الجائزة الثانية .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992
بدأت قصتي حين رشحتني الوزارة التي
أعمل بها وأنا شاب لوظيفة هامة في الخارج، فنصحني رؤسائي بالزواج قبل السفر حماية
لنفسي ولعملي الحساس, فتزوجت على عجل وسافرت إلى مقر عملي دون زفاف .. وفي البلد الذي
بدأت فيه عملي وحياتي الزوجية اكتشفت أن زوجتي جاهلة لم تحصل حتى على الابتدائية
وأن سلاحها الوحيد في الحياة هو الجمال, وأنها متغطرسة رباها أهلها وبالذات أمها
التى لن يسامحها الله أبدا، على ضرورة السيطرة على الزوج وأهله وتسخيره هو وماله
لها ولأهلها .. مع الحرص الشديد على عدم احترام الزوج أو طاعته إلى جانب التعدي
عليه بالألفاظ النابية كلما دعت الضرورة إلى ذلك فضلا عن الخبث والكذب الدائم
المستمر حتى على أولادها، واعتقادها الراسخ أن الرجل لا يريد من زوجته إلا أن تكون
جميلة وهذا وحده يكفي.
لقد بدت نذر التعاسة مبكرة
وأشفقت عليها وعلى نفسي من الفشل في بداية حياتنا وحاولت جاهدا أن أردها عن هذا
السلوك المعيب باللين مرة وبالشدة مرة وبالتسامح والحب مرات دون جدوى .. وأدركت هي
أني لا أستطيع أن أتخذ ضدها أي قرار وأنا فى وظيفتي الحساسة هذه بالخارج فاستغلت
ذلك أسوأ استغلال وسببت لي إحراجا لا حد له في مجتمع زملائي الضيق.
وكنا قد انجبنا طفلين فاستعنت
بالصبر عليها إلى أن انتهت فترة عملي بالخارج وعدنا لمصر وما أن استقررنا فيها حتى
طلقتها وأوضحت لأهلي أني اتقيت الله فيها ونحن في الغربة وطالبتهم باعانتها على
أمرها واقناعها بالتخلي عن هذه المفاهيم الخاطئة لصالحها هي كإنسانة قبل كل شئ
وانفصلنا لمدة ستة شهور ثم توسط أهل الخير لاعادتها فاشترطت أن تقلع نهائيا عن
عاداتها المعيبة واعترفت بأنها أخطأت في حقي وستصلح من أمرها ورجعت للحياة بيننا
على هذا الأمل واستقامت الحياة بيننا بضعة شهور في هدوء نسبي حتى فوجئت بعدها
بأنها قد حملت للمرة الثالثة.
ونقلت للعمل فى دولة أخرى .. فسافرنا إليها
ومعنا أطفالنا الثلاثة ومربية مصرية ذاقت منها الأمرين .. وفي تلك الدولة حملت
للمرة الرابعة على غير إرادتي وبغير علمي وأنجبت فعادت إلى أسوأ مما كانت عليه بعد
أن أصبحت تقف كما تتصور على أرض صلبة فعاد الكذب والاهانات وعدم الأمانة وعدم
احترام الآخرين والتقصير في كل واجباتها الزوجية والمنزلية والإجتماعية والتفنن في
خلق المشاكل واستغلالي ماديا بعلمي وبغير علمي .. وفشلت كل جهودي للتعايش معها ثم
انتهى عملي في تلك العاصمة فعدنا لمصر وأنا في أسوأ حالاتي النفسية .. وما إن
استقررنا فيها حتى قمت بطلاقها للمرة الثانية .. وطلب أولادي مني البقاء معي
مفضلين الحياة معي على الحياة معها ووافقت هي على ذلك اعتقادا منها أني سأعجز عن
تحمل رعاية الأبناء الأربعة بدونها.
وتقبلت ذلك مضحيا بكل شئ لإراحة
أبنائي الأربعة وإسعادهم وبعد فترة من الانفصال فكرت في الزواج من أخرى تشاركني حياتي
وتعوضني عن رحلة الشقاء التي عشتها مع زوجتي وأقدمت فعلا على خطبة إحداهن استعدادا
للزواج لكني تراجعت عن ذلك في اللحظة الأخيرة لمجرد تخيلي احتمال ضياع مستقبل
الأبناء إذا تزوجت .. فتحملت أقداري وحيدا وحرصت طوال ذلك على أداء حقوق مطلقتي
المادية إليها كاملة كما حرصت على اتصال الأبناء بها ورؤيتها لهم أسبوعيا.
وبعد عامين جاءت هي ذات يوم
باكية نادمة وأقسمت أنها قد ندمت على كل ما بدر منها وأنها قد تعلمت الكثير وعادت
الحياة بيننا وقبلت ذلك مفضلا الفوز "بالجائزة الثانية" التي ذكرتها في
ردك على مشكلة سابقة وهي جائزة "تعلم الحكمة والصبر على المكاره" لمن
فاتته جائزة الزواج الأولى وهي السعادة .. ولأنها قد فاتتني إلى الأبد فلم يكن لي
بدُ من قبول جائزة الحكمة والصبر .. وعشنا معا وزواجنا معلق على "الطلقة
الأخيرة" التي ستفصل بيننا للأبد إذا وقعت ومضت الحياة بخيرها وشرها وبدأ
الأبناء يكبرون ويلمسون ما أعانيه وما تقوم به أمهم من تصرفات سيئة معي ومعهم
وبدأوا يزمجرون في وجهها ويحتجون على تصرفاتها وعاداتها , ورغم كل ما أحمله لها من
مرارة فلم أسمح لأحد منهم بأن يتعدى الحدود مع أمه وزجرتهم زجرا شديدا أمرا إياهم
باحترام أمهم إطاعة لأوامر ربهم.
وواصلت محاولاتي معها التي
بدأتها عقب الزواج بشهور لاقناعها بأننا لسنا في حالة حرب دائمة بلا هدنة ولا سلام
وأن الحياة مودة وتراحم وتعاون ولكن بلا فائدة.
ومضت رحلة الأيام فتخرج الأبناء
ووفقهم الله فى حياتهم العملية وشغلوا وظائف مرموقة , وهاجر أحدهم هربا من أمه حتى
لا تفسد عليه زواجه هو الآخر بعد أن أفسدت لأخيه الأكبر خطبته مرتين لأسباب تافهة
تتعلق بعلاقاتها هي بأسرة كل فتاة ولا دخل للابن أو للفتاة في ذلك بينما تكبدت أنا
في الخطبتين الفاشلتين مبالغ "هائلة" وشكرت الله على نعمته بأن بارك لي في
أولادي الذين أحسنت تربيتهم وغرست فيهم القيم الدينية والخلقية.
ثم بلغت سن المعاش وتخيلت أن
مرحلة الهدوء والجلال قد بدأت بعد أن انقضت سنوات العناء واستقرت سفن الأبناء كل
منهم في اتجاه , فإذا بالحال بيني وبينها تزداد سوءا لأن معاشي قد أصبح فى نظرها
لا يكفينا حيث لا تستطيع أن تتنازل عن مستوى الحياة الذي اعتادته مع أن معاشي
كبير!
واستمر هذا العناء حتى وجدت
نفسي بعد عامين من المعاش أقبل العمل في دولة عربية رحبت بي وبخبرتي الطويلة إن لم
يكن لشئ فعلى الأقل لكي أتجنب أسباب الشقاء وأنا في هذه المرحلة من العمر.
والمشكلة أنني حين أستعرض شريط
حياتي معها على مدى 35 عاما هي للأسف زهرة العمر التي لن تتفتح مرة أخرى أحس
بمرارة شديدة .. إذ أني لا أذكر يوما واحدا حملت لي فيه أية عاطفة .. أو كنت فيه
شيئا آخر عدا مصدر للابتزاز وهدف للحرب والشقاق.
إننا منفصلان جسديا منذ عامين ولقد قرأت لك
تعليقا على رسالة كان اسمها "الخطر" نشرت في 28 سبتمبر 1990 .. تقول فيه
محذرا بعض الزوجات اللاتي قد يستنمن إلى اشفاق بعد الأزواج من الإقدام على الطلاق
في سن متأخرة فيتمادين في الإساءة لهم اعتمادا على ذلك !
ولــكــاتـب هـذه الـرسـالـة أقــول:
من المؤسف حقا أن يعيش المرء
حياته في شقاء متصل كأنما ينفذ حكما أبديا بالتعاسة حتى النهاية .
إن العلاقة بين الزوجين تحتاج
دائما إلى مزيد من العواطف والدوائر المشتركة والتفاهم والحرص المتبادل على تهوين
متاعب الحياة على الطرفين .. وتزداد أهمية هذه الحاجة كلما تقدم الإنسان في العمر
وخلد إلى الراحة، وقلت مشاغله الخارجية وطموحاته واحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى
علاقة التعاطف والإيناس مع شريك العمر التي يفوز بها في خريف العمر أصحاب الجائزة
الأولى .. فإن كان من أهل الجائزة الثانية فليس أقل من علاقة "جوار إنساني"
تخمد فيها نوازع الشقاق ويتعاون طرفاها على إتقاء برودة الخريف بما يشعه مجرد
الحوار الهادئ من حرارة فاترة .
ويبدو أنك يا سيدي قد حرمت
للأسف من هذا وذاك ولا شك أن اختزان المرارة لسنوات طويلة يسهم في تعذر التوصل حتى
إلى مثل هذه العلاقة المحدودة حين ينفرد الزوجان بنفسيهما بعد تفرق الأبناء ..
لهذا دعونا مرارا إلى بذر بذور الحب والعطف الإنساني بين الزوجين في مراحل حياتهما
الأولى لكي تثمر ثمارها الطيبة في الكبر ودعونا إلى التسامح بين الزوجين ونسيان
الاساءة مهما كانت قاسية بعد حين حتى لا تورث المرارة وإلى تضميد الجراح أولا بأول
حتى لا تتقيح وتزمن وتخلف آثارا لا تنمحي في النفوس الممرورة.
وأنت يا سيدي محق في كل ما تحس
به من مرارة تجاه شريكتك .. لكن لم لا نفكر في الأمر بمنطق آخر؟
إن كثيرين من التعساء رجالا
ونساء يتحملون العناء مع شركاء الحياة من أجل أبنائهم .. فإذا وصل الأبناء إلى بر
الأمان، وهموا بتنفيذ "القرار المؤجل" بالانفصال كما تفكر الآن ..
تريثوا وفكروا طويلا ثم اختاروا أن يكون ختام رحلة الصبر .. صبرا وقرروا أن
يتلطفوا مع أبنائهم في النهاية كما تحملوا مسئوليتهم بأمانة عنهم فى البداية.
تسألني وكيف يكون الصبر فى
النهاية تلطفا بالأبناء ؟
وأجيبك بأن الصبر في البداية
يكون واجبا إنسانيا يفرضه على الأب أو الأم الخوف على الأبناء من التشتت والضياع
كما فعلت أنت حين تراجعت عن الزواج الآخر, فإذا كبر الأبناء وعملوا وتزوجوا
واستقرت سفنهم في مرافئها الآمنة .. ينتهي دور الإشفاق عليهم وعلى مستقبلهم .. ويبدأ
دور الإحسان إليهم والتلطف بهم .. ويقتضي تجنيبهم الحرج الإنساني الذي يستشعرونه
تجاه الأبوين عند وقوع الطلاق بينهما في الكبر ومع حاجة كل منهما إلى من يؤيده
تجاه الآخر ويدين تصرف شريكه .. كما يقتضي وربما كان ذلك هو الأهم تجنبهم الحرج
الاجتماعي الذي يستشعرونه تجاه الآخرين وخاصة تجاه أسر زوجاتهم وأزواجهن أو من
سيرتبطون بهم ويحتاجون للتشرف أمامهم بأسرة غير ممزقة.
ومن الأشياء التى لا يمكن أن تغيب عنك، أن
الشريعة لم تبغض شيئا مباحا كما أبغضت الطلاق .. وإن طلاق الشباب ومن في سن النضج
وإن كان بغيضا ولا يجوز اللجوء إليه إلا بعد استنفاد كل وسائل الإصلاح واليأس منها
إلا أنه قد يكون أحيانا الحل الوحيد لمشكلة طرفين عجزا عن أن يتعايشا معا بإحسان
.. وأن يتفرقا يغن الله كلا من سعته .. لكنه في سن الجلال والاحترام يصبح بحق
"فضيحة إجتماعية" يضيق بها الأبناء الكبار وينصبون لها ربما بمنطق أنه
يتعارض مع حكمة الكبار وقدرتهم على حل مشاكلهم بالأناة والتروي وربما بمنطق الشاعر
الذى يقول :
العيب في الرجل المذكور مذكور
والعيب في الخامل المستور مستور
لكنه على أية حال مشكلة تزعجهم
أيما إزعاج .. لهذا يفضل كثيرون أن يحسنوا إلى أبنائهم في الكبر كما أحسنوا إليهم
في الصغر ويواصلوا التجمل والتصبر إلى ما لا نهاية.
هكذا يفعل كثيرون فما بالك يا
سيدي بمن سيكون طلاقها هو الطلاق الأخير الذي لا رجعة بعده إلا بالمحلل .. وما
أدراك ما المحلل؟
إنني لا أناقش دوافعك للإقدام
على ما تفكر فيه .. لكني أذكرك فقط بأنه لا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها وبالتالي
فلن يضير أحد بعد عمر طويل أن تنتسب إليه زوجته أو لا تنتسب .. ولا يضير العاقل
بعد رحيله من سيرثه أو لا يرثه كما لا يدري أحد من سيرث من .. ولا من سينتسب لمن
أو من سيسبق الآخر إلى العالم الأفضل ؟ وهي في النهاية ستظل تنتسب إليك إلى ما لا
نهاية شئت أم أبيت لأنها أم أولادك وهي علاقة لا تنفصم بالطلاق أو بغيره .
فإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا
تتمسك بجائزتك وتنظر حولك لترى أيضا أن جوائز السماء لم تتخطك .. فلقد أنعمت عليك
بأبناء ناجحين وحياة عملية ناجحة شغلت فيها اسمى المراكز .. ومازالت الدول تطلب
خبرتك وترحب بك بعد المعاش .. وأنت في صحة جيدة كما تقول لي والحمد لله , فأي
جوائز أثمن من كل هذه الجوائز ؟
إنك تستطيع إن كنت في حاجة إلى
رفقة زوجتك لك في غربتك ولابد أنك كذلك أن تخيرها بين أن تستجيب لنداء العودة
للحياة السوية الكاملة معك مع تجاوز كل أخطاء الماضي .. وبين زواجك من أخرى تلبي
لك كل احتياجاتك الإنسانية .. أما الطلاق الآن وبلا دافع سوى التنفيس المتأخر عما
عانيته .. والإيلام المتعمد للطرف الآخر فلا يليق بك ولا بأبنائك، خاصة إذا تذكرت
شبح المحلل الذي لا سبيل لعلاج الطلاق البائن إذا وقع عن غير طريقه، والذي تحتقره
الشريعة السمحاء أشد الاحتقار .. وما شرعته إلا للتنبيه والتذكير والتحذير من
الأقدام على الطلاق الثالث بلا ترو واستثارة الغيرة الطبيعية لدى الرجل حين يرى
زوجته زوجة لرجل آخر كطريق وحيد لاستعادة العشرة بينهما.
فكر فى كل ذلك يا سيدي ..
وانذرها إنذارك الأخير .. واستعن عليها بأبنائك فإما هذا .. وإما ذاك ومن يدري لعل
الله يضيف إلى جائزتك الثانية .. جائزته الكبرى وهي السعادة في الدارين .. ويجزيك
بما صبرت وتحملت خيرا كثيرا .. وشكرا.
رابط رسالة الخطر
رابط رسالة الجائزة الثانية سنة 1989
رابط رسالة الأسرة الكبيرة تعقيبا على هذه الرسالة
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" فبراير
1992
كتابة النص من مصدره / بسنت
محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر