الزائر الثالث .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994
في البداية أود أن أعرفك بنفسي .. فأنا زوجة وأم لي طفلان أكبرهما عمره 10 سنوات وأصغرهما 4 سنوات , وأنا دكتورة بالجامعة , وأبي ذو علم غزير وعمره فوق الثمانين وخريج جامعي في الأربعينات وقد أعطانا من علمه وخبرته بالحياة الكثير ولديه مكتبة بها كتب نادرة في جميع المجالات وأنا أمهد لمشكلتي بهذه السطور لأنك سوف تقول لنفسك عقب قراءتك لمشكلتي أنه مؤكد أن كاتبتها "بائعة فجل" وليست دكتورة في الجامعة لذلك فلقد كان ضروريا أن أمهد لك بهذه المقدمة لكي تصدقني فيما أقول لك عن معاناتي مع مشكلتي التي أعيشها الآن وأنا شبه ميتة نفسيا ومعنويا واجتماعيا .
والمشكلة هي أنه ذات يوم حضرت إلى مكان عملي الحالي في إحدى الدول العربية عاملة هندية الجنسية لا تتكلم الانجليزية ولا العربية ونتعامل معها بلغة الإشارة وبعض الكلمات العربية المحرفة .. وذات يوم قرأت لي ولزميلاتي الكف .. وبمجرد أن نظرت إلى كفي قالت لي : سوف تبكين كثيرا , وراحت تردد كلمة : بابو .. بابو .. بابو .. فانقبض قلبي لأن كلمة "بابو" في الهندية معناها "ابن" وعرضت عليها صورة الطفلين فأشارت إلى صورة الصغير منهما وبكت وقالت لي "بالإشارة" أيضا أنه سوف يموت !" .. وأشارت إلى الكبير وقالت بالإشارة أنه سوف يأكل ويكبر ويصبح له شنب!
والمشكلة أنه منذ اليوم الأغبر الذي قرأت لي فيه هذه العاملة الهندية كفي وأنا أموت بطيئا كل يوم .. ففي كل دقيقة أنظر إلى طفلي الصغير بانقباض وتشاؤم وأفسر كل شكوى عابرة له وأي شئ يصيبه كالمغص أو الصداع .. أو أي وجع خفيف بأنه نذير بقرب وفاته .. وأرقب كل حركاته بقلب حزين مكتئب .. وأمسك يده في يدي وأنا أؤدي عمل البيت وأنتقل من غرفة إلى غرفة كأني لا أريد أن أفتقده لحظة واحدة من لحظات أيامه معي ولا أعاتبه إذا ارتكب خطأ .. وبالأمس نظرت إلى وجهي في المرآة فهالني أني كبرت خلال 10 أيام فقط عدة سنوات.
إنني أكاد أجن .. والكارثة أنني سيدة مؤمنة ومثقفة ثقافة دينية وعصرية وأستطيع أنا نفسي لو كانت إحدى صديقاتي هي التي تعرضت لهذه المشكلة واستشارتني فيها أن أرد عليها استنادا لثقافتي الدينية ردا يملأ صفحات كتاب صغير ويرفض هذه النبؤة ويسخر منها .. لكن المشكلة هي أنني لا أقتنع بكلامي هذا نفسه والمشكلة تمسني أنا شخصيا .. كما أني لن أقنع بكلام أبي واخوتي وزميلاتي لو عرضتها عليهم .. ومن ناحية أخرى فإني أجد نفسي أقتنع بكلامك الذي أقرأه لك بانتظام بدون تفكير لأن نفسيتي ربما تكون مبرمجة على الاقتناع بآرائك , فبحق لا إله إلا الله أناشدك ألا تهمل رسالتي هذه وأن ترد عليها بما يقنع عقلي ويطمئن قلبي ويرحمني من هذا العذاب .
جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
abdelwahabmetawe.blogspot.com
ولـــكـــاتــبــة هـــذه الـــرســـالــة أقـــول :
أنت تعرفين جيدا كل ما أريد أن أقوله لك عن استحالة أن يعلم أحد ما سوف تحمله لنا الأيام إلا الله سبحانه وتعالى الذي اختص ذاته العلية وحدها بعلم الغيب , فهو القائل عن نفسه في التنزيل الحكيم :"وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو " (الأنعام 59) , والقائل عن ذاته أيضا أنه "عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا" (الجن26) , كما تعرفين بالتأكيد الأحاديث الخمسة الصحاح التي تؤكد ذلك ومنها الحديث الذي يقول :"من أتى كاهنا فصدقة فقد برئ مما أنزل الله على محمد ومن أتاه غير مصدق لم تقبل له صلاة أربعين ليلة", والمقصود بكلمة الكاهن هنا هو كل من يدعي العلم بالغيب أيا كانت وسيلته في هذا الإدعاء من فنون التنجيم وقراءة الكف والبخت والفنجان .. إلخ
ولأنك تعرفين كل ذلك وتسلمين معنا بأن الاعتقاد بأن هناك من يعلم الغيب علما يقينا شاملا غير الله يعد كفرا بما جاء في التنزيل الحكيم بهذا الشأن فلن أكرره عليك ولن أطيل عليك في حديث "العقل" لأن مشكلتك ليست معه وإنما مع القلب والشعور والاحساس التي لا تخضع غالبا لأحكام العقل .. فالمؤكد أنك لعلمك وإيمانك وثقافتك لا تصدقين ما قالته لك هذه الهندية الجاهلة بأمر غدها لكنك قد تشاءمت منه وأكتأبت له .. ولست ألومك على ذلك كثيرا لأن الإنسان .. ومهما ارتفع مستواه الثقافي لا يستطيع في بعض الأحيان أن يحجب عن نفسه بعض المؤثرات النفسية مهما كانت أسبابها غير عقلانية لأن الإنسان في النهاية ليس عقلا صرفا وإنما عقل وقلب وأحاسيس وشعور , ونحن نكتئب ونتشاءم بقلوبنا وليس بعقولنا .. وقد روي أحد حكماء الصين قصة قديمة أن أسرة صينية رزقت بولد فجاء جيرانها يهنئونها بمولده فجاء الزائر الأول ونظر إلى الطفل وقال : هذا الغلام سيصبح قائدا كبيرا , فسرت الأسرة كثيرا "بنبؤته" وأكرمت وفادته , وجاء الزائر الثاني ونظر إلى الطفل ثم قال : هذا الغلام سيصبح حاكما للإقليم ذات يوم , فطربت الأسرة لحديثه وأجزلت له العطاء , ثم جاء الزائر الثالث ونظر للطفل ثم قال : هذا الطفل سيموت ! فاكتأب أفراد الأسرة وغضبوا وثاروا عليه وطردوه شر طردة .
وعلق الحكيم على هذه القصة بأن الزائرين الأولين قد لقيا نبوءتهما للطفل غير يقينية وربما كان أيضا غير عقلانية وأن الزائر الثالث قد أهين وطرد مع أنه الوحيد الذ تنبأ للطفل "بحقيقة" يقينية مؤكدة هي أنه سوف يموت ذات يوم بعد أن يستوفي أجله أي بعد سبعين أو ثمانين عاما.
ولا غرابة في ذلك فهو يستحق في رأيى الطرد والاهانة رغم صدقه اللعين لأن النفس تجفل من تخيل فراقها لأعزائها , وتنفر ممن لا يترفق بمشاعرها وضعفها بهذا الشأن كما أن المقام ليس ملائما للإشارة إلى هذه الحقيقة والأسرة في موضع الاستبشار والتفاؤل.
وما قالته لك هذه الهندية الجاهلة لا يختلف في وقعه عليك عما قاله هذا الزائر الجلف للأسرة الصينية .. فلم تستطيعي رغم علمك وثقافتك ويقينك من أنها لا تعلم الغيب أن تحجبي آثاره السلبية على نفسيتك ومشاعرك . وهذا هو الإنسان الضعيف الذي تستطيع أحيانا كلمة أو إشارة جافة أو غير مناسبة للمقام أن تفسد عليه سلامه النفسي وأوقاته . ولهذا قال لنا معلم البشرية الذي لم يدرس علم النفس الجسمي قبل وليم جيمس ب 14 قرنا :"بشروا ولا تنفروا" ونهانا عن التطير والتشاؤم حتى لا يفسدا علينا حياتنا ويسلمانا إلى الهواجس والأفكار السوداء التي تنتهي بنا إلى الاكتئاب والخوف المرضي .. وأمراض الجسم وربما العقل أيضا.
فيا سيدتي انسي هذا الهراء كله واستعيدي أمانك وثقتك بربك "فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين" .. وهو عالم الغيب وحده الذي لا يظهر على غيبه أحدا .. "إلا من ارتضى من رسول" (الجن 27) فإنه يظهره على ما يشاء من ذلك .. وهذه الهندية التي أفزعتك لا تدري ماذا سيجري لها غدا .. فكيف يكون لها أو لغيرها علم ببعض ذلك .
وبالمناسبة فإن كلمة "بابو" في اللغة الهندية لا تعني الابن كما فهمت خطأ من اشاراتها , وإنما تعني "الأب" وقد كان الشعب الهندي يطلقها على زعيمه الروحي المهاتما غاندي بإعتباره أبا للشعب . أما كلمة الابن أو الطفل فهى في الهندية "شيكو" فيما أظن وليست "بابو" بأى حال من الأحوال .. مع تأكيدي لك من جديد أن هذه المعلومة لا تعني شيئا على الإطلاق فيما يتعلق بنبؤات هذه الهندية المدعية .
رابط رسالة النبوءة الصادقة وهي تعقيب احدى القارئات على هذه الرسالة
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" فبراير 1994
كتابة النص من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر