الاصبع الخالية .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989
قرأت
رسالة " الجائزة " التي روت فيها سيدة قصتها مع الفشل مرتين في الزواج
وكيف غيرت من نفسها وأنقصت وزنها ثلاثين كيلو جراما وأقلعت عن عاداتها السابقة
فنالت احترام مجتمعها ثم جاءت إليها " جائزتها " وتزوجت زواجا موفقا وأصبحت
موضع فخر أبويها بعد أن كانت موضع انتقادهما..
وقد
تأثرت كثيرا بهذه الرسالة فدفعتني لأن أروي لك قصتي , فلقد نشأت في أسرة صغيرة ولي
شقيق واحد .. ولاحظت في طفولتي أن أبوي يدللاننا لأنهما تزوجا على كبر , كما
لاحظت أنهما يركزان في تربيتنا على أن ننشأ متفوقين دراسيا وأن نتعلم المُثُل والقيم
الأخلاقية , وفعلا كنت دائما من المتفوقين ونلت الكثير من حنان أبي وأمي .. وسمعت
مرارا من أمي أن أهم شيء في الحياة هو التفوق في الدراسة فركزت كل اهتمامي بها ولم
أعط أي اهتمام لمظهري فكنت دائما أرتدي " البنطلون " وأجمع شعري الطويل
إلى الخلف .. وكان التفوق حليفي دائماً وكنت مثار غيرة
زميلاتي وصديقاتي وتجنبنني فلم تعد لي صديقات ..وظللت كذلك حتى التحقت بكلية الطب ..فاكتشفت
فيها أن التفوق ليس نقيضا للاهتمام بالمظهر ولاحتفاظ الفتاة بشخصيتها كأنثى فقد
وجدت في الكلية من هن أكثر مني تفوقا ومع ذلك يحس الإنسان حين يراهن أنه أمام
فتيات .. فبدأت لأول مرة أحاول الاهتمام بمظهري وبدأت أسمع لأول مرة في
حياتي كلمات الثناء من الجنس الآخر على جمالي وقد نسيت أن أقول لك أنني جميلة .. لكن
أبي وأمي لم يكونا يعيران هذا الجانب أي اهتمام .
وفي
إحدى حفلات الزفاف تقدم لي شاب يخطبني فسمِعْتُ أمي ترفض المبدأ ..وتقول إنني لن
أتزوج قبل أن أُنهي دراستي , وتُعيد تأكيد رأيها في أن التفوق في الدراسة هو أهم
شيء بالنسبة للفتاة ولم أهتم بذلك وإن كنت قد لاحظتُ عكس ذلك في بيوت صديقاتي .
فلقد
كنت أرى أن هم كل أم فيها هو أن تتزوج ابنتها وتُوجه جهدها وعلاقاتها الاجتماعية
لهذا الهدف.
ومضت
سنوات الدراسة عادية حتى توفي أبي فجأة وأنا أؤدي امتحانات السنة الثالثة ..فصدِمت
صدمة قوية وأكملت امتحاناتي وأنا أرتدي السواد وساعدتني أمي كثيرا على تخطي هذه
المحنة ..ثم اشتد المرض على أمي وأحسست بدنو أجلها فبدأت تصرّح لي بأنها تتمنى أن
تراني في بيت الزوجية قبل أن تموت ..
وكنت
أسمع منها هذا الحديث لأول مرة في حياتي فسعدت به سعادة بالغة ..وحين تقدم لي عريس
بعد ذلك بأسابيع رحبت به أمي وقرأنا الفاتحة ..لكني اكتشفت قبل موعد الخطبة بيوم
واحد أنه قد سبق له الزواج وله طفلة ..ولم تهتم أمي بهذه الحقيقة كثيرا ..وأدركت
أزمتها كأم مريضة تريد أن تطمئن على ابنتها بأي شكل لكني أصررت على رفضه وأيدني
شقيقي في ذلك ..
وبعد
ذلك بثلاثة شهور تقدم لي شاب آخر ووافقت عليه ..ثم ساءت حالة أمي الصحية ورحلت عن
الدنيا ووجدت نفسي وحيدة مع شقيقي ..وكثرت تدخلات الأهل في حياتنا ووجدت كثيرين
يقولون لي أن خطيبي ليس مناسبا لي ..وتأثرت بأحاديثهم وفسخنا الخطبة ومر عام دراسي
آخر وتخرج أخي الذي يكبرني بسنة واحدة ويسبقني في نفس الكلية بعام دراسي وبدأ
يستعد للزواج وفي هذه الأثناء تقدم لي شاب ثالث كان زميلا لي بالكلية ووافقت عليه
بيني وبين نفسي " مؤقتا " حتى لا أحضر حفل زفاف أخي وإصبعي خالية من
الدبلة ..لأني لا أريد أن أرى نظرة إشفاق في عين أحد , وحضرت زفاف أخي ومعي خطيبي ..وأذعت
في هذا الحفل أن زفافي قريب جدا ..
لكني بعد أسبوع واحد من
هذا الحفل كنت قد فسخت هذه الخطبة وعشت حياتي وحيدة في شقة الأسرة التي شهدت
طفولتي السعيدة .. ولحظات وداع الأبوين المريرة .
وأنجب أخي طفلا وأنا مازلت في وحدتي مصرة على عدم الإقدام على أي تجربة ارتباط أو زواج لأن الفشل يجيء من جانبي دائما ..لكن الضغط علي ازداد أن أتزوج وتقدم لي عريس بدا أنه مناسب لي فوافقت عليه واشترط الجميع علي بأن أعقد القران بدلا من الاكتفاء بالخطبة حتى أتريث طويلا قبل أن أفكر في فض الارتباط وتم عقد القران لكني سرعان ما اكتشفت أنه سطحي جدا وسلبي جدا وشخصيته ضعيفة جدا ولا يعتمد عليه فانفصلت عنه بعد 4 شهور من القران وقبل الزفاف .
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
لم
يسيء إليك أبواك بغرس حب التفوق الدراسي فيك بل أحسنا إليك به لكن آثار هذا التفوق
على شخصيتك أنت هي المشكلة ذلك أن آفة بعض المتفوقين دراسيا هي الغرور واعتقادهم
الباطني بأنهم يستحقون دائما جوائز الحياة كما استحقوا من قبل المقدمة في سباق
الدراسة والمشكلة هي أن اختبار الحياة أشد صعوبة من اختبارات الدراسة ووسائل
النجاح فيه مختلفة تماما ..
وفي مقدمتها ألا تكون
مطالب الإنسان من الحياة مغاليا فيها وألا يكون إحساسه بالتميز على الآخرين عاليا
وأن يكون على استعداد لأن يعترف للآخرين بمزاياهم فلا ينظر إليهم من عل ولا يرى
الجميع سطحيين وتافهين ولا يُعتمد عليهم ..وأيضا أن يكون على استعداد لأن يرى
الجوانب الخيّرة في الآخرين فلا يتصور دائما أنهم طامعون فيه أو راغبون في افتراسه
..لأن هذا الإحساس نفسه انعكاس للمغالاة في تقدير الذات.
فتخلصي
من مغالاتك في تقديرك لنفسك والإيمان بمزاياها ..تتفتح أمامك أبواب التواصل مع
الدنيا ويطرق باب قلبك من يستحقك ومن تستحقينه ولن يتحقق ذلك إلا إذا تخلصت أيضا "وعفوا
لهذا التعبير" من أنانيتك التي سوغت لك من قبل أن تقبلي خطبة إنسان لمجرد ألا
تظهر إصبعك خالية من دبلة الخطبة في حفل زفاف شقيقك , فظلمت بذلك إنسانا لم يرد بك
إلا خيرا ولحسابات خاصة بك أنت لا دخل له فيها ..وما هكذا يتصرف من يستهدون في
حياتهم بروح العدل .
وما
هكذا يلوم الإنسان أبويه على خير أراداه له ..فحوّله هو بتصرفه وجرأته على اتخاذ
القرار المتسرع إلى شر يدفع ثمنه ومع ذلك فلم يفت الأوان بعد لتصحيح الأخطاء ولتكن
بدايتك للتوائم مع الحياة هو أن تعرفي أن سباق الدراسة قد انتهى ..وأنك الآن في
مواجهة اختبار جديد يتطلب من المرء أن يكون أكثر تواضعا وأكثر إنصافا للآخرين ..وأكثر
فهما لهم , فإن تسلحت للاختبار بهذا الفهم الجديد اجتزته بنجاح وجاءت إليك جوائز
الحياة تسعى .
أما نداؤك الأخير فله أهميته وهو يذكرنا دائما بفضيلة الاعتدال في تحديد الأولويات والأهداف التي ينبغي أن يسعى إليها الإنسان فالتفوق في الدراسة غاية مشروعة وقيمة كبرى بغير شك لكنه لا يجوز له أن يلغي إعداد الفتاة نفسيا واجتماعيا للزواج الذي تستقيم به طبيعة الحياة.
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر