على الطريق .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 

على الطريق .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

على الطريق .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 

هل تتذكر الفتاة التي كتبت لك منذ عامين رسالة نشرتها بعنوان "أسرة صغيرة" وروت لك فيها مشكلتها المادية الصعبة وفشلها في الدراسة الثانوية ومشكلة شقيقها الوحيد في عدم وجود عمل له وعدم قدرته على التفكير في الزواج بسبب ظروفنا القاسية , ومرض الأب الذي كان يرعانا بعد وفاة أمنا وبتر ساقه ؟ لقد كتبت لك هذه الرسالة وأبي في المستشفى ورويت لك المشهد المؤلم الذي عدت فيه ذات يوم إلى شقتنا بعد منتصف الليل أحمل حقيبة سوداء بها ساق أبي المبتورة , مثلما أحمل حقيبة الخضراوات وكيف باتت معي هذه الحقيبة في الغرفة المجاورة لي إلى أن جاء أحد أقاربنا في الصباح وأخذها ليواريها التراب , وكيف تكرر هذا المشهد المؤلم مرة أخرى بعد أسابيع مع الساق الأخرى وأصبح أبي الحبيب قعيدا .. لقد نشرت الرسالة خلال هذه الفترة فأحاطتنا قلوب قراء بريد الجمعة وفوجئت بك تستدعيني لمقابلتك وتبلغني بمساهمات كثيرة من قرائك الأفاضل لحل مشكلة أسرتنا الصغيرة فطلبت منك مقعدا متحركا لأبي الحبيب وأجبتني إلى طلبي وبعد يومين توجه مندوب من طرفك بالمقعد المتحرك إلى المستشفى الذي يرقد فيه أبي .. فوجده للأسف قد انتقل إلى جوار ربه في نفس اليوم ووقفت معنا عائلتنا في هذه المحنة كما وقفوا معنا في مرض أبي , وأفقنا بعد أيام لنجد نفسينا أنا وشقيقي وحيدين في الشقة وبدأنا نفكر فيما نفعل بحياتنا بعد أن أصبحنا وحيدين تماما في الحياة , وكنا قد عرفنا بفضل قراء بابك عمليا معني الحديث الشريف "الخير في وفي أمتي إلى يوم الدين " ووجدنا منهم مساعدات مادية ونفسية كبيرة , وكان رأي شقيقي أن أول خطوة ينبغي أن نحققها هي أن أحصل على الثانوية التجارية التي حولت مساري إليها لأنها آخر فرصة لي لتحقيق حلمي القديم بالالتحاق بالتعليم العالي واتفقت معه على ذلك ووعدته بأن أبذل أقصى جهدي في الدراسة حتى لا أضيع هذه الفرصة الأخيرة.

 وقرر أخي أن يتولى عني شئون البيت والحياة لأتفرغ لمذاكرتي وحدها وساعدني في دراستي أستاذ فاضل بالمدرسة كان على علم بظروفنا طوال العام وفي كل المواد بلا مقابل سوى أجر الله الكبير بارك الله فيه وفي أولاده .. ومضى العام الدراسي الطويل وأنا متفرغة تماما للمذاكرة وشقيقي يعمل في وظيفة جديدة تهيأت له بعد وفاة أبي .. وفي عمل صغير خاص به أنشأه بفضل مساهمات قراء بريد الجمعة بعد نشر الرسالة وشدت أزري أيضا السيدة الفاضلة الاستاذة الجامعية التي عرفتني بها واعتبرتني ابنه لها واعتبرت نفسها مسئولة عني وعن مستقبلي فكانت ومازالت خير معين لي أعانها الله على "شدتها" التي تعرفها وبارك لها في صحتها .

وأديت الامتحان وأنا أدعو الله ألا أخذل أخي .. والسيدة الفاضلة التي ترعاني .. وألا أخذلك بعد أن قلت لي في آخر لقاء أن مكافأتك التي تنتظرها مني هي أن أحصل على الثانوية التجارية بمجموع يؤهلني للالتحاق بمعهد عال .. فشاءت إرادة الله أن تتحق المعجزة وألا أخذلكم جميعا .. ولا أخذل قراء بريد الجمعة الذين أزرونا في شدتنا .. وحصلت على الدبلوم بمجموع كبير والتحقت بمعد عال .. وأصبحت طالبة جامعية كما حلمت ذات يوم وقد أبلغتك بذلك في حينه وأنا أكتب لك هذه الرسالة لأبلغك بخبر نجاحي في السنة الأولى بالمعهد وانتقالي للسنة الثانية وبأن شقيقي يشق طريقه الآن بنجاح في عمله ولكي أؤدي واجبا في عنقي هو أن أشكر كل من ساعدونا بالقول أو بالفعل .. ولأقول لمن يشك في طيبة شعبنا أن الخير فيه إلى يوم الدين وأن الله سبحانه وتعالى لن يتخلى عنه أبدا مادام فيه بشر كالبشر الذين انهضونا من عثرتنا وفتحوا لنا باب الأمل بعد أن كان قد أغلق في وجوهنا .. ويكفي أن أقول لك أنني وأنا الفتاة التي حرمت من أمها وهي طفلة صغيرة , قد أصبح لي الآن ليس أما واحدة وإنما أمان اثنتان ! أم تحتويني بقلبها وتعلمني حب الخير والصبر وتقوى من إيماني هي الأستاذة الجامعية وأم أخرى تحتويني بعقلها وتعلمني حب الحياة والعمل والكفاح لاثبات الذات هي الطبيبة الكبيرة التى تعرفت بها أيضا بعد نشر الرسالة وكل منهما تعتبر نفسها مسئولة عني وأناديها "يا ماما" فماذ أقول أكثر من الحمد لله .. الحمد لله وكيف أجد كلاما أشكر به كل من أزرونا وساعدونا في محنتنا السابقة ؟

 

ولـــكـــاتـــبة هـــذه الـــرســـالـــة أقــــول:

 

في "الحمد لله" كل الكفاية .. فله الحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه أن هيأ هذه القلوب التي أحاطتكما بحبها ومساندتها في أيام المحنة والشكر من بعده لأصحاب هذه النفوس الخيرة الذين ما نشرت رسالتك هذه إلا لكي أسعدهم بما فعلوا .. والحق أنك وشقيقك تستحقان كل ما أحاطوكما به وأكثر فإني لا أنسى حتى الآن حين استدعيتكما بعد وفاة أبيكما رحمه الله وحدثتكما عما تجمع لكما لدى بريد الأهرام من مساهمات قرائه وما رأيته من أن يقدم لكما البريد جزءا ضئيلا منها الآن لمساعدة شقيقك على بدء عمل صغير له وأن يوضع الباقي في وديعتين ممنوعتين من الصرف لمدة خمس سنوات تنفقان خلالها عائديهما إلى أن تنهي تعليمك ثم يحق لكما بعدها أن تتصرفا في أصول الوديعتين كما تشاءان , وكيف أني قد رأيت أن تقسم حصيلة المساهمات بينكما بنسبة 60% لك و40% لشقيقك , فإذا بك ترجوني بحرارة أن أقسم الحصيلة بينكما بالتساوي لأن شقيقك شريكك في كل المعاناة السابقة ولأنه يحتاج إلى أن يبني حياته لكي يتمكن ذات يوم من الزواج .

فرفضت رجاءك .. وسعدت به كثيرا لأنه أكد لي صدق ما علقت به على رسالتك الأولى "أسرة صغيرة" من أن الحب الأخوي الصادق الذي يجمعكما كشقيقين كفيل بأن يجعل منكما أسرة كبيرة بالمعنى الصحيح لمفهوم الأسرة وشاركني رفضي لرجائك شقيقك الذي أيدني في وجهة نظري وهي أنك مازلت في مرحلة التعليم في حين أنه قد أنهى تعليمه وسيعمل , وأنك فتاة ستحتاجين بعد التخرج والعمل إلى ما تستندين إليه عند الزواج وهو رجل يستطيع الاعتماد على نفسه وليس في حاجة إلا ما يضعه فقط على أول الطريق ليحقق نجاحه وغادرتما مكتبي في النهاية راضيين بما رأيته لكما ثم مضي عام قبل أن تزوريني مرة أخرى لتبلغيني بخبر نجاحك في الثانوية التجارية ويتحسن أحوال شقيقك ثم جاءتني أخيرا رسالتك هذه بأخبارها البهيجة فرأيت أن أشرك معي فيها قراء بريد الجمعة ليسعدوا بتصحيح الحياة لبعض أخطائها الكثيرة , وبأن "الأسرة الصغيرة" تمضي بإصرار على الطريق إلى حياة أفضل وأكرم "وما تشاءون إلا أن يشاء الله" صدق الله العظيم.

 

رابط رسالة أسرة صغيرة 

 

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" سبتمبر 1993

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات