الفكرة الملحة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999
مشكلتي غريبة وفيها اعتراف مني بشئ لا أعرف له سببا ، ولا أستطيع الفكاك منه أو منعه ، لذلك فلقد لجأت إليك لتجد لي حلا لما أعانيه من هذا العذاب الدائم .. فأنا فتاة جامعية خريجة إحدى كليات القمة ، وعمري سبعة وعشرون عاما ، ولم أتزوج حتى الآن .. ولست منشغلة بالزواج أو عدمه ، فلقد تقدم لي كثيرون ولكني أرفضهم لبعد مستواهم عني سواء المستوى المادي أم العلمي والثقافي أم الاجتماعي ، وعلى أية حال فإني لم أكتب لك من أجل ذلك ، وإنما لشئ آخر أعانيه وأشعر بأنه ليس بيدي .. ولا تتعجب حين أعترف لك به وأقول لك إنني حاسدة .
نعم يا سيدي .. أنا حاسدة بكل ما تعني هذه الكلمة !
فلو أن أحدا بيده كوب من الشاي يشربه ونظرت إليه مليا ، وقلت في نفسي ما أجمل هذا الكوب فإنه ينكسر فورا بأي طريقة !
ولو أنني رأيت امرأة ترتدي قرطا أو عقدا من الألماس أو اللؤلؤ الثمين ونظرت إليها وانبهرت وقلت في نفسي ما أجمل هذا القرط أو العقد فإنه قد ينفرط فورا ، ويضيع تحت الأقدام ! .. حتى أن أبي رحمه الله حينما اشترى عربة جديدة غالية الثمن جدا ورأيتها فنظرت إليها وأبي بداخلها ، وقلت ما أجملها في نفسي وانبهرت جدا بها ، فلم يكد أبي يتحرك بالعربة إلى الشارع الرئيسي الواسع حتى جاءت سيارة وصدمت العربية ، وبعد حادث السيارة أصبحت لا أذهب إلى مكان إلا وتحدث به مصيبة.
وقد بدأ عدد من الأقارب والمعارف يستاؤون من زیارتی لهم أو من رؤيتهم لي ولو حتى مصادفة .
وحقيقة إنهم لا يواجهونني بذلك مباشرة .. لكني فهمت من تصرفاتهم معي ، أنهم لا يرحبون بي ويفضلون عدم رؤیتی .
إنني كما قلت جامعية ومثقفة ، لذلك لم أسكت ولم أقف مكتوفة اليدين ، وإنما أحضرت كتبا كثيرة في علم النفس تتحدث عن الحسد وأسبابه ودوافعه وكيفية التغلب عليه، ولكن بلا فائدة، بل إنه من المضحك وشر البلية ما يضحك ، هو أنني كثيرا ما أحسد نفسي .. فلقد اشتريت فستانا جديدا رائعا ، وأخذته من البائعة ، وكان آخر فستانا عندها .. وأسرعت إلى منزلي سعيدة جدا به وارتديته أمام المرآة في حجرة النوم .. وقلت في نفسي ما أجملك وأنت ترتدين هذا الفستان الرائع ثم خرجت من حجرة النوم لکي تراني به أمي .. فاصطدمت بأخي الأصغر وانسكب كوب الشاي على الفستان الجديد .
إنني في جحيم ، فهل أجد عندك حلا لمشكلتي الغريبة هذه .
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
الحسد یا آنستي هو تمني زوال النعمة عن الآخرين ، وبهذا المفهوم فإن الإعجاب بالأشياء وإطراءها ليس من الحسد المذموم في شيء.
ولهذا فإنه يخيل إلي أنك تبالغين في اتهام نفسك بسوء الطوية وتحملينها مسئولية ما تتعرض له بعض الأشياء من تلف عارض ، عقب إعجابك الداخلي بها ، ولا شك أن ما تروين عنه إنما هو من قبيل المصادفات التي لا تصنع قاعدة ، ولا يمكن أن تجعل منك سببا حقيقيا لإتلاف هذه الأشياء .. إذ ما هي العلاقة السببية - وأنت الجامعية المثقفة - بين نظرك إلى كوب من الشاي ، وتحطم هذا الكوب بعد قليل لتلف فيه أو من أثر الحرارة ؟ وما هي العلاقة السببية بين إعجابك بعقد من اللؤلؤ وانفراطه كما قد يحدث كثيرا في حضورك أو غيابك ، ولماذا تكون الأشعة الصادرة عن عينيك وحدها هي المسئولة عن ذلك ، وليست أعين الآخرين ؟
إنني أتهمك بالتطير من نفسك ، وهذا أمر خطير حقا .. ويمكن أن يؤثر حقا على تواصلك مع الآخرين .. وأطالبك بتعديل أفكارك عن نفسك وإعفائها من أية مسئولية عما يصيب الأشياء من تغيرات عارضة لا شأن لك بها ولا مسئولية لك عنها .
فهذه الفكرة المسيطرة عليك هي من قبيل الوساوس القهرية التي تلح عليك رغما عنك ، وقد يكون لها أسوأ الأثر على حياتك الاجتماعية .. والفكرة القهرية التي تلح على الإنسان هي غالبا فكرة ضلالية أي خاطئة ولا منطقية .
وعلى أي حال فإنك تستطيعين الاستعانة على هذه الفكرة القهرية بخبرة الطبيب النفسي المتخصص ، كما تستطيعين أيضا أن ترددي کثیرا فيما بينك وبين نفسك هذه العبارة من دعاء الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه : " وسدد لساني ، وأهد قلبي، واسلل سخيمة صدري" ، وسخيمة الصدر - كما في المعجم الوسيط - هي الحقد والضغينة ، والأفكار السلبية التي تراود النفس فتضيق بها .
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر