أمواج الحياة 1 .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988
أما الرسالة الأولى فمن فتاة كتبت إلي تقول :
أهاجت رسالة عيد الميلاد أحزاني
فقد كنت أعيش مع أبي وأمي وأشقائي وشقيقاتي وكانت الشقة التى نقيم فيها تضيق بنا ..
فنحن خمس بنات وثلاثة أولاد نملأ الدنيا ضجيجا وصخبا وصياحا وضحكا وبكاء وصراخا
ولعبا طوال النهار وحتى منتصف الليل, ونحن نتسابق إلى مائدة الطعام .. ونتخاطف
أرغفة الخبز وأكواب الشاي في مرح, وحين نجلس لأداء واجباتنا المدرسية ننتشر فى كل
مكان فيجلس بعضنا فوق المائدة وبعضنا فوق الكنبة والبعض على الأرض كأننا فصل دراسي
لا ينقصه سوى المدرس والسبورة .. وكنا نشتري الخبز مرتين كل يوم لكي نلاحق
استهلاكنا منه مرة فى الصباح المبكر للافطار والغذاء ومرة قبيل الغروب للعشاء.
وكان مشوار شراء الخبز من نصيبي غالبا لأني كنت
فى السابعة من عمري وكانت شقيقتاي الكبريان تأنفان من التزاحم وسط الرجال على باب
الفرن وكان أشقائي الأكبر مني يهربون من هذه المهمة الثقيلة أما الأصغر مني فكانوا
يعجزون عن أدائها لهذا أصبح شراؤه مهمتي وحدي.
وذات يوم خرجت بعد الغروب متأخرة عن موعدي الطبيعي
بعض الشئ لأشتري الخبز فتسلل ورائي شقيقي الصغير ذو السنوات الثلاث فى غفلة من أبي
وأمي ليلعب قليلا فى الحارة قبل أن يضبطه أحد أو حتى أعود أنا من مشوار الفرن
فأعيده إلى البيت رغما عنه.. وطال انتظاري يومها للخبز حتى استطعت أخيرا أن أصل
وسط الزحام إلى البائع واشتري الأرغفة المقررة وعدت إلى البيت القديم الذى نسكنه
والذى غادرته منذ نصف ساعة فقط فلم أجد فى موقعة سوى كومة من التراب..!
ووجدت نفسى وأنا فى السابعة من
عمري مقطوعة من شجرة ليس لي في الدنيا سوى شقيق ابن السنوات الثلاث, وضمتنا إليها"خالتي"
وانتقلنا للإقامة معها في شقتها ولم تكن "خالتي" هذه شقيقة أمي وإنما
صديقة لها ضمتنا إليها بتلقائية كأنها مسئولة عنا.. وبغير انتظار لأن يطلب منها
أحد ذلك وكانت تعيش وحيدة بالقرب من بيتنا المنهار, ولم يكن لنا دخل نعيش به بعد
رحيل أسرتنا فكنت أخرج من المدرسة ظهرا لأعمل "كناسة" فى عمارات كثيرة
أكنس سلالمها كل يوم مقابل بضعة قروش من كل شقة.. وحين تكون الدراسة فى فترة الظهر
أصحو فى الفجر وأذهب إلى العمل فى العمارات حتى الظهر ثم أذهب إلى المدرسة واستمر
الحال على ذلك حتى وصلت إلى الصف الثانى الثانوى.
ثم فجأة توفيت السيدة الطيبة
التى احتضنتنا وآوتنا وكانت لنا أما ثانية بعد أمنا الراحلة بالرغم من أنه لا
تربطها بنا صلة الدم , بل وأورثتنا هذه السيدة الطيبة عليها رحمة الله مائة جنيه
كانت كل ما معها وأعطتها لي في لحظاتها الأخيرة, وبعد فترة قصيرة من وفاتها بدأ صاحب
البيت يطالبنا بترك الشقة لأننا لسنا من ورثة المستأجرة ولا تربطنا بها صلة وبدأ
يهددنا ويستخدم معنا كل الطرق غير المشروعة لأرغامنا على الرحيل وقال لنا بعض
الجيران أن من حقنا البقاء فيها لأننا أقمنا فيها فترة طويلة لكني قلت لنفسي: أنني
فتاة ضعيفة فقيرة ولن أستطيع أن أقف أمام صاحب البيت فسلمت أمري لله واصطحبت شقيقي
وقررت الهجرة إلى الإسكندرية.
أما لماذا الإسكندرية بالذات فلا أعرف إلا أن هذا هو ما هداني إليه تفكيري وأنا في السابعة عشرة من عمري وفى رقبتي شقيق عمره 13 سنة .. فقد هيأ لي عقلي أن إمكانية الحصول على سكن فيها أقل صعوبة من القاهرة, فركبنا القطار إليها وفى ايدينا "دوسيه" أوراقنا المدرسية وكأن الله يا سيدي قد شاء ألا يضيعنا .. فبعد أيام من الإقامة فى فندق متواضع رخيص وبمعجزة إلهية لا تفسير لها سوى أنها إرادة الله ولا شئ غير ذلك عثرت بعد عدة جولات وبالمبلغ الذى كان معي على شقة من غرفتين فى حي شعبي.
ولــكــاتـبة هـذه الرسـالـة أقـول:
إنني أنحني أمام شجاعتك وصلابتك
وصمودك أمام شدائد الحياة وأقدم"ملحمتك" هذه لصديقي الشاب الوحيد ليستمد
منها القدرة على مغالبة أحزانه, وليرى فيها بصيصا من الأمل فى غد أفضل من الحاضر
وجراحه وآلامه .. فها هي فتاة صغيرة وحيدة امتحنتها الدنيا بمثل ما امتحنته به
فصمدت لأمواج الحياة العاتية وهي فى سن الطفولة اللاهية حتى كادت تصل بسفينتها إلى
بر الأمان وسوف تصل إليه بعون من الله وفضله لأن إرادة الإنسان أقوى دائما من كل
ما يواجهه من صعاب وروحه أقوى عشرات المرات من عضلاته المشدودة .. وهو يتعلم كيف
يغالب الأمواج إذا ألقت به العواصف فجأة إلى اليم, فيسبح بعد أن لم يكن يحسن
السباحة ويستجمع كل قواه ليزحف بكل إرادة الحياة إلى صخرة النجاة.. وهكذا فعلت يا
صديقتي .. وهكذا سوف يفعل بكل تأكيد وبتأييد من الله وعونه صديقي الشاب الوحيد.
فلتكن رسالتك هذه بلسما لجراحه
ولجراح كل مهموم يغالب أقداره, وأرجو أن ترق لك الدنيا بعد هذا الكفاح المجيد وأن
يحقق الله لك ولشقيقك آمالكما فى حياة آمنة كريمة بإذن الله.
وآه لو تكتبين إلي بإسمك وعنوانك عسى أن تسعد الظروف بريد الأهرام بأن يسهم فى تخفيف بعض آلام الحياة عنكما إذ من أحق بذلك منكما ..ومن أحق بالإعجاب , والتشجيع أكثر منك أنت أيتها الشجاعة المكافحة!
أما الرسالة الأخرى فمن قارئ كتب إلي يقول:
ما أن قرأت رسالة عيد الميلاد
حتى وجدت نفسي أمسك بالقلم لأصرخ على الورق وأقول له أسمع يا بني قصتي لعلك تجد
فيها ما يهدئ أحزانك.
فمنذ سنوات استأجرت نقابة المهن
الزراعية باخرة نيلية لتقوم برحلة لأعضائها إلى القناطر الخيرية لقضاء يوم شم
النسيم .. وكان أبي يعمل بالسكرتارية الفنية لوزير الزراعه وقتها فاشترى لأفراد
العائلة كلهم تذاكر الرحلة, وركبنا جميعا المركب النيلية التى اتجهت إلى القناطر
وفوقها المهندسون الزراعيون وأسرهم, وعلى ظهرها يقوم بعض الفنانين بتقديم الأغاني والفكاهات والجميع سعداء يهللون ويصفقون وكنت
أجلس بين أبي وأمي وشقيقاتي ماجدة ومنى ومديحة نسمع فكاهات الفنانين ونضحك ونهلل ,
وكان يلاصق المركب النيلية "رفاص" بحري يساعد ماكينتها الضعيفة على
السير فى النهر.. فخطر لي أن أتفرج عليه فانتقت إليه وكان البحارة يعرفون أبي
فسمحوا لي بالبقاء ومشاهدة الدفة التى تتحكم فى اتجاهه.. ولم ينتبه أبي لغيابي
ولعله تنبه له ثم رآني فوق الرفاص فإطمأن , واقتربت الساعة من الحادية عشرة صباحا
وأوشكت الباخرة على الوصول إلى القناطر الخيرية واستعد الركاب للنزول فتدافعوا إلى
الناحية المطلة على الشاطئ فاختل توازن الباخرة ومالت بجانبها المثقل ثم بدأت تغرق
وغابت فى قاع النهر حتى لم يعد يظهر منها سوى السارية.
وغرق العشرات فى حادث شهير شغل
مصر كلها وأحزنها طويلا وعرف بإسم كارثة الباخرة "دندرة" منذ 29 عاما ..
أما أنا فقد فقدت أسرتي كلها فيه وكنت طالبا بالسنة الأولى الثانوية , فتركت الشقة
التي كنت أعيش فيها مع أسرتي في الدقي وانتقلت للإقامة مع جدي لأبي وامتثلت لقدري
رغم قسوة الآلام وواصلت الدراسة حتى التحقت بكلية التجارة وتخرجت منها وحصلت على
دبلوم الدراسات العليا وتزوجت وانجبت أربعة أبناء وصل أكبرهم الآن إلى كلية
الهندسة وهكذا تمضي الحياة, فالله عز وجل يشمل اليتيم برعايته التى تعلو على رعاية
الأب والأم ويسدد خطاه رغم العقبات والصعاب ورغم افتقاد الحنان والعاطفة والجو
الأسري لأن العناية الالهية أشمل وأعم من كل عناية.. لهذا أرجو أن تطمئن قلب هذا
الشاب وأن تنصحه بعدم التفكير في الهجرة وبأن يكرس كل طاقته لتحقيق آمال أبويه فيه
وبأن يثق فى أن الله سوف يرعاه ويوفقه ولن يخذله أبدا.
*********
وأنقل رسالة هذا القارئ الفاضل
إلى صديقي الشاب وأرجو أن تأسو مع الرسالة الأخرى جراحه, وأن يجد فيهما بعض السلوى
وبعض العزاء.. وهكذا الدنيا يا سيدي جريح يلتمس العزاء لدى جريح .. فيجد كل إنسان
لدى الآخر ما يعوضه, أو يعينه على الصمود لعواصف الدنيا..
ولا يتسع المجال بعد ذلك لسرد
كل ما تلقيته من رسائل تشد أزر كاتب رسالة عيد الميلاد, أو ما تلقيته من رسائل يطلب أصحابها أن يعتبرهم أخوة وأباء
وأمهات وشقيقات له ويطلبون زيارته أو مراسلته أو دعوته لزيارتهم أو الإقامة بينهم
فى عدد كبير من مدن مصر كما لم يتسع المجال أيضا للإشارة إلى الدعوات الكريمة
العديدة التى تلقيتها من أحباء بريد الأهرام بالسعودية لاستضافة هذا الشاب فى
الأراضي المقدسة حين يصل إليها لأداء العمرة قريبا بإذن الله أو للتطوع بترتيب
عمرته وتحمل تكاليفها وقد بلغت 14 دعوة حتى أمس رغم أن بريد الأهرام قد أعلن أنه
سوف يرتب الزيارة ولا يحتاج إلا لاحتضان هؤلاء الأحباء له حين يصل إلى هناك.
كما لن يتسع المجال أيضا
للإشارة للدعوات التى تلقيتها من داخل مصر لترتيب هذه الرحلة المباركة من إحدى
الشركات المصرية العملاقة ومن صاحب إحدى الشركات السياحية المصرية ومن مواطن عربي سعودي
يزور القاهرة فى هذه الأيام .. ولا من طلبوا المساهمة فى التكاليف فضلا وكرما
فطلبت منهم الانتظار حتى يستعد الشاب للسفر.. ولا يسعني بعد كل ذلك إلا أن أشكر
الجميع وأن أتمنى لهم جميعا حياة آمنة هادئة الأمواج خالية من الآلام والأحزان
بإذن الله.
رسالة أمواج الحياة الجزء الثاني
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" فبراير
1988
كتابة النص من مصدره / بسنت
محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر