أنغام الحياة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989
دفعتني رسالة الأنغام
الحزينة للفتاة التي تشفق من تعريض شقيقها الأصغر للعلاج القاسي رحمة به إلى أن
اكتب إليك هذه الرسالة لأروى لها ولك تجربتي مع الألم والأمل .. فأنا طبيبة متزوجة
منذ عدة سنوات ومستقرة نفسيا وعاطفيا مع زوجي وأولادي .. ومنذ حوالي سنة لاحظت أن ابنتي
الصغيرة ذات الأعوام الثلاثة تتمايل خلال سيرها .. وتستعين على حفظ توازنها
بالاستناد إلى الحائط فاصطحبتها إلى طبيب أطفال فحصها وطمأنني إلى أنها طبيعية ولا
شيء فيها فعدت بها واطمأننت قليلا .. لكني لاحظت أن حالتها تسوء .. فذهبت بها إلى أستاذ
في طلب العظام وكان أستاذا بحق فطلب فحصها بالأشعة المقطعية على المخ فخرجت من
عنده والأرض تتمايل بي والهواجس تطن في راسي .. وأجريت لها الأشعة وظهرت النتيجة
لتصدمني في مشاعري كأم وتقول لي أن ابنتي البريئة تحمل ورما خبيثا من النوع النشيط
في المخيخ .. وتخيل حالي يا سيدي وأنا اسمع هذا الحكم وأنا طبيبة والجهل بالمرض
أكثر راحة للإنسان من العلم به في كثير من الأحيان .. فبكيت كثيرا وانهارت مقاومتي
وأنا أرى ابنتي لا تقوى على رفع رأسها وتتمدد على السرير فحملتها إلى جراح كبير
للمخ والأعصاب فقرر إجراء جراحتين لها وكان الرجل إنسانا فوق أي وصف وأي تصویر
فرفض أن يتقاضى منا مليما عن الجراحتين وهو الأستاذ المشهود له بالكفاءة وأحد
الجراحين المعدودين في مجاله في مصر .. وأكثر من ذلك فكان لا يفارقنا صباحا أو
مساء وفي الأيام العصيبة .. وكان فضل الله علينا عظيما ووقف الجميع بالمستشفى إلى
جوارنا من أول - موظف الاستقبال إلى
الأطباء
والممرضات إلى عاملة النظافة .. فالجميع يدعون الله لابنتي الصغيرة ويلاطفونها
ويقدمون كل ما يستطيعون من مساعدة لها .. وخرجنا من المستشفى لنبدأ العلاج
بالكوبلت المشع وتوجهنا إلى مستشفى قريب من مسكننا وبدأت أول جلسة وكان لابد لها
من أن تأخذ حقنة بنج خفيفة في كل جلسة حتى لا تتحرك تحت الجهاز .. وانخلع قلبي وأنا
أراها تغيب عن الوعي .. ثم وهي تترنح بعد أن تفيق منه في كل مرة لكن إيماني بالله
كان عظيما .
وعرفت أن ما يحدث هو ابتلاء من الله لعباده
الصابرين ليجزيهم أجرهم .. "وبشر الصابرين" ، وتحملنا فترة العلاج بالإشعاع
وعدنا بها إلى طبيب المخ والأعصاب فطلب أن نعطيها العلاج الكيماوي إلى جانب الإشعاع
وذهبت إلى طبيب الأورام المعالج فلم يحبذ هذا الرأي مشفقا عليها مما تحملت حتى
الآن وصادف رأيه هوى في نفسي كأم .. واسترحت إليه لكيلا أزيد آلامها بالحقن وغيرها .
ومضى شهر فإذا
بالآلام المبرحة تهاجمها من جديد وأسرعت بها إلى الطبيب المعالج فلم ير فيها شيئا
غير عادي .. وكنت في هذا الوقت قد أنهيت إجراءات السفر لأداء العمرة مع زوجي وتحدد
يوم السفر فإذا بابنتي
تصاب بضعف في الجانب الأيسر من جسمها .. وترددت هل ألغي السفر أم أواصله وكانت
معنوياتي قد وصلت إلى الحضيض .. فحزمت أمري وقررت السفر وليفعل الله بنا ما يشاء
وحملت طفلتي وسافرت مع زوجي الى الأراضي المقدسة کأني أستجير بجوار بيت الله مما أعانيه
وتعانيه ابنتي من آلام ولم تلبث حالة الضعف التي انتابت طفلتي أن تطورت إلى شلل
نصفي تام فأصبحت لا تقوى على المشي ولا تكف عن الصراخ مما تعانيه من آلام تهد
الجبال فكنا نحملها دائما .. وهي لا تستريح محمولة ولا نائمة .. والآلام لا ترحمها
ولا تخفف منها المسكنات .. واشتدت عليها الآلام ذات مرة فحملها زوجي على ذراعه
وخرجت معه نطوف بها حول الكعبة المشرفة .. نلبي ونهلل ودموعنا تسيل كالمطر وهي تبكي
من الألم .. والطائفون من حولنا يشاركوننا الدعاء لها بأن يخفف الله آلامها .. وأنا
في داخلي أحس أنها النهاية وأن الأجل قد حان .. حتى انتهت مناسك العمرة وأدينا الصلاة
في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام ودعونا لها الله كثيرا .. وعدنا إلى بلادنا
وحالتها تشتد واصطحبتها إلى طبيب المخ والأعصاب فتألم لحالها كثيرا ولامني على أني
لم اسمع نصيحته منذ البداية وأرسلني إلى طبيب فاضل من الأطباء العظام فاستقبلني أحسن
استقبال وبدأنا العلاج الكيماوي .. فلم تمض عشرة أيام حتى بدأت آلامها تهدأ .. ثم بدأت
حالتها تتحسن .. وأصبحت تستطيع أن
تتناول طعامها
وهي جالسة بعد أن كانت تأكل وتشرب الماء بخرطوم من البلاستيك وهي نائمة ثم تحسنت
حالتها أكثر فأكثر .. فإذا بها بقدرة الله ومشيئته وببركة العمرة وما سخره لنا من أسباب
تنهض من فراشها وسط ذهول الطبيبين الكبيرين اللذين لم يصدقا ما حدث .. وإذا بها
تمشي ثم تجرى .. ثم تلعب مع إخوتها وصوتها يملأ البيت وأدعو الله ألا يحرمني منه وألا
يريني فيها مكروها أبدا وأن يتم عليها وعلينا نعمته.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
ولك ولابنتك يا سيدتي خالص الدعاء بأن يتم الله
عليكما نعمته .. وبأن يؤذن لسحابة الآلام بأن تغيب عن سماء أسرتك الصغيرة إلى غير
رجعة فلقد ذكرتني رسالتك هذه بالمثل الانجليزي الذي يقول "إن كل سحابة
سوداء حولها هالة فضية .. وأننا إذا دققنا النظر في السماء لرأينا هذه الهالة تحيط
بالسواد وتحدده" . وتذكرنا بأن لكل ألم نهاية ولكل عذاب آخرا وبأن علينا دائما أن نعلق أنظارنا
بهذه الهالة الفضية .. ونتمسك بالأمل في رحمة الله ونستعين بإيماننا على اجتياز ما
تواجهنا به الحياة من شدائد.
ولقد أدركت بإيمانك العظيم كل ذلك وأنت في بوتقة التجربة .. فعرفت أن المحن تطهر النفوس مما علق بها من شوائب وأن أنغام الحياة مزيج متداخل من أنغام الأمل والألم .. وأن علينا أن نتقبل هذا المزيج بحلوه ومره وألا نفقد الأمل أبدا في رحمة الله .. فلتكن إرادة الله إذن أن يكتب لابنتك تمام الشفاء .. وان يجزيك أجر الصابرين عما تحملت من آلام.
أما كاتبة رسالة "الأنغام الحزينة" فأرجو أن تكتب إلي بعنوانها لأبعث إليها باسم الطبيب العظيم الذي عالج ابنتك والذي ترشحينه لعلاج شقيقها .. لعل الله يكتب له الشفاء على يديه .. وعسى الله أن يمسح برحمته آلام كل المعذبين بأمراض الجسم والروح في هذه الحياة المثقلة بالعذابات .. وشكرا لك على رسالتك القيمة هذه بمعانيها الإنسانية ودوافعها النبيلة.
رابط رسالة النغم الحزين من كاتبة الرسالة بعد عدة أشهر تنعي ابنتها
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر