أسرة صغيرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992

 

أسرة صغيرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992

أسرة صغيرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992

 

ليست هذه قصتي وحدي لكنها قصة أسرتي .. فنحن أسرة صغيرة مترابطة نحب بعضنا بعضا، كنا أربعة أفراد وأصبحنا الآن ثلاثة هم أبي الذي يبلغ من العمر 67 سنة وأخي الذي حصل على دبلوم معهد فني كيميائي بعد كفاح مرير .. وأنا فتاة عمري 20 سنة ونحن لنا قصة مع الحياة .. فمنذ سنوات كنا نعيش كأية أسرة بسيطة تتحمل ظروفها وعائلنا هو أبي الذي خرج إلى المعاش قبلها بعامين وتقاعد لأنه مريض بالربو .. ثم ماتت أمي رحمها الله بعد مرض طويل وتردد على المستشفيات الحكومية بلا طائل، فانطفأ الأمل والفرح في حياتنا للأبد ووجدت نفسي وأنا طالبة بالصف الأول الثانوي سيدة البيت المسئولة عنه وأن علي أن أرتب حياتنا بمعاش أبي وهو وقتها ستون جنيها ينفق بعضها على الأدوية الضرورية، فأصبحت أذهب للمدرسة كل يوم ثم أخرج للسوق لأشتري الطعام وأعود لأنظف البيت وأطهو الغذاء وأغسل الملابس وأجلب المياه على رأسي لأن بيتنا ليست فيه مياه رغم أنه في القاهرة الكبرى ثم بعد كل ذلك أذاكر وأنجح .

أما أخي فعمل في مكتب للتجارة يملكه أحد الأقارب خلال أجازة الصيف .. ثم بدأت الدراسة فترك العمل , وتفرغ لها لكننا لم نستطع تحمل الحياة بالمعاش الصغير ونفدت كل حيلي لتدبير شئون البيت بما يتبقى منه بعد ثمن الدواء لأبي .. فخرج مرة أخرى للعمل كمرمطون في محل للحلوى بمرتب صغير جدا .. وواصلنا الحياة بصعوبة ولكن بمرح رغم كل شئ وبالعطف والحب بعضنا لبعض .. فكنت في أيام الشتاء الباردة لا أجد أحيانا ما نقتات به وأرى أخي عائدا على قدميه مسافة 5 كيلو مترات من المعهد منهكا فأقوم على الفور وأصنع عجينة من الدقيق والزيت والماء وأصنع منها فطائر عجيبة نأكلها بالسكر ونحمد الله على ذلك .. أما في أيام رمضان فكان بعض الجيران يدعوننا أحيانا للافطار بدعوى "العزومة" وهي في الحقيقة "صدقة" وشكرا لهم على كل حال كما اضطررت في مرات أخرى لقبول المساعدات المادية من بعض الأهل في رمضان في صورة "هدية" وهي في الحقيقة زكاة المال التي يخرجونها علينا.

 

وكانت الأيام تمر رغم كل شئ وربك لا ينسى عباده مهما كان الظلام أحيانا، وقد حدث أن كنت مريضة بالتهاب اللوز المزمن وأنا فى المدرسة فعرفت زميلتي بذلك .. فما كان منها إلا أن أحضرت لي كوب شاي وساندوتشا على حسابها .

أما أخي فقد طلب المدرس منهم كتابا لابد أن يدفع جنيهن كاملين لحجزه، فوقف صامتا حائرا, فما كان من زملائه إلا أن "جمعوا" له هذا المبلغ ودفعوه بإسمه.

وكثيرا ما كانت الاخصائية الاجتماعية في مدرستي توزع في بعض الأيام سندوتشات على الطالبات الفقيرات فكنت أظل طوال الفسحة أتمشى أمام مكتبها ذهابا وإيابا حتى تراني فتعطيني ساندوتش بيض أو جبن فآكل نصفه بالهنا والشفا وأحتفظ بنصفه الآخر لأخي حين أعود للبيت.

أما "المفاجأة الكبرى" فقد حدثت حين نهضت أنا وأخي للذهاب للمدرسة ذات صباح بارد وكنت جائعة جدا وليس في البيت أي طعام فقررت أن أشرب أنا وأخي كوبا من الشاي فقط ونخرج .. ولم أجد عود كبريت لأشعل الموقد فرحت أبحث عن عود كبريت في حقيبتي المدرسية وفي جيوبي فترة طويلة .. فإذا بالمفاجأة هي وجود شلن في الحقيبة لا أعرف من أين جاء ولا كيف اختفى طوال هذه المدة فصحنا من الفرح وأسرعت فاشتريت رغيفين وكان وقتها الرغيف بقرشين وأكلنا واحدا ساخنا لذيذا بالسكر وتركنا الآخر لأبي وخرجنا إلى مدارسنا ونحن في مرح وضحك.


وهكذا مضت بنا الأيام حتى تخرج أخي من معهده لكنه بسبب صعوبة ظروفنا واضطراره للعمل نجح بملحق لا يمكنه من مواصلة الدراسة العالية وحصل على الدبلوم واكتفى بذلك .

أما أنا فقد وصلت إلى الثانوية العامة لكني رسبت فيها للأسف عامين متتالين بسبب اضطراري أيضا للعمل بعد غلاء الأسعار الرهيب في السنوات الماضية وارتفاع ثمن البخاخة التي لا يستطيع أبى أن يعيش بدونها إلى خمسة جنيهات واضطررت لاعادتها للمرة الثالثة منازل ودفعت "مهر عروسة" للمدرسة لكي تعيد قيدي وهو مبلغ مائة وخمسين جنيها اقترضناها من الأهل وظللت اسددها فترة طويلة على أقساط شهرية لكيلا يضيع مستقبلي .. بينما عاد أخي للعمل في المكتب التجاري وبعد فترة جاء وحدثني عن فتاة تعمل معه في المكتب وعرفت منه أنه يحبها.

 يا ربي .. أخي يحب .. نعم يحب .. وفرحت له من قلبي ورأيت نظرة السعادة في عينيه التي لم أرها منذ وفاة أمنا واشتقت لأن أرى هذه الفتاة التي أعجب بها أخي وذهبت معه ورأيتها فإذا باحساس غريب يسيطر علي من أول لحظة، فسألته عما إذا كان متأكدا من أنها تستطيع أن تتحمل معه الحياة فلم يجب .. ففاتحتها في موضوع أخي وصارحتها بأنه لا يملك أي شئ وطلبت منها أن تقف معه حتى يبني حياته ويسعدها فطلبت مهلة للرد , ثم جاءني ردها بعد قليل وهو أن أخي مشواره طويل وأنها لا تستطيع أن تصبر ولا تريد أن تكافح معه وإنما تريد عريسا جاهزا .

وأشفقت على أخي مما سيحس به من عجز وألم حين أبلغه بذلك .. وحاولت أن أخفف عنه وقع الخبر وأوجعني قلبي وأنا أراه حزينا شاردا بعدها .. ومن ذلك اليوم أصبح لا يتكلم إلا نادرا وظهرت علامات سوداء تحت عينيه واختفت الابتسامة والنكتة التي طالما خففت عنا أيامنا الصعبة .. وحاولت أن أناقشه في أن هذه الفتاة لا تستحق الحزن عليها فأجابني متألما بأنها على حق فيما قالت لأن الحب والزواج ترف لا تسمح به ظروفنا .

 

 

ولــكــاتــبة هــذه الــرســالـة أقــول:

 

لستم أسرة صغيرة كما تتصورين .. بل أنتم أسرة كبيرة حقا وصدقا وبالمفهوم الصحيح للأسرة كما أراده لها الله سبحانه وتعالى، وهو أن تكون أكثر تراحما وتعاطفا وتكاتفا في وجه أنواء الحياة .. بل إن ما يحمله أفراد أسرتك هذه من المشاعر العائلية الراقية ومن إحساس بالمسئولية المشتركة .. وإنكار للذات في وجه الإغراءات الصغيرة  يرفع من قدر أية أسرة تستهدي بمثل هذه القيم الدينية والخلقية التي تدفعكما للاعتراف بما قدم لكما أبوكما وللرغبة في رعايته في شيخوخته .. فضلا عن هذا التراحم الذي يأسر القلوب وأنت تتقاسمين كسرة الخبز التي حصلت عليها في المدرسة وتحرمين نفسك من نصفها لتقدميها لشقيقك فى البيت .. أو وأنتما تتقاسمان رغيفا أجرد بلا أدام لتتركا الآخر لأبيكما يوم "المفاجأة الكبرى " ! .. يا إلهي أليس هذا هو "الرفق" الذي قال عنه رسولنا الكريم : إن الله إذا أراد بأهل بيت خيرا أدخله عليهم ؟ وكم من الأسر "الكبيرة " لا تعرفه.

أما أخوك فمن حقه أن يحلم ويحلم ويحقق أحلامه في النجاح والسعادة بإذن الله .. وأما مشروعه الصغير فلسوف يأذن الله به فى القريب العاجل إن شاء الله عن طريق بريد الأهرام أو بعض أصدقائه الفضلاء الذين يرون في تشجيع شاب شريف يكافح مثله حقا للحياة عليهم .. وأما أنت فلسوف تحققين أيضا لنفسك كل ما تحملين به وكل ما تستحقينه من الدنيا بعد كل هذا العناء وبهذه النفس الطيبة العطوف التي تنطوين عليها.

 وليس التعليم العالي يا آنستي هو طريق النجاح الوحيد فى الحياة .. فدروب النجاح عديدة، ولا شأن للسعادة بالمؤهل العالي أو المنخفض ولابد أن تشرق عليك وعلى أسرتك هذه شمس السعادة والامان قريبا بعد أن أظللتها طويلا الغيوم , فاصطحبي أخاك الذي يشغلك أمره وتفضلي بزيارتي مساء الاثنين القادم وشكرا لك على رسالتك هذه التى ألقت علينا درسا "قاسيا" جديدا ونبهتنا إلى "أشياء" كثيرة تغيب أحيانا عن البعض في بخار الشكوى والأنين .


                       
                                                 نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" فبراير 1992

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات