الجائزة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989
المساء يأتي حاملا معه مصباحه أي "القمر" ليضئ لنا الظلام .. ومصباح الحياة الذي يبدد ظلام اليأس هو دائما الثقة بالله وبأنفسنا والإيمان بعدالة السماء وبحقنا في السعادة وبواجبنا في السعي إليها بالعرق والدموع وبالطرق المشروعه التي تتوافق مع قيمنا الدينيه والخلقية .
عبد الوهاب مطاوع
منذ
سنوات كنت فتاة جميلة متفوقة في دراستي انهيت دراستي في مدرسة اللغات وجاء ترتيبي
الرابعة على الناجحات منها والتحقت بالجامعة .. وبدأ الخطاب يتوافدون علي لكن أبي
وأمي لم يشجعا خطبتي المبكره وتركا لي الأمر بعد مشاورتهما .. وفي السنة الثانية
من دراستي الجامعية خطبت إلى طبيب من أسرة كلها أطباء واستمرت الخطبة لمدة سنة ثم
حدث خلاف بيني وبينه بسبب تدخل أبويه في كل أمورنا حتى تسريحة شعري وموديل فساتيني
ففسخت الخطبة وعدت لمواصلة حياتي كطالبة جامعية ونسيت التجربة كلها بخيرها وشرها,
وبعد عام آخر تقدم لخطبتي شاب آخر اقتنعت به واقتنع بي، وبعد قليل طلب أن نعقد
قراننا لكي يستطيع أن يحجز شقة بعقد الزواج عن طريق عمله فتم عقد القرآن .
لكن
الخلاف لم يلبث أن نشب بيننا بسبب ما تبين لي من طمعه وشذوذ تصرفاته فانتهى الأمر
بطلاقي قبل الزفاف .. وأصبحت بلا فخر مطلقة.. وذات تجربة خطبة فاشلة قبل أن أصل إلى
سن الثالثة والعشرين وراجعت نفسي فقررت أن أغير خططي وأن أمضي في طريق الدراسة وأن
أصرف النظر عن الزواج مؤقتا إلى أن يتغير حظي العثر معه.
وتخرجت
في كليتي بتفوق ورشحت لبعثة في فرنسا وسافرت إليها وأنا في الرابعة والعشرين وعشت
هناك ثلاث سنوات طوال, غيرت الكثير من شخصيتي وأهملت خلالها نفسي إهمالا شنيعا
وكنت لا أخرج من غرفتي إلا لإحضار الطعام وأعود لأمضي الوقت داخل الغرفة في
الدراسة أو مشاهدة التليفزيون .. فساء مظهري إلى حد كبير وفقدت رشاقتي وزاد وزني
25 كيلو جراما , وعدت لمصر بعد إنتهاء البعثة وتسلمت عملي بإحدى الشركات
الاستثمارية وأصبحت أعمل بها من الصباح حتى الثامنة مساء ثم أعود لأتناول طعامي
وأنام فازداد وزني .. وانهارت ثقتي في نفسي وأهملت بعض واجبات ديني فلم أعد أواظب
على صلاتي كما كنت أحرص عليها من قبل.. وتزوجت شقيقتي التي تصغرني بثلاث سنوات ثم
شقيقتي التي تصغرني بخمس سنوات .
أما
أنا فلقد فر الخطاب من أمامي بعد أن وصلت إلى حالة يرثى لها من ناحية المظهر
والثقة في النفس فانطويت على نفسي وازددت تقوقعا في داخلي , ولم يعد أبواي يأخذان
رأيي في شئ يخص البيت.. فأصبحت فتاة على الهامش لا تعرف مصلحتها ولا تبالي بها
وربما غير متزنه ولم أتوقف عند ذلك طويلا وواصلت حياتي إلى أن ذهبت ذات يوم مع أمي
وجدتي إلى عيادة طبيب وكان عنده بالمصادفة أحد أقربائه وتحدثنا معه حديثا عاديا,
فلم تمض أيام حتى اتصل بنا الطبيب وأبلغنا رغبة قريبه في التقدم لخطبتي فتنفست
الصعداء وفرحت أمي فرحا شديداً ورحبت به بحرارة وتمنت لو تستطيع أن تعطيه كل ما في
الدنيا لكي يتم الزواج لينقذني من مصير العوانس.. ومن إهمالي لنفسي وكان زوجي يعمل
في حلوان فقرر أن نقيم في المعادي فاسرعت أمي تستأجر شقة في المعادي وقامت
بتأثيثها ولم تطالبه بمهر.. وأقامت حفلا للخطبة وآخر للزفاف في فندق كبير, وأقبلت
على الزواج بنفس راغبة في تعويض ما لاقيته من سوء الحظ وطول انتظار .. و تخليت عن
عملي المرموق لكيلا يشغلني شئ عن فرصة العمر الأخيرة التي اتيحت لي وأنا في
الثامنة والعشرين .
وانتهى
حفل الزفاف وبدأت أيام الزواج فإذا بها تنكشف عن مأساة بطلها زوجي الذي يعاني من
مشكلة صحية أخفاها عنا "سامحه الله" فبدأت المعاناة والمشاكل من اليوم
الأول وتحملت صابرة مصيري واستسلمت لأقداري وكان يتردد بإنتظام على الطبيب المعالج
فلم يكف مرتبه نفقات البيت ونفقات العلاج فأسهمت بمدخراتي في مصروف البيت بغير
انتظار .. وتركز أملي في شفائه لكي نواصل حياتنا وننقذها من الفشل . لكنه بسبب
مرضه كان شديد العصبية ويثور لأتفه الأسباب ثم يعجز عن التحكم في نفسه فيتطاول علي
بالضرب والسب ثم يبكي ويعتذر في كل مرة .. فأتحمل صابرة , وقررت أن أعود للعمل مرة
أخرى لأشغل وقتي بعد أن لاح لي أن أمل الإنجاب ليس قريبا كما كنت أعتقد وعدت للعمل
وحاولت شغل نفسي بصداقات عائلية في محيط الأسرة.. ووطنت نفسي على تقبل الحياة مع
زوجي بكل علاتها, وعلى تحمله لكي تمضي بنا السفينة في سلام.. لكن أحواله معي ساءت
أكثر فأكثر حتى لم يعد يمر يوم دون أن أبكي فيه وأصرخ مما ألاقيه منه وأعانيه.
وذات
يوم عاد زوجي من عيادة الطبيب وأبلغني أنه تأكد من أنه لا أمل له في الإنجاب
وخيرني بين الطلاق وبين الإستمرار فلم أفكر في الإنفصال .. لكني أسررت لأمي ببعض
همومي ففوجئت بها تقول .. اصبري عليه فمن غيره كان يمكن أن يتزوجك وأنت بهذا الشكل
, بعد أن ضاع جمالك وغطى عليه إهمالك لنفسك ..ولسعتني كلماتها .. فبكيت طويلا
بعدها .. واستغرقت في همومي وأحزاني ومرت الأيام كئيبة بطيئة لا طعم لها ولا مذاق
.. وتأكدت أمي أنني لن أجرؤ على الإقدام على خطوة الانفصال وورائي هذا السجل
الطويل من الفشل لكي أصبح مطلقة مرتين وصاحبة خطبة فاشلة.. واطمأننت أنا نفسي إلى
ذلك .. فاستسلمت لأقداري ..لكن البركان الخامد بدأ يغلي داخلي فسألت نفسي لماذا
أتحمل حياة لا راحة فيها ولا سعادة ولماذا أمضي العمر كله في المعاناة والألم
والمشاكل لكيلا يقول عني أحد أنني قد فشلت 3 مرات! وهل أردت الفشل لنفسي أم هو سوء
الحظ المستحكم ..ثم هل تساوي فكرة الآخرين عني كل هذا العذاب الذي أتحمله كل يوم
وانتهيت فجأة إلى أنه لا شئ يعدل راحة القلب واطمئنان النفس وأنني أعيش حياتي أنا
لا حياة الآخرين فقررت الإعتراف بالأمر الواقع وطلبت الطلاق وليفعل الله بي ما
يشاء .
وطلبت
الطلاق وحصلت عليه وعمري 31 سنة ووسط ثورة أمي واعتراضها .. وسألتني بعد الطلاق
عما سأفعل بحياتي ففاجأتها بأني سأستمر في الحياة في شقتي بالمعادي القريبة من عملي .. فلم تعترض لكنها
لم تنس أن تقول أن هذا خير ما أفعله لأنني لن أجد من يقبل الزواج مني في هذه السن
وبهذا المنظر!
لكن
البركان الذي ثار داخلي واصل فورانه وأمتد إلى نفسي .. فراجعت حساباتي ووجدت نفسي
فتاة بدينة وزنها 87 كيلو جراما بشعة
المنظر.. مهملة لنفسها إلى أقصى حد متفوقة في عملها وضعيفة الشخصية إلى أبعد حد.. فقررت
أن أجاهد نفسي وأن أغير من نفسي .. واستنفرت إرادتي القديمة التي كانت تمكني من
التفوق في الدراسة .. فامتنعت عن كل عاداتي السيئة وبدأت في تنفيذ برنامج غذائي
قاس لانقاص وزني وبرنامج آخر للمحافظة على صحتي وجسمي وبدأت اهتم بنفسي اهتماما
شديدا وقبل كل شئ عدت إلى أداء الصلاة بإنتظام في أوقاتها وفي أي مكان أوجد فيه
ومهما كانت الظروف والأحوال والزمت نفسي بقراءة عدة صفحات كل يوم من كتاب الله
وألزمت نفسي بكل قيم ديني الخلقية فحرمت على نفسي رغم أني لست محجبه المظهر غير اللائق
والكذب والنميمة والإيقاع بين الناس.
ومضي
عام على هذا النظام الصارم فإذا بي أنظر إلى المرأة ذات صباح فأجد نفسي قد عدت كما
كنت في سنوات الجامعة فتاة رشيقة جميلة تفيض حيوية ونشاطا وتثق في نفسها وفي ربها
وتتطلع بقلب متفائل للحياة.. واكتشفت في هذه اللحظة أنني قد فقدت 29 كيلوا جراما من وزني المترهل ، فأصبح لا يزيد عن 58 كيلو
جراما, ومع تخلصي من كل هذه الأثقال أعدت علاقاتي مع أمي وأبي وأخي إلى حرارتها في
الماضي وفوجئوا بي ذات يوم وقد أغلقت شقتي وقررت العودة للاقامة معهم ففرحوا بي
وسعدوا بثقتي في نفسي ولم يعد أمر زواجي يزعجهم وإنما أصبح ما يريدونه هو أن أستمر
في الحياة معهم .. أما أنا فلقد فوجئت وأنا في الثامنة والثلاثين من عمري وورائي
هذا السجل المشرف من الفشل بالخطاب يطرقون بابي ! وفوجئت بهم أيضا أسرتي ولم تصدق
نفسها وكان الخطاب يرضون أي فتاة في العشرين من عمرها لكني أثرت التريث إلي أن يجئ
النصيب حتى لا أكرر أخطاء الماضي.
ودُعيت أسرتي لحضور حفل زفاف في بورسعيد .. وسافرنا إلى هناك وفي الساعه السابعة من صباح اليوم التالي جاء إلى الفندق الذي نقيم فيه شاب وطلب مقابلة أبي على عجل لأنه سيسافر إلى القاهرة فقابله أبي ففوجئ به يطلب يدي منه ويقول أنه رآني في الفرح وأعجب بي..
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
هناك
حكمة أسيويه قديمة تقول أن من يفعل ما
ينبغي له أن يفعله .. ينل دائما ما يأمله !
ولقد
علمتنا الأحزان وتجارب الفشل والنجاح أن أحدا لم يحقق أهدافه أبدا وهو مستسلم
لأهوائه تاركا لها قياد نفسه وهو مستكين لعجزه ويأسه وراحته وسلامته وإنما يحققها
دائما القادرون على مغالبة النفس وحملها على أن تفعل ما يليق بها وليس ما تميل
إليه وهي الأمارة بالسوء أحيانا, والقادرون على أن يبذلوا العرق والدموع لتحقيق ما يرونه
جديرا بهم.
وأنت
قد وعيت هذا الدرس جيدا من تجارب الفشل التي عشتها ودفعت ثمنها راضية وعرفت أن
الحياة إرادة وأن الإنسان هو ما يفعله وليس ما يريده بغير أن يقرن الأمل بالعمل
والمعاناة فصارعت ضعفك وغيرت من نفسك وألزمتها بكل ما يليق بها من سلوك وقيم ,
فاستحققت جائزة الحياة التي تهبها أحيانا لمن ينتصر على نفسه ويلتزم بقيم دينه .. ويخفق
قلبه دائما بالأمل الإيجابي في عدالة السماء.
وهكذا
ينبغي علينا أن نفعل دائما في مواجهة كل فشل يعترض طريقنا فإن فزنا بالجائزة سعدنا
وشكرنا.. وإن ضنت بها الأقدار علينا فزنا بإحترامنا لأنفسنا لأننا نلنا شرف المحاولة
وشاركنا بكل ما نملك من جهد في مباراة الحياة ولم نقصر في حق أنفسنا ولهثنا على
طريق أهدافنا..لكن الحظ شاء .
إن
خسارة معركة أو بعض معارك الحياة فعلا يا سيدتي ليست نهاية المطاف وسعي الإنسان
للإلتحام بنصفه الآخر الذي عناه الرحمن بقوله "ومن آياته أن خلق لكم من
أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها" , قد يضل فيه الإنسان الطريق أحيانا فيلتحم
بالنصف الخطأ.. ويتكبد الآلام والمعاناة ويدفع الثمن راضيا لكنه قد يستمر في
التنقيب عنه بدأب الحفار الذي يفتش في باطن الأرض عن البترول ..حتى تجود الأقدار
على الإنسان بنصفه الحقيقي فيسكن إليه ويحس صادقا أن الحياة قد بدأت معه وأن كل ما
مر به من تجارب وآلام إنما كانت ضريبة السعي إلى النصف الصحيح والبحث عنه .
والمساء
يا سيدتي يأتي حاملا معه مصباحه أي القمر ليضئ لنا الظلام ومصباح الحياة الذي يبدد
ظلام اليأس هو دائما الثقة بالله وبأنفسنا والإيمان بعدالة السماء وبحقنا في
السعادة وبواجبنا في السعي إليها بالعرق والدموع وبالطرق المشروعه التي تتوافق مع
قيمنا الدينيه والخلقية .
ولقد
جاء مصباحك في موعده فهنيئا لك به ودعائي لك بأن يتم الله عليك نعمته وأن يحفظ
عليك أسرتك وسعادتك..وشكرا لك على هذه الرسالة.
رابط رسالة الاصبع الخالية تعقيبا على هذه الرسالة
· نشرت في جريدة الأهرام
"باب بريد الجمعة" عام 1989
كتابة النص
من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر