الأنغام الحزينة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

 

الأنغام الحزينة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

الأنغام الحزينة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989


أنا طالبة بكلية نظرية بإحدى الجامعات الإقليمية .. منذ ست سنوات تسلل الحزن إلى حياتنا واستقرت أنغامه في نفوسنا حتى أصبح رفيقا مقيما منذ بدا المرض يشتد على أمي الحبيبة .. وحتى شاء الله للقلب المعذب أن يهدأ ويستريح .. فرحلت عن عالمنا بعد أن تعذبت عذابا أليما بمرض لعين .. ولم يشهد اللحظة الحزينة أبي الذي يعمل في الخارج ويكافح من أجل توفير أسباب الحياة لنا ، ولا شقيقي الأكبر الذي كان يكمل السنة النهائية من دراسته في القاهرة .. فتجرعنا مرارة الرحيل وحدنا .. وسلمنا بقضاء الله وقدره .

وكانت أمي قبل رحيلها بأربعة أعوام قد وضعت آخر مولود لها .. فأصبحت أنا في غياب شقيقي وشقيقتي اللذين يدرسان في القاهرة ربة الأسرة المسئولة عن البيت وعن اخوي الصغيرين ورفضت بإصرار أن يبقى أحد من الأقارب معنا تجنبا للمشاكل .. وتحملت مسئوليتي راضية .. فأقوم على شئون البيت وشئون اخوي واخصهما بحبي ورعايتي لأنهما محرومان من حنان الأم .. وبعد فترة قصيرة من رحيل أمي فوجئت بشقيقي الأصغر يمرض بنفس المرض اللعين فحملته مع أختي إلى القاهرة لإجراء جراحة خطيرة له .. وتمت الجراحة لكن الجراح الكبير لم يزل الداء خوفا على حياته وطلب منا علاجه بالإشعاع، وكنت في هذه الفترة أؤدي امتحاناتی فاستجمعت إرادتي وحملته إلى مركز العلاج .. ووفقني الله في إجراء العلاج المطلوب وأداء امتحاناتي في نفس الوقت ، واستقرت حالته نسبيا وهدأت آلامه .. وعرفت الراحة طريقها إلى قلوبنا لأول مرة حين قال لنا الأطباء أن الداء قد ضمر وأنه سيستريح من آلامه لكنه لم تمض ثلاثة شهور فقط على ذلك حتى عاودته الآلام الرهيبة .. وبدأنا رحلة العذاب مرة أخرى.

 

 وفي وسط هذه الظروف القاسية .. شاء البعض أن يزيدوا من آلامنا فرفض والد خطيب شقيقتی إتمام زواجها من ابنه .. بعد خطبة استمرت سنوات خوفا من أن ينتقل المرض إلى أحفاده وبدعوى أن المرض وراثي في الأسرة مع أن هذا المرض يمكن أن يصيب أي إنسان في أي مرحلة من العمر وبدون أسباب واضحة .. لكن هكذا شاء البعض أن يعذبنا بهذا الكلام القاسي حتى تخيلت أن الناس سوف ينفضون من حولنا .. وإنني لن أتزوج في يوم من الأيام .

والآن يا سيدي فلقد أنهى آخى الأكبر دراسته وعاد ليستقر معنا ورفض أن يعمل حتى لا يدعنا وحدنا في هذه الظروف لكني مازلت اعتبر نفسي المسئولة عن أخي الصغير وأصر على أن أتولى كل شئونه .. وبسبب هذه المسئولية أجد نفسي في حاجة إلى من أستشيره من خارج دائرة أسرتي لأننا أخفينا عن أبي حقيقة مرض شقيقي حتى لا يتعذب به في غربته ، فقد طلب منا الأطباء أن نجري لشقيقي فحوصا جديدة تبدأ بعدها معالجته بالعلاج الكيماوي وأنا الآن أجري له هذه الفحوص .



 

ولكاتبة هذه الرسالة المؤلمة أقول :

إنك يا آنستي تطرحين نفس التساؤل المؤلم الذي أثار جدلا طويلا حوله من قبل وانتهى الرأي فيه إلى إدانة التقاعس عن علاج المريض بدعوى أنه ميئوس من شفائه .. أو بدعوى أن العلاج أشد قسوة من المرض، كما انتهى أيضا إلى إدانة ما عرف بعد ذلك باسم القتل من أجل الرحمة، والى اعتباره جريمة قتل تستوجب عقاب مرتكبها حتى ولو توسل إليه المريض مطالبا کی ينهى عذابه ويستريح من آلامه .

وهذا هو الرأي السليم .. لأنه لا يعرف الغيب إلا الله وحده ولا يستطيع بشر مهما أوتي من العلم أن يصدر قراراً بإنهاء حياة إنسان بدعوى أن النهاية محتومة وعلينا دائما أن نلتمس وسائل العلاج مهما كان الأمل ضعيفا وإلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولاً .. أما الآجال فهي مقدرة على البشر من قبل أن يخلقهم الله ولا يؤخر منها دواء .. ولا يعجل بها داء .. لهذا حين سأل بعض الصحابة الرسول الكريم  أرأيت أشياء نتداوى بها .. هل ترد من قضاء الله ؟ كان جوابه الحكيم : هي من قدر الله ، ولهذا قال أيضا ما معناه : . تداووا فإن الله لم يخلق داء إلا وخلق له الدواء ، ورجع عمر بن الخطاب عن دخول قرية حين علم بظهور الطاعون فيها وأمر أصحابه بالعودة وعندما سأله احدهم معاتبا : وهل نفر من قضاء الله ؟، أجابه مطمئنا : نعم نفر من قضاء الله .. إلى قدر الله ! .

فاتقاء المرض والعلاج منه واجبان شرعا مهما كانت درجة الأمل في الشفاء ومهما كانت آلام العلاج قاسية لأن الرجاء في الله أكبر دائما .. ولأنها مسئوليتنا عن هبة الحياة التي وهبها الله لنا .

وللمفكر الإسلامي الجليل الأستاذ خالد محمد خالد رأى جميل في هذا الصدد يرى فيه أنه إذا أهمل القادر على العلاج .. علاج نفسه عامدا كان له في ذلك من وزر المنتحر نصيب ! أي أن إهمال العلاج عن عمد يقترب بالإنسان من شبهة الانتحار ومن أوزاره .

ولما كان شقيقك الصغير ليس مسئولاً عن نفسه .. فإن إهمالك لعلاجه عمدا ينقل إليك هذا الوزر ويحملك المسئولية عنه أمام  الله وأنت التي لا تريدين في أعماقك سوى الرحمة به .. لكن النيات الطيبة وحدها لا تعفي الإنسان من اللوم ولا من الحساب فأقدمي على العلاج مطمئنة اعانك الله عليه وعلى ظروفك القاسية وخفف من وطأته على شقيقك البرىء .. وجعل به له ولكم من محنتكم مخرجا وأعاد به أنغام السعادة إلى قلوبكم .. إنه على كل شيء قدير .

رابط رسالة أنغام الحياة تعقيبا على هذه الرسالة

رابط رسالة أنغام الأمل تعقيبا على هذه الرسالة

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1989

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات