طائر الأمل .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988
سيدي قرأت رسالة "العشرة
القديمة" التى تروي فيها سيدة فاضلة قصة رحيل طفلتها الوحيدة بالمرض اللعين
ومخاوف زوجها من الانجاب مرة أخرى, ثم رسالة "سر الحياة" التى حاول بها
قارئ فاضل أن يطمئن قلب زوجها برواية قصه مرض ابنته فى الصغر بهذا المرض وكيف أنعم
الله عليه بطفل آخر لم تظهر عليه والحمد لله أعراضه، فأردت أن أشارك صاحبي الرسالتين
مشاعرهما برواية تجربتي في الحياة لعل فيها ما يفيدهما وغيرهما من القراء.
فأنا سيدة تزوجت منذ 13 عاما من
شاب من أقاربي يتميز بالطيبة وحسن الخلق وعشنا حياة سعيدة موفقة ورزقنا الله بعد
عام من الزواج بطفلة غاية فى الجمال والصحة وفرحنا بها كثيرا وكان أجمل ما فيها
شعرها الناعم المسترسل الطويل وعيناها الواسعتان الجميلتان, وكانت طفلة جميلة
وذكية حتى أنها بدأت فى نطق بعض الكلمات وهي في شهرها العاشر.. وكنت حين أحملها
على كتفي وأسير بها فى الطريق أسمع تعلقيات الاعجاب بشعرها الجميل حتى أقسم أحدهم
ذات مرة أنه يستحيل أن يكون الشعر الطبيعي لطفلة وليدة .. وإنما هو باروكة مبتكرة
للأطفال الرضع!
وهكذا مضت حياتنا ناعمة سعيدة
تملؤها طفلتي بهجة وسعادة بنشاطها وحركتها الدائبة إلى أن جاء يوم وجدتها فيه تصرخ
وتشكو لي من شئ يؤلمها فى رأسها .. فظننت أن نحلة قرصتها فى رأسها وتفحصتها فلم
أجد شيئا وانتهى الألم بعد دقيقتين ..فلم أعر الأمر اهتماما لكنه تكرر مرة أخرى
بعد شهر وبنفس الطريقة .. وبدأت أحس بالقلق عليها حين لاحظت أنها حين تجري وترغب
فى أن تستدير لتعود من حيث جاءت تقع فجأة على الأرض .. فصحبتها إلى طبيب فى
المدينة التى نعيش فيها فطمأنني وعدنا إلى حياتنا العادية لكن مرات وقوعها كثرت
وأصبح إتزان حركتها ضعيفا فقررت أنا وزوجي أن نحملها إلى القاهرة لنعرضها على كبار
الأطباء وما أن خطونا هذه الخطوة حتى انفتحت أمامنا فجأة أبواب الجحيم فقد رحت
أطوف بها على أطباء الأطفال وحالتها تتدهور سريعا حتى فقدت القدرة على المشي في
أقل من عشرين يوما, وأنا حائرة عاجزة لا أعرف ماذا يجري لابنتي ولا ما هو مرضها ..
ثم نصحنا الأطباء بعرضها على جراح للمخ والأعصاب ففعلنا وقرر الطبيب إجراء أشعة
على المخ فجاءت الأشعة منذرة بالخطر, فقرر إجراء جراحة عاجلة لها حتى لا تفقد
قدرتها على الإبصار بعد أن أصيبت بالحول الشديد فى عينيها الجميلتين.
ووجدتني وزوجي نسلم بإرادة الله
ونقرر أن نأخذ بالأسباب فلا ندخر جهدا ولا مال فى علاج إبنتنا ثم نترك الأمر بعد
ذلك لله يتصرف فيه كيف يشاء, وأصر زوجي أن نجري الجراحة في مستشفى خاص رغم أن
أحوالنا المالية ليست ميسرة إلى هذا الحد .. وأدخلنا الطفلة المستشفى وبدأ الإعداد
للجراحة, وجاء حلاق المستشفى ليقص شعر ابنتى من جذوره ثم يحمله فى يده ويقدمه
لزوجي, فإذا بزوجي الصامد الصابر على الشدائد دائما يبكي بشدة وهو يرى شعر ابنته
وبدأت أول مرحلة بإجراء الأشعة على المخ فأثبتت وجود الزائر اللعين فى المخ وبعد
أسبوع بدأت الخطوة الثانية ولا أريد أن أدخل فى تفاصيلها لكيلا أزعج أحدا ثم
الخطوة الثالثة لاستئصال الوحش من رأسها, واستغرقت ساعتين لم تتوقف شفتاي خلالهما
عن الابتهال إلى الله جل شأنه أن يتولى ابنتى برحمته .. ولم تجف خلالهما دموعي
وبعد عذاب طويل انتهت الجراحة وقام الطبيب بإستئصال وحش فى حجم البرتقالة من مخ
ابنتي التى لم تكمل عامين وأربعة شهور من عمرها .. وتعجبت كيف ولد هذا الوحش ونما
فى رأس ابنتى وأنا لا أحول عيني عنها منذ جاءت إلى الحياة .. وكيف لم أحس به وهو
يهاجم ابنتي البريئة.
وخرجت من المستشفي بعد شهر ونصف
أحمل طفلة لا علاقة لها بالوردة الجميلة التى دخلت بها المستشفى , طفلة كالخرقة
البالية .. لا تستطيع الجلوس أو التقلب فى الفراش .. واستأجرنا شقة مفروشة لنقيم
فيها بالقاهرة بالقرب من معهد العلاج وبدأت أذهب إليه كل يوم لعمل جلسات الاشعاع
للقضاء على باقي الخلايا المتوحشة فى المخ.
واستمر العلاج 4 شهور طويلة ككل
المعذبين .. بدأ خلالها شعر طفلتي الجميل ينمو مرة أخرى ثم فوجئنا به يسقط مرة أخرى دفعة واحدة فكنت أغطي
رأسها وأنا أحملها للعلاج .. فإذا سقط عن رأسها الأجرد صدفة رأيت نظرات الإشفاق فى
عيون من حولي بعد أن كنت أرى فيها نظرات الاعجاب ورويدا رويدا بدأت ابنتي تتقلب في
الفراش ثم بدأت تجلس بغير مساعدة من أحد ثم بدأت تحبو ثم تسير مستندة على المقاعد
, لكنها ظلت لا تقوى على المشى بمفردها ولا تقوى على الامساك بكوب الماء لتشرب
منها بسبب ارتعاش يديها كعجوز في الثمانين وعدنا إلى مدينتنا وقررت تكتم مرض
ابنتنا حتى عن أقرب الناس إلينا فلم يعرف سوى زوجي وشقيقتي التوأم التي لا أستطيع
أن أخفى عنها شيئا .. وعدنا لحياتنا الأولى وفى كل يوم أرقب ابنتي بقلب ينفطر حسرة
عليها لكنه يتمسك دائما بالأمل وواظبنا على عرضها على الطبيب مرة كل شهر .. ومع
استمرار العلاج بدأت تسير وحدها , لكنها كانت تصاب بين حين وآخر بنوبات ترتفع فيها
حرارتها حتى تصل إلى درجة 41 وتظل ثابتة عليها لمدة 10 أيام لا يغمض لنا فيها جفن
ونظل ساهرين طوال الليل نضع لها كمادات الثلج .. وتصاب خلالها بنوبات من الغيبوبة
والصداع المستمر عندما يزيد السائل فى رأسها .. ثم تعود فتفقد القدرة على المشي فقرر
الطبيب علاجها بدواء معين وبدأت ابنتى تتحسن.
ومرت الأيام والسنون وكنت خلال هذه الفترة أرفض
فكرة الانجاب مرة أخرى حتى لا يشغلني الوليد الجديد عن العناية بطفلتي المسكينة , لكني
بعد فترة من إستقرار حالها قررت وزوجي بدافع من حبنا لطفلتنا أن يكون لنا طفل آخر
حتى لا تنشأ وحيدة فى الحياة .. وحملت وحانت ساعة الولادة ووسط الآلام الرهيبة لم
يكن على شفتي دعاء سوى اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها, فأكرمني الله بطفل ذكرنى بجمال طفلتي في عامها الأول
قبل أن تعتصرها الآلام.
ومرت الأيام بخيرها وشرها وبلغت
طفلتي سن دخول المدرسة بعد أن مضى على علاجها بالإشعاع 4 سنوات ومازالت تصاب
بنوبات الحرارة والصداع والقئ ومازال اتزانها ضعيفا ونصحني الجميع بعدم إرسالها
إلى المدرسة والإكتفاء بتعلميها فى البيت على يدي مدرس خصوصي , وكدت أقتنع بذلك
لولا أني لاحظت أن ابنتى تتعلق بى تعلقا شديدا وتعتمد علي في كثير من أمورها فأردت
لها أن تحيا حياة طبيعية وقررت إلحاقها بالمدرسة رغم إعتراض الجميع وتمسكت بذلك
بعناد شديد وقدمنا أوراقها للمدرسة وجاء اليوم الأول من الدراسة وأمسكت بيدها
الضعيفة المهتزة وصحبتها معي إليها وهي تمشى بخطواتها البطيئة الضعيفة.. وقابلت
مدرستها وشرحت لها ظروفها وطلبت منها عدم السماح لها بالهبوط إلى فناء المدرسة فى
الفسحة لكيلا تتعرض للمتاعب الصحية إذا حاولت تقليد الأطفال فى الجري واللعب
وتركتها فى المدرسة وغادرتها باكية, واقترب موعد الفسحة فوجدت شيئا فى قلبي يهتف
بى أن أذهب إلى ابنتى خشية أن تنسى المدرسة فى زحام العمل ما طلبته منها فهرولت
إلى المدرسة وجرس الفسحة مازال يدوي فيها وصعدت إلى فصل إبنتى فوجدتها يا حبة
القلب المعذب تتحامل على نفسها وتقف فى طابور التلاميذ وهي تتمايل ضعفا استعدادا
للنزول إلى الفناء, ولم أتمالك دموعي وأنا أراها واقفة تهتز فى الطابور وتهفو
روحها للعب مع الأطفال, فاقتربت منها متصنعة الابتسام وقلت لها أني جئت خصيصا لكي
أجلس معها فى فترة الفسحة فى الفصل لنتحدث ونضحك وعدت بها إليه .. فاستسلمت ليدي
ولعلها كانت قد تعبت من لحظات الوقوف فى الطابور ومرت الفسحة بسلام وعاد التلاميذ
للفصل فغادرته لأعود إليها بعد إنتهاء الدراسة واستمر الحال هكذا أياما طويلة اذهب
بها للمدرسة فى الصباح ثم أعود إليها فى الفسحة لكيلا تبقى وحيدة في الفصل ثم أعود
بها إلى البيت, إلى أن حدث شئ لم أستطع تفسيره ولا فهمه فى البداية .
فذات يوم عدت إليها فى الفسحة فوجدتها جالسة فى
الفصل كالمعتاد ولكنها ليست وحيدة وإنما تجلس معها تلميذات وتلاميذ يتحادثون
ويتضاحكون وعجبت كيف حرم هؤلاء الأطفال أنفسهم من فترة اللعب فى الفناء ليجلسوا مع
طفلة صغيرة مريضة ولم أتعجب طويلا .. فقد فهمت أنها قلوب الأطفال التى تحس أحيانا
بما يحس به الكبار .. فلقد أدركوا بمشاعرهم البريئة أنها غير قادرة على النزول إلى
الفناء فبدأوا يجلسون معها فى الفصل ويتناوبون البقاء معها خلال الفسحة وأصبح لها
أصدقاء يحبونها ويؤثرون مجالستها على اللعب فى الفناء, وتكرر ذلك يوما بعد يوم حتى
لم أعد فى حاجة للذهاب إليها فى الفسحة بعد أن خفف عني هذا العبء أطفال صغار غرس
الله الرحمة فى قلوبهم الصغيرة.
فاطمأن قلبي عليها ومضت أيام
الدراسة على هذا الحال .. وكنت كل يوم أسأل نفسي وأنا أساعدها فى إرتداء ملابسها
للذهاب إلى المدرسة أو وهي تبذل كل جهدها فى أداء الواجب المدرسي في البيت .. هل سيأتي
اليوم الذي سأشعر فيه بتأنبيب الضمير لأني عرضتها لكل هذا العناء إنتظارا ليوم
محتوم لكن الله جل شأنه أراد أن يثبت لي كذب هواجسي فمضت ابنتي في دراستها عاما
بعد عام.
وتقدمت الطفلة التى عاشت
الأهوال منذ سن الثانية من عمرها فى المدرسة حتى بلغت الصف السادس الابتدائي وأوشكت أن تتم العام الثاني
عشر من عمرها المديد بإذن الله .. وحين أنظر الآن فى كراستها وأرى خطها الردئ أشكر
الله إناء الليل وأطراف النهار أن جاء اليوم الذي استطاعت فيه أن تمسك بالقلم
وتكتب بعد أن كانت لا تقوي على الإمساك بكوب الماء, وحين أنظر إلى خطواتها البطيئة
أشكر الله من أعماق قلبي أن استطاعت المشي والحركة وهي التي حملتها عند مغادرتي
للمستشفى بعد الجراحة كالخرقة البالية لا تقوى على الحراك, وحين انظر إليها وهي
تتحدث وتلعب مع شقيقها الذى بلغ من العمر ست سنوات أحمد الله أنها لم تعد وحيدة فى
الحياة, أما حين تمسك بالتليفون تتصل بصديقتها أو تتلقى مكالماتهن فتمتلأ عيوني
بدموع الفرح أن أصبحت لها حياة اجتماعية وصديقات تحبهن ويحببنها ولم نعد نحن أنا
وزوجي محور حياتها كما كان الأمر فى بداية العذاب.
ولـكـاتـبة هـذه الرسـالة أقــول:
أنت يا سيدتي صاحبة قلب حكيم
فلقد تعاملت مع المحنه بإيمان عميق بالله وإدراك واع لحقائق الحياة لذلك فقد أعجبت
كثيرا بقرارك الحكيم بإلحاق ابنتك بالمدرسة لكي تواجه الحياة بدلا من أن تظل رهينة
البيت شديدة التعلق بك والاعتماد عليك .. وأعجبت كثيرا بقراركما ببعد النظر
بالانجاب مرة أخرى رغم المخاوف والظنون لكي تقدما لابنتكما أخا تتوكأ عليه
ويتساندا معا فى رحلة الحياة, أما قمة إعجابي فهي في روح الأمل التى تعاملتما بها مع المحنة منذ البداية .. وروح
الرضا بقضاء الله وقدره التى قادت خطاكما وشدت من أزركما ودفعتكما للأخذ بالأسباب
واتخاذ كل الوسائل لدفع الخطر عن إبنتكما الصغيرة فكلل جهودكما بالنجاح وأسعدكما
بحياتكما وبطفليكما الجميلين.
وأما أكثر ما أثار شجوني في
رسالتك على كثرة ما بها مما يثير الشجن فهو هذا المشهد الفريد حين دخلت إلى الفصل فوجدت
الأطفال الصغار قد أحاطوا ابنتك بمشاعرهم البريئة فحلوا بذلك إحدى مشاكلك وضربوا
المثل لما ينبغى أن يفعله الكبار فى أوقات المحن .. يا إلهي ! كيف أدرك هؤلاء
الصغار بأحاسيسهم البريئة حاجة ابنتك إلى الصحبة فضحوا بميولهم الغريزية للجري
والانطلاق؟ أليس هذا التصرف البسيط ظلا آخر من ظلال الرحمة التى تولى بها الله
ابنتك ليخفف عنها آلامها.
أوليس في إحساس الرضا والسعادة
الذى يغمر روحك وأنت تنظرين إلى طفليك فترين أن كنوز الأرض لا تساوي لحظة صفاء
كهذه اللحظة ظل آخر من ظلالها يؤتيه الله من يصبر على المحن والشدائد ولقد كان
صبرك على المحنة عظيما يا سيدتي وكان أملك فى رحمة الله دائما أعظم لهذا فلقد كان
حق على الحياة أن تسعدك بما بين يديك وأن تخفف عنك بعض آلامك وما يلقاها إلا الذين
صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم.
والحق أني لا أجد ما أضيفه إلى رسالتك أكثر من أن أرجو من أعماق قلبي أن يتم الله نعمته على ابنتك الجميلة وأن يحقق لها ولشقيقها كل أمالكما فى الحياة وأن يحفظ عليك سعادتك وشكرا لك يا سيدتي على رسالتك هذه التى أجبرني صدق مشاعرك فيها على نشرها رغم مضي فترة غير قصيرة على الرسالتين اللتين دفعتك للتعليق عليهما.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1988
كتابة النص من مصدره / بسنت
محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر