الخطر .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

 

الخطر .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

الخطر .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

إن استمرار بعض الزيجات ليس دليلا على نجاحها وإنما قد يكون مؤشراً فقط إلى أن موعد الانفجار لم يحن أو ربما إلى أن القنبلة قد أصابها العطل من أثر ضيق ذات اليدّ!

عبد الوهاب مطاوع


أنا رجل فى الأربعين من عمري أعمل محاسباً بإحدى الدول العربية. منذ 9 سنوات صمم أهلي علىٌ أن أتزوج فعدت فى أجازة صيف وخطبت إحدى قريباتي خطبة تقليدية بدون عاطفة سابقة بيننا, ثم عدت فى الإجازة التالية وعقدت قراني عليها واصطحبتها إلى مقر عملي وأثثنا بيتنا بكل ما تتمناه زوجة شابه ووضعت راتبي تحت أمرها فكانت تنفقه كله رغم ضخامته على البيت, وعللت ذلك بأنها حديثة التخرج والزواج ولم تتحمل مسئولية من قبل فى حياتها وأملت فى أنها مع مسئوليات الحياة الزوجية سوف تتعلم الكثير, لكن الأيام مضت بلا أي تغيير وأظهرت العشرة عصبيتها الشديدة وعدم اكتراثها بالحياة وعدم اهتمامها بعلاقاتي بالآخرين .. فصوتها عالِ بشكل مستمر ومزعج ومشاكلها كثيرة ودائمة مع الجيران ولا أعرف لماذا, و مع إني جاورتهم سنين طويلة قبل زواجي فلم تحدث بيني وبينهم مشكلة واحدة وكانوا يحترمونني وأحترمهم.


 أما الآن فإني أعود من العمل فأسمع صوتها العالي وهى تتشاجر مع زوجة الجيران. ثم تفاقمت عصبيتها حين مضى عامان بغير أن نرزق بأطفال فبدأنا رحلة العلاج ولم أقصر فى علاجها ولم أبخل بمال أو جهد فى طلب العلاج, وتابعنا رحلة العلاج الطويلة وتكلفت الكثير ثم توقفت بعد أن صارحها الطبيب انه لم يعد هناك أي أمل فى إنجابها لأن هرموناتها ضعيفة, ولا أمل فى زيادتها, والكارثة أن الطبيب قد أبلغها بذلك صراحة .. وليته لم يفعل فقد تضاعفت عصبيتها بعدها بطريقة لا يمكن تخيلها وازداد التوتر والإهمال وتركت نفسها تتضخم حتى أصبحت جسمانيا فوق التصور وازدادت لامبالاتها فأصبحت تضعني مع أصدقائي وزملائي فى مواقف شديدة الإحراج, فكل الاتصالات التليفونية التى أتلقاها فى البيت مثلا ترد على  أصحابها بأني غير موجود, ثم لا تبلغني بها عند عودتي للبيت, حتى لم يعد لنا أصدقاء بالمرة وأصبح الجميع يخشون دخول بيتنا لإحساسهم بأنها لا ترحب بهم, وأصبحت مهمتي فى الحياة الآن هى إسترضاء هذا والاعتذار لذاك.

 كل ذلك يا سيدي والإنفاق بغير وعى مستمر, والإسراف بغير احتياط لغدر الزمن وعثرات الطريق على أشده, وأنا أقول لنفسي إنني أخذتها من أهلها معززة مكرمة .. لذا فيجب ألا اجرحها بكلمة وإذا حاولت أن أنصحها أو أتفاهم معها يزداد النقاش حرارة ثم تعود إلى ما كانت عليه بلا تغيير.

إن الكارثة هى أن أهلها يتصورون أننا فى أسعد حال ونعيش أسعد أيامنا لأنني لم أتعود الشكوى منها وطوال سنوات زواجي لم أنطق بكلمة واحدة لأهلها وأهلي أو أصدقائي عن معاناتي معها, وهكذا فإن الجميع يتخيلون أننا سعداء مع أنى أعيش فى الجحيم .. وقد فكرت فى الانفصال عنها ليس طلباً للإنجاب, وأقسم لك على ذلك, وإنما طلباً للراحة والحياة العادية بلا توتر ولا عصبية ولا مشاكل مستمرة مع الناس أجمعين, وأنا أعلم أن الانفصال يعنى الموت بالنسبة لها .. لكن ماذا أفعل وأنا أموت أيضا معها كل يوم وقد بلغت الأربعين ولم يعد فى العمر مثلما مضى منه .. فهل تنصحني بالانفصال عنها .. أم تنصحني وتنصحها بشئ آخر لعلها تهتدي ويصبح لحياتنا معا معنى؟



 ولكاتب هذه الرسالة أقول:


بعض الزوجات لديهن اطمئنان عجيب إلى الغد وإلى إنهن مهما فعلن مع أزواجهن فإنهن لن يتعرضن لمحنة الطلاق والانفصال .. وهذا وهم خاطئ لأن الإناء إذا امتلأ بما فيه فاض عن جوانبه.

ما لا تعرفه بعض هؤلاء الزوجات هو أن الرجل قادر على اتخاذ قرار الانفصال في أي مرحله من العمر إذا سلم باليأس والفشل فى إمكان تغيير زوجته وانصلاح أحوالها معه .. بل لعله أقدر على اتخاذ هذا القرار الصعب حين يتقدم به العمر عنه وهو شاب فى مقتبل حياته الزوجية وموارده محدودة وأطفاله الصغار يشدونه إلى بيته ويصعب عاطفيا عليه فراقهم ويحس بحاجتهم إليه لرعايتهم والإشراف على تنشئتهم.
وبسبب هذه الحقيقة التى لا يعرفها كثيرون نفاجأ أحيانا برجال فى مراحل متقدمة نسبيا من العمر تصل فى بعض الأحيان إلى ما بعد سن المعاش يتخذون فجأة هذا القرار .. ويتعجب البعض له .. أما هم فلا يعجبون له لأنه طلاق مؤجل منذ زمن طويل حالت الظروف دون الإقدام عليه إلا فى حينه.

تماما كالقنبلة الزمنية التى تبدو مجرد قطعة من الحديد الصامت ثم تدوي بالانفجار فجأة .. والسبب دائما هو غياب الحب والتفاهم والتراحم بين الزوجين منذ البداية.

لهذا فإن استمرار بعض الزيجات ليس دليلا على نجاحها وإنما قد يكون مؤشرا فقط إلى أن موعد الإنفجار لم يحن أو ربما إلى أن القنبلة قد أصابها العطل من أثر ضيق ذات اليد!
وفى رأيى دائما أن الحب والتراحم وحسن المعاشرة والرعاية هى الضمان الوحيد لاستمرار سفينة الزواج طافية فوق الأمواج
وإن غياب العاطفة قد يعوضه حسن المعاشرة أو الرغبة المشتركة فى تجنيب الأبناء مشاكل التمزق بين الأبوين وهو دافع نبيل يكفى وحده ليبرر للإنسان تحمله لظروف حياته الخاصة أما ان يغيب الحب والتفاهم وحسن المعاشرة والرعاية وفى حياة زوجية لا أبناء فيها يخشى الزوجان عليهم من مغبة الانفصال ..
فأي شئ يمكن أن يبرر استمرار مثل هذه الحياة وتحمل جحيمها كل يوم؟

إن زوجتك يا صديقي فيما أتصور من هؤلاء الزوجات "المطمئنات إلى غدهن" بغير أى مبرر لهذا الاطمئنان الغافل العجيب, وهى فى تقديري تتعمد إبعاد أصدقائك وزملائك عنك متوهمة بذلك أنها تستحوذ عليك وتبعدك عن أسر أصدقائك وأطفالهم مخافة أن تحس بنقص فى حياتك.. وهو سلاح ضار تلجأ إليه بعض الزوجات ممن يواجهن هذه المشكلة فيزدن حياة أزواجهن تعقيداً بدلا من الرضا بأقدارهن ومحاولة التعايش معها وتوفير الحياة الطبيعية العادية لهم حتى لا يزدادوا إحساسا بجفاف حياتهم مع العزلة وافتقاد الأصدقاء والحياة الاجتماعية المشتركة ..
ولست أنصحك يا صديقي باتخاذ قرار الطلاق كبداية لحل المشكلة .. لكنى أنصحك فقط بأن تنقل إلى زوجتك الإحساس بأنك تستطيع إذا يئست من إصلاح أحوالها أن تتخذ هذا القرار بسهولة خاصة أنه لا يقيدك فى اتخاذه قيد الأبناء, وأتصور أن مجرد اقتناعها بذلك يكفى لتغيير الكثير مما تشكو منه, فزوجتك _فيما يبدو_ من هؤلاء الزوجات اللاتى يحتجن إلى الإيمان بكلمة الفيلسوف الألمانى نيتشه: "عش فى خطر" بحجة ان الإحساس بالخطر يستنفر طاقات الإنسان للدفاع والتمسك بالحياة مما يسهم فى ترقيتها.
وفى حالة زوجتك فإن فلسفة" عش فى خطر" سوف تفيدها فى إثارة حماسها لبذل بعض الجهد والمهارة للحفاظ على ما بين يديها بدلا من أن تفاجأ وهى غافلة بدوىٌ الانفجار !

*نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" سنة 1990

كتبها من مصدرها / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات