النغم الحزين .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990
منذ حوالي
عشرة شهور كتبت لك رسالة نشرتها بعنوان "أنغام الحياة" .. رويت لك فيها
قصة طفلتي التي أصابها المرض اللعين في رأسها .. وكيف أنها أجريت لها عمليتان
جراحيتان وعولجت بالعلاج الكيماوي والإشعاع .. وتحسنت كثيرا بعد العلاج .. حتى
استطاعت أن تعاود المشي بعد أن كانت قد أصيبت بشلل نصفي .. وطوال الشهور التي تلت
رسالتي لك كانت طفلتي الحبيبة في أتم صحة حتى تعجب الأطباء، وأنا طبيبة مثلهم من
تحسن حالتها إلى هذا الحد ثم حدث أن أصيبت بالتهاب عادي في الحلق أدى إلى تدهور
حالتها فجأة ودخولها للمستشفى لإصابتها بتشنجات عصبية فأمضت بالمستشفى ٤٠ يوما ثم
نفذ قضاء الله في موعده المقدور منذ حوالي شهر .. ولا أريد أن استرسل في ذكر هذه
التفاصيل المؤلمة لأنها لا تهم أحدا غيري .. ولأنها أيضا ليست الهدف من رسالتي بعد
أن قرأت لك منذ فترة أنك أصبحت تؤثر ألا تكتب عن مثل هذه المآسي بعدما سببته رسالة
"الشعر الذهبي" .. عن الطفلة المريضة بالفشل الكلوي لك ولغيرك من آلام ..
ولست ألومك في ذلك بل لعلي التمس لك العذر فيه لكني أرى أن نشر بعض هذه الرسائل من
حين إلى آخر يجعل قراءك يحمدون الله على ما ابتلاهم به ... إذا قاسوا بلاياهم الصغيرة
بمآسي غيرهم ونكباتهم، خاصة حين يرون هؤلاء المنكوبين يحمدون الله ويعتبرون أنفسهم
رغم ذلك أفضل حالا من غيرهم ويؤمنون بأن الله سبحانه وتعالى يعطى كل إنسان بقدر ما
تتحمله نفسه وتقدر عليه .. وليس لنا سوى الرضا بما قدره الله لنا .
فالحمد لله على ما أعطى وعلى ما أخذ ونحن جميع
لا نملك من أمر أنفسنا شيئا .. في الصحة والمال والأبناء .. وإن تصورنا غير ذلك ..
وبعد كل هذا أقول أني اكتب لك يا سيدي لأني قرأت في الصحف أن ١٥% ممن يترددون على
معهد الأورام بالقاهرة هم من الأطفال .. وهي نسبة مرتفعة تحمل مؤشرات خطيرة عن مدى
انتشار هذا المرض اللعين بين الأطفال .. إذ لم يعد شلل الأطفال هو المصيبة الكبرى
.. وإنما أصبحت هناك كوارث أشد خطرا .. والكارثة أن معظم هذه الحالات تكتشف متأخرة
بسبب نقص الرعاية والوعي بهذا المرض .. فمعظم أطباء الأطفال لا يستطيعون اكتشاف
هذه الحالات مبكرا مما يخفض من نسبة النجاح في العلاج .. فماذا يمنع إذن من تنظيم
حملات إعلامية واسعة في التليفزيون لتوعية الناس بمعلومات بسيطة عن أهم العوارض
المبكرة التي تنتاب الأطفال والتي تلفت الانتباه للإسراع بعرضهم على الأطباء
المتخصصين .. وماذا يمنع من بناء مستشفى يخصص فقط للأطفال المرضى بهذا المرض ويوفر
لهم الأطباء المتخصصون في علاجهم حيث أن الطفل جرعاته وحساباته المختلفة عن الكبار
.
وماذا يمنع من
التوسع في مراكز الأجهزة المقطعية بالكمبيوتر للتشخيص المبكر للأورام والإسراع
بعلاج المشتبه فيهم في سن مبكرة لعلنا نخفف بذلك قليلا عن أبنائنا وذويهم بعض
عذابهم خاصة وأن علاج هذا المرض مكلف جدا ومرهق لأي أسرة مهما كان دخل عائلها.
إنها خواطر
خطرت لي وأنا أراجع نفسي بعد أن حدث ما حدث أردت أن أشركك معي فيها .. وأن أرسل
معها إلى قرائك تمنياتي لهم بالصحة والستر .. والرضا بما اختاره الله لهم مهما كان
صعبا لو شاقا على نفوسهم .. فالرضا ضروري لكل إنسان لكي يستطيع مواصلة الحياة
بحلوها ومرها .. وإلا تعذرت الحياة .. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
ما من إنسان إلا وتجرع الألم بشكل أو بآخر في
بعض مراحل حياته .. وما الحياة في مجموعها إلا مزيج متعادل من السرور والألم والمتعة
والحزن والسعادة والشقاء .. وتختلف أقدار الناس فيها بقدر ما ينالون من لحظات
السعادة وبقدر ما ينجحون في احتوائه من لحظات الشقاء بالتعايش معها .. والرضا بها والتعالي
عليها .. انتظارا للأنغام الجميلة التي لابد أن تنتهي بها يوما سيمفونية الحياة.
ومن الناس يا سيدتي
من ينطبق عليهم وصف الأديب الفرنسي الكبير فيكتور هوجو .. حين قال عن نفسه أنه "نبي
الألم" ، بعد أن غرقت له ابنة وماتت أخرى شابة .. وجنت ثالثة وماتت زوجته
التي أحبها منذ سن السابعة عشرة ومع كل هذه الآلام فلم يقل إقباله يوما على الحياة
وعلى العمل والإنتاج الغزير وقال كلمته الشهيرة : ما الحزن إلا مقدمة للسرور ..
وانتظر دائما النغم الجميل الذي يعقب الأنغام الحزينة.
فانتظري یا سيدتي
تعويض السماء لك عمن فقدت .. فهو قادم لا محالة بعد أن فزت بأجر الصابرين الذين إذا
حلت بهم مصيبة استرجعوا .. وتصبروا .. ولم یزدهم ما لاقوه إلا إيمانا.
وواصلي إقبالك
على الحياة .. واهتمامك بها .. وآراءك عن وجوب الاهتمام بالكشف المبكر عن هذا
المرض اللعين خير دليل على أنك تمضين في الطريق الصحيح للتسامي بالألم .. وتحويله
إلى رغبة نبيلة في تجنيب الآخرين ويلات تجربتك المؤلمة .. وأرجو أن تنال اقتراحاتك
ما هو جدير بها من اهتمام .. كما أرجو أن تكتبي إلي بعنوانك لعلي أحيل إليك ما قد أتلقاه
من رسائل المشاركة ورسائل المهتمين بالقضية العامة التي أثرتها .. وهذا هو خير ما
نفعله في مثل هذه الظروف الحزينة أن نحول آلامنا الخاصة .. إلى آلام عامة .. وأن
نواصل الاهتمام بترقية الحياة وتخليصها من الشقاء بقدر ما نستطيع وما يسمح به
جهدنا المحدود وعزاء لك يا سيدتي .. وصبرا.
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر