأسبوعي منذ سنوات
وألتمس فيه السلوى لكن لم أفكر في الكتابة إليك إلا يوم أن قرأت في يوم واحد
رسالتين آثارتا شجوني وكانت الأولى بعنوان "أسرة صغيرة" التي لمس قلبي
فيها تعاطف الأخت والأخ اليتيمين مع بعضهما وكيف كانا يقتسمان رغيف الخبز بينهما
ودمعت عيني لفرحتهما حين عثرا على "شلن" منسي وجدا فيه فرجا لأزمتهما في
يوم من أيام حياتهما الصعبة .
وكانت الرسالة الثانية بعنوان
"الجائزة الثانية" وقد قرأت فيها العبارة التي يتنازل بها صاحب الرسالة
عن "الجائزة الثانية" التي تبشر بها التعساء في زواجهم وتحثهم على الصبر
والاحتمال من أجل أبنائهم وعلى تكييف حياتهم مع ما فيها من شقاء حتى لا يضيع
الأبناء .
فكانت هاتان الرسالتان هما
دافعي لأروي لك قصتنا وأقدم لك أفراد أسرتي .. فنحن يا سيدي سبعة أخوة نشأنا ككل
الأبناء بين أحضان أبوين .. الأب موظف بسيط والأم ربة بيت , وكان أبي حنونا
ومثاليا في حياته يحرص على أداء الصلاة في أوقاتها ويصطحبنا إلى السينما والحدائق
والكورنيش في الإجازات ويضحك ويلعب معنا كأنه طفل في مثل عمرنا .. ونجتمع حوله كل
ليلة ليحكي حكايات وروايات مفيدة من نوع من هو أول مهندس مصري .. أو من هو مخترع
التلسكوب إلخ .. فقد كان مثقفا رغم بساطة تعليمه ولديه مكتبة صغيرة ومجموعة من
الكتب في بيته.
لكن وجود والدنا بيننا لم يطل
للأسف ورحل عنا تاركا أصغر أولاده في سن الخامسة وأكبرهم وهي بنت في سن الخامسة
عشرة وعشنا مع أمنا أربع سنوات عانينا فيها جميعا مرارة الدنيا كلها , فالمعاش
ضئيل وعدد أفراد الأسرة كبير, وشقتنا التي كانت أنيقة وجميلة ومزينة بالستائر
والمفروشات التي بدأت تتحول تدريجيا إلى ما يشبه الخرابة لعجزنا عن تعويض أي شئ
يتمزق أو ينكسر من ملاءة السرير إلى أحد أطباق المطبخ .. وتحملت أمنا الحياة بعد
وفاة أبينا 4 سنوات فقط ثم انساقت وراء "مشاعرها" وضربت عرض الحائط
بالجائزة الثانية والثالثة وتزوجت وتركتنا أطفالا لا راعي لنا إلا الله سبحانه
وتعالى بعد أن رفضنا وجود زوجها معنا واستقلت أمنا عنا وأصبحت تزورنا كل أسبوع
مرتين في البداية ثم كل أسبوع مرة ثم اتسعت المسافات فأصبحت تزورنا كل شهر مرة
وتأتي كضيفة تحاول في ساعات محدودة أن تعوضنا عما نحتاج إليه في أسابيع وشهور.
ومضينا نحن نلاطم الدنيا
وتلاطمنا وكان سلاحنا الوحيد للصمود لجبال المشاكل التي واجهتنا هو العطف والحب
اللذين يحملهما كل منا للآخر .. فكثيرا ما كان يأتي يوم لا نجد فيه في بيتنا كله
إلا رغيفا واحدا أو إثنتين فيتعلل ويتحجج كل منا بأنه متعب وليس له شهية للطعام
ويدخل السرير ويسحب الغطاء على وجهه لينام لكي يترك الرغيف لغيره من إخوته ..
وهيهات أن ينام والجوع يقرصه .. ورغم ذلك فقد مضت بنا الأيام ولم نتوقف أمام شئ، ولم
أكتب هذه الرسالة لأشكو لك قسوة الظروف وإنما لكي أقدم لك شخصيات أفراد أسرتي بعد
أكثر من عشر سنوات من زواج أمنا وتخليها عنا .. فأكبر إخوتي أخت عمرها ثلاثون عاما
أصبحت موظفة حكومية وهي مزيج من القوة والضعف في آن واحد لكنها أكثرنا صراحة في مشاعرها تحب وتكره وتتخلى عن الكره
سريعا ولها شخصية قيادية في عملها ومحبوبة والحمد لله .. وهي طيبة وحنون وعصبية
بعض الشئ.
وأجئ أنا بعدها في الترتيب لكني
سأؤجل الحديث عن نفسي قليلا لأقدم الابنة الثالثة التي تصغرني بأكثر من عامين فهي
قوية أكثر من أختنا الكبرى وصلبة وشخصيتها نفاذة تدخل القلوب بالحب وبالرغم من
أنها الثالثة في الترتيب إلا أنها تحملت عبء الأسرة بأكلمها بعد انصراف أمنا
لحياتها، وتحولت هي إلى أب و أم معا وراحت تدبر حياتنا بمعاش أبي البسيط بجهد تنوء
به الجبال وتعود من السوق وهي في حيرة من ارتفاع الأسعار .. والدموع متحجرة في
عينيها كأنها تقول لنفسها ماذا أفعل يا ربي بهذه النقود القليلة مع هذه الأفواه
الكثيرة وهذا الغلاء الفاحش .. وقد تحملت هذه المسئولية وهي طالبة بالثانوي ولمدة
عشر سنوات طويلة, والحمد لله أصبحت أختنا الكبرى تشاركها هذه المسئولية منذ عامين.
رابعة البنات وهي صغرى إخوتي
وهي التي رحل عنها أبوها وهي في الخامسة من العمر فلم تعرف حنان الأب ولا عطف الأم
التي تركتها طفلة بين أطفال وانصرفت لحياتها، ولهذا فهي مدللة بعض الشئ لأننا
أردنا أن نعوضها حرمانها من أبويها، وهي رقيقة ولطيفة وحنون .. وكلما أنظر إلى
عينيها أراها حائرة وتنقصها أشياء وأشياء لكنها تتظاهر دائما بأنها لا ينقصها شئ.
نأتي بعد ذلك إلى إخوتي الذكور
وهم ثلاثة تتراوح أعمارهم بين العشرين والرابعة والعشرين وقد تعلموا بسبب ظروفنا
تعليما متوسطا , وأستطيع حتى لا أطيل أن ألخص طباعهم في أنهم يشتركون جميعا في
صفات المودة والحب والاخلاص إلى جانب شئ خاص بهم هو الإحساس بالأمان رغم قسوة
الظروف، إذ كثيرا ما يرددون أن ما نعانيه ليس سوى مشكلة وقتية و"أنها"
سوف تفرج قريبا بإذن الله .. أما تحركاتهم أو تصرفاتهم بعد ذلك فهي محصورة بين
الوقوف في شرفة البيت أو الجلوس أمام التليفزيون أو الجري وراء الإعلانات للحصول
على عمل دون جدوى .. رعاهم الله وحفظهم.
أما أنا يا سيدي فيقولون عني
أني مرهفة الحس ولذلك أبعدوني عن تحمل المسئولية عن البيت لكني أشارك فيه بأعمال
النظافة، أما مشاكل قلة النقود وكثرة الالتزامات فأبعدوني عنها لسرعة انهياري
واستسلامي للبكاء ثم تجئ بعد ذلك الوعكة الصحية التي تزيد من الأعباء بما تمثله من
تكاليف للدواء والطبيب لكن كيف ابتعد وأنا شريكتهم في المسيرة وأعرف دخلنا جيدا ..
يقول إخوتي الشباب عني أنني أكثر حنانا , لكني أقول أننا جميعا نحن السبعة يجمعنا
حب لا يوصف بل أني أشعر أحيانا أنه لم يولد إخوة مثلنا في الحب والحنان والعطف
وتفضيل كل منا للآخرين على نفسه رغم قسوة الحياة علينا .. فاللهم أدم علينا هذا الحب
واحمنا به من مرارة الأيام.
يبقى بعد ذلك الحديث عن أمي ..
وأقول لك أنني أدعو الله صادقة أن يغفر لها ويسامحها عن كل إيلام تسببت لنا فيه
دون قصد طبعا , فأنا في حيرة من أمرها فهي تحبنا فعلا لكنها لا تعرف للأسف ماذا
تعنيه الأمومة من التزامات وأنها ليست كلمة وإنما إحساس تولد به الفتاة ويلازمها
إلى أن تصبح أما .. لهذا فإني أحس بالأمومة لدى شقيقاتي الثلاث ولا أحسها مع أمي ..
وإخوتي رغم كل ما حدث لا يكرهون أمهم بل يحبونها .. وأنا أيضا أحبها جدا في حين
يسيطر عليها الإحساس بأنها مكروهة ومنبوذة من إخوتي خاصة البنات ما عداي لأني لا
أقسو عليها بالكلام , في حين أن شقيقاتي تفلت أعصابهن أحيانا تحت ضغط الظروف
القاسية .. فيقلن لها مثلا : هل أنت أم حقا ؟ هل هناك أم تترك أولادها السبعة
وتعيش مع زوج ويا ريته "عدل" فتتألم لكنها تواصل حياتها كأن شيئا لم
يكن.
والمصيبة أن زوجها فعلا ليس زوجا صالحا وإنما
صاحب نزوات ومغامرات ولا يحب إلا نفسه وبخيل جدا معها ولا يصرف عليها وعندما تمرض
يجئ بها إلينا لنقوم نحن بعلاجها ومصاريفها ونقترض من هذا وذاك لنقوم بواجبنا معها
ومرتب أختي الكبرى يساعدنا بعض الشئ والحمد لله .
جميع الحقوق محفوظة لمدونة
"من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
abdelwahabmetawe.blogspot.com
ولــكـــاتــبة هــذه الــرســالـة أقول :
ومن يجرؤ على تجريح أسرة شريفة
ومترابطة ألقت علينا هذا الدرس العظيم فيما ينبغي أن تكون عليه علاقات الأشقاء من
حب وتعاطف وإيثار كأسرتك الكبيرة عددا ومقاما هذه ؟
وبم تستحق الأسر والأشخاص
احترام الآخرين أكثر مما لديكم ومما تفعلون في حياتكم من التزام بالقيم الدينية
والأخلاقية وكفاح نبيل في معركة الحياة وتعامل مع الآخرين بقلوب لا تعرف إلا الحب
مع قسوة الأيام .. بل ومن بر بأمكم وحب لها حتى وإن لم تبركم هي ولم توقف حياتها
عليكم كما كان ينبغي لأم لسبعة أبناء ينوء برعايتهم الرجال ؟
وبأي منطق ظالم يحاسبكم أحد عما
صنعت أمكم بحياتكم وبكم ويتوجس من أن الفتيات منكن سوف ينسجن على منوالها ولن يكن
أمهات صالحات مضحيات من أجل سعادة أبنائهن ؟
لقد دفعتم جميعا ثمن انسياق
أمكم وراء "مشاعرها" غاليا وتضامنتم كأفراخ الطير حين تتداخل في بعضها
اتقاء لعواصف الرياح , وصمدتم لمحنة الحرمان بغير تفريط في قيمكم أو صفاء قلوبكم ,
وصنعتم من أسرة من يتامى الحياة الذين فرضت عليهم الظروف اليتم المعنوي إلى جانب
اليتم الحقيقي , أسرة تصلح لأن تكون مثالا للترابط الأسري والمشاعر الأسرية
السليمة كما أرادها لنا الله سبحانه وتعالى .
فكيف يحاسبكم أحد بمقياس التفكك
الأسري واحتمال تقليد البنات لأمهن فيما صنعت بحياتهم حتى وإن كان مصادما للمشاعر
ومضادا لواجبات الأمومة ؟
إن أمثالكم يعرفون ربما أكثر من
غيرهم أهمية البيت والأسرة ومظلة الأمان التي يوفرها لهم الاستقرار العائلي ..
وأنتم لم ترضوا عن تصرف أمكم وسوف يكون مخالفا لطبائع الأشياء أن يرضى أحدكم
لأبنائه بما ذاقه هو علقما من مرارة "التخلي" والخذلان .
لهذا فقد كان حريا بمن أبعد
شقيقه عن الارتباط بشقيقتك لهذا السبب وحده أن يسأل نفسه :
وما ذنب الأبناء إذا تخلى عنهم
الآباء والأمهات وماذا يعيبهم إن هم لم ينحرفوا ولم يفرطوا .. ولم يتفككوا وإنما
تماسكوا وتلاحموا وتحملوا أقدارهم وعناء حياتهم بصبر كصبر المبتلين ؟
إن أسرتك يا آنستي تثير الشجن
لدى كثيرين ربما أفاضت عليهم الحياة من عطائها لكنهم يتحرقون شوقا لأن يستشعروا
بعض ما تزخر به قلوبكم من حب للأشقاء .. وإيثار لهم ولو كانت بكم خصاصة .. وهي
تثبت بالتجربة العملية ما يقوله الكاتب الأمريكي وليم شيرر من أن أكبر نبع لسعادة الإنسان
هو روحه وعقله وصفاء قلبه وخلوه من الضغائن وقدرته على حب الآخرين وليست أي ظروف
خارجية أو مادية محيطة به , وإن الإنسان إذا تحقق له ذلك لا يمكن لأي عاصفة من
عواصف الزمن أن تزعزع سلامه الداخلي أو تحطم روحه , وهذا صحيح ولابد لأمثالكم أن
تهبط الحياة جوائزها السخية بعد طول العناء وأن يفتح الله أمامهم الأبواب الموصدة
ذات يوم قريب فإن كان إخوتك من الشباب ينفردون بإحساسهم بالأمان رغم قسوة الظروف
.. وبهذه الروح الأكثر تفاؤلا فلعلهم أكثر إطمئنانا إلى أن الله سبحانه وتعالى لن
يتخلى في النهاية عن الضعفاء الشرفاء من عباده وإلى أنه لابد مدخر لهم ما يعوضهم
به عن شقاء السنين , فأكتبي إليَ بعنوانك وأسمائهم .. لعل الله يأذن لهم ولكم بتفريج الكروب قريبا
بإذن الله .. أما أمكم التي مازالت "هائمة" في واديها بعيدا عنكم ..
وإنشغالا بزوج لم يكن يصلح لحظة لأن يكون الأب البديل لأبنائها ولم تتزوجه
ليشاركها تحمل مسئوليتهم أو رعايتهم أو تخفيف عناء حياتهم إلى جانب اعتبارتها
الخاصة فلعلها تفيق من ذهولها .. وتعود لكم قريبا لتكفرعن تخليها عنكم طوال هذه
السنوات .. فإن لم تفعل فدعوها وشأنها وواصلوا صلتها وبرها ودعوا "الحساب
ليوم الحساب" فلقد سجلت فتحا جديدا في "الأمومة" سوف يصك بإسمها
وقد يسهل على الأخرين تعريفها حين يقولون باختصار أن "الأمومة" هي ألا
تفعل الأم ذات السبعة أبناء ما فعلته أمكم بكم .. وبضدها تعرف الأشياء أحيانا !
وشكرا لك على رسالتك المفيدة .
كتابة النص من مصدره / بسنت
محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر