طائر الأمان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992
ترى هل مازلت تذكرني ؟ إنني
الأم التى كتبت لك منذ أربع سنوات روت لك قصة مرض طفلتها وهي في الثانية من عمرها
.. والذى بدأ بصراخها فجأة من شئ يؤلمها فى رأسها حتى ظننت أن نحلة قرصتها .. ثم
تكرر سقوطها على الأرض , فبدأنا رحلة العلاج وانتهى الأمر بإجراء جراحة كبيرة لها
في المخ , وخرجت بها من المستشفي أحملها على ذراعي كالخرقة البالية .. واستمرت
نوبات الغيبوبة والحرارة الشديدة , تهاجمها من حين لآخر بالمدرسة , رغم معارضة
الجميع لكي تحيا حياة طبيعية , ورويت لك أني كنت أذهب بها في الصباح إلى المدرسة
وأراها تتمايل من فرط الضعف وعدم الاتزان وهي واقفة في الطابور فينفطر لها قلبي
وأعود إليها فى وقت الفسحة لأجلس معها في الفصل حتى لا تنساق وراء ميل الأطفال
الغريزي للعب فتعرض نفسها للخطر , ثم ارجع إليها مرة ثانية بعد انتهاء الدراسة
لاصطحبها إلى البيت إلى أن ذهبت للمدرسة في وقت الفسحة ذات مرة ودخلت عليها الفصل
فرأيت مشهدا لا يمكن وصفه إلا بأنه آية من آيات الله رب القلوب , فلقد رأيتها
وحولها تلميذات وتلاميذ ادركوا بقلوبهم البريئة أنها غير قادر على النزول إلى
الفناء فجلسوا معها يتحادثون ويتضاحكون وتنازلوا عن رغبتهم فى اللعب والجري في
الفناء .. ووقفت أرقبهم والدمع يترقرق في عيني وأتعجب من رحمة ربي بعباده .. وتكرر
ذلك يوما بعد يوم وأصبح لابنتي أصدقاء يحبونها ويؤثرون مجالستها على الفناء ..
ويتناوبون الجلوس معها خلال الفسحة حتى لم أعد في حاجة للذهاب إلى المدرسة في
منتصف اليوم الدراسي لأراقبها.
ولقد كتبت رسالتي تلك لأشد من
أزر إثنين من قرائك كتب كل منهما لك عن مرض طفلته , ولأقول لهما أن ابنتي قد
أصابها المرض منذ تسع سنوات ومازالت تسعى في الأرض بأمر ربها , وقد أصبحت أكثر
إتزانا في مشيتها وقلت رعشة يديها وأصبحت لها حياتها كالأطفال الآخرين ونشرت
رسالتي هذه واخترت لها عنوانا كان موقفا للغاية هو
"طائر الأمل" فقد انطبع هذا العنوان في ذاكرتي طوال 4 سنوات
.. واليوم أكتب لك رسالتي الثانية لأروي لك ما جرى خلال هذه الفترة.
فعندما كتبت لك رسالتي الأولى
كانت ابنتي على مشارف الشهادة الابتدائية وقد حصلت عليها والحمد لله والتحقت
بالمدرسة الاعدادية وظللت اذهب بها إلى المدرسة ممسكه بيدها كل صباح وحاملة عنها
حقيبتها بيدي الأخرى , ثم أعود إليها عند الظهر وانتظر خروجها مهما طال انتظاري
ولا أتأخر في الذهاب للمدرسة حتى لا تنتظرني هي لحظة واحدة فتتأثر نفسيتها وسبحانك
ربي تهب القبول لمن تشاء .. وأنت على كل شئ قدير فما أن مضت فترة على التحاقها
بهذه المدرسة حتى أصبحت محبوبة من جميع تلميذاتها ومدرسيها كما كانت في المدرسة
الابتدائية وحتى أصبح لها صديقات كثيرات بالرغم من عدم تفوقها الدراسي الذي لا
تسمح به ظروف مرضها وفي بداية العام الدراسي الثاني فوجئت بها تخبرني بأنه لا داعي
لإرهاقي بإحضارها من المدرسة عند الظهر لأنها اتفقت مع صديقاتها على العودة معا
وأحسست بالخوف عليها لكني تحكمت في مشاعري وتساءلت ولماذا لا أمنحها هذه الفرصة
حتى يزداد اعتمادها على نفسها وتزداد ثقتها بها , ووافقت على ذلك وأنا أتوجس من
النتيجة , وفي اليوم التالي خرجت قبيل موعد العودة لأراقبها من بعيد فرأيتها تخرج
من باب المدرسة حاملة حقيبتها لأول مرة خلف ظهرها وتمسك بيد احدى صديقاتها ولاحظت
أنهن يبطئن في مشيتهن مراعاة لها .. وسمعت ضحكاتهن البريئة فطرب لها قلبي وعدت
للبيت سعيدة قبل عودتها , وواظبت على أن أفعل ذلك عدة أيام إلى أن اطمأن قلبي
تماما إلى أنها تسير آمنه مع صديقاتها فافتصرت على اصطحابها للمدرسة في الصباح ثم
لم تمض فترة طويلة حتى تطوعت صديقة لها تقطن في بداية شارعنا , جزاها الله عنا كل
خير بالحضور إليها كل صباح لإصطحابها معها للمدرسة , فأعفتني بذلك من هذه المهمة
أيضا واستمر الحال هكذا إلى أن عادت من المدرسة ذات يوم مرهقة وشديدة الشحوب , وما
أن خلعت ملابسها لتستريح حتى سمعت صراخها وفزعت إليها فوجدت شيئا غريبا يخرج من
جدار بطنها , وأسرعت باستدعاء طبيبة صديقة لنا فحصتها وأخبرتني أن الشئ الغريب
البارز من جدار البطن هو خرطوم الصمام المركب لها فى المخ والواصل منه إلى الغشاء
البريتوني , وخلال ساعات كان قد حضر أبوها من المحافظة التي نقل إليها , وكنا في
عيادة الطبيب المعالج بالقاهرة فقام بإدخالها المستشفى لاجراء جراحة عاجلة لها
لاخراج الصمام .
وسألت الطبيب الكبير مشفقة ..
عما إذا كان سيتم تركيب صمام آخر لها.
وأغرورقت عيناي بدموع الفرح حين
أجابني بثقة أنها لم تعد في حاجة إلى أي صمام , وتذكرت طائر الأمل الذي استبشرت به
وحمدت الله كثيرا .. وفي ليلة الجراحة لم
يغمض لي جفن وقبل اجرائها رفضت بإصرار أن تقوم الممرضة بحلق شعرها كله كما فعلوا
معها وهي ابنة عامين وانقذني الطبيب مساعد الجراح الذى جاء بنفسه وقص شعر مساحة
صغيرة من رأسها تسمح بخروج الصمام , وتمت الجراحة بنجاح والحمد لله ومكثنا في
القاهرة عشرة أيام ثم عدنا لمدينتنا وفكرت ألا أدعها تدخل امتحان الفصل الدراسي
الأول الذي كان على الأبواب , لكنها اقتنعني بالسماح لها , وذهبت معها يوم
الامتحان والضمادات تغطي رأسها فما أن دخلنا الفناء حتى فوجئت بمظاهرة من صديقاتها
بل ومن المدرسات والتف حولها الجميع يهنئونها بالشفاء , ونجحت بحمد الله في الفصل
الأول وفي الفصل الثاني , وانتقلت إلى الشهادة الاعدادية , وبذلت قصارى جهدها في
المذاكرة وبذلت معها قصارى جهدي وأحضرت لها كل من احتاجت إليهم من المدرسين وحضرت
معها كل الدروس الخاصة وما أن يخرج المدرس حتى أعيد لها شرح الدرس الذى سمعته معها
, وجاء موعد الامتحان واقترح علي البعض أن أطلب عقد لجنة خاصة لها نظرا لبطء
حركتها لكني لم أوافق على ذلك لكيلا تحس أنها مختلفة عن زميلاتها , وذهبت معها
للمدرسة الثانوية التي يعقد بها الامتحان , ورأيت رئيس لجنة الامتحان واقفا يباشر
عمله وقد بدت على وجهه علامات الشدة والصرامة فاقتربت منه وأنا خائفة وسألته
السماح لي بالصعود معها إلى قاعة الامتحان لأجلسها فيها , فسألني عن سبب هذا الطلب
الغريب وهو متجهم فشرحت له في كلمات قصيرة حالتها .. ويا سبحان الله لقد نظر إليها
نظرة سريعة ثم تحولت التكشيرة الصارمة إلى ابتسامة وأذن لي بالصعود معها وغادرته
شاكرة وأنا لا أعرف اسمه لأنه غالبا غريب عن مدينتنا ومن رجال التعليم الذين
يكلفون بالاشراف على امتحانات الشهادات العامة في مدن ليست موطن عملهم أو اقامتهم
, ودخلت معها القاعة وأحضرت لها المقعد فإذا بالرجل الكبير يأتي ليطمئن على ابنتي
ويلاحظ أن المقعد غير مريح فيذهب ويعود حاملا في يده شلته يضعها لها عليه !
ومرت أيام الامتحان وظهرت
النتيجة ونجحت ولكن بمجموع 54% بسبب طول أسئلة المواد الاجتماعية وبطء حركة ابنتي
ورغم ذلك فلقد شعرت بسعادة الدنيا كلها يوم نجاحها , وكان أكثر ما يسعدني هو
سعادتها هي ورضاؤها عن نفسها وعن هذا المجموع رغم ضآلته , وكيف لا ترضى وهي من فطمت
على الصبر والرضا بالمكتوب وهي من أجريت لها أربع جراحات في المخ ابتداء من سن
الثانية من عمرها .. وظل جرس التليفون يدق في بيتنا يومين كاملين يحمل تهاني الأهل
والأصدقاء , وجاء الجميع مهنئين وأعطوها "نقوط" النجاح وهي جالسة بينهم
كالعروس !
وانتهت أيام التهاني وأصبح علي أن أفكر في المستقبل .
ولــكــاتــبة هــذه الــرســالــة أقـــول :
"إذا عظم المطلوب قل
المساعد" كما يقول الشاعر العربي لكن كيف يكون الحال إذا كان
"المطلوب" عدلا ورحمة وليس "عظيما" ولا هو بمستحيل ؟
إن مطلبك يا سيدتي عادل بل
وأكثر من عادل .. وقصتك كلها لا تحتاج منا إلى "بيان" طويل لأنها من
الحالات التى ينطبق عليها قول المتنبي :
وفي النفس حاجات وفيك فطانة
سكوتي بيان عندها وخطاب
لهذا فلن أطيل التعليق عليها
ولا مناشدة من يملكون تحقيق هذه الرغبة العادلة لابنتك .. وإنما سأقول فقط أننا
إنما نحن "بشر" بمثل هذه الرحمة وهذا التعاطف الغريزي الذي أحاط به
الأطفال والفتيات الصغيرات ابنتك في كل مراحل تعليمها , وبمثل هذه الصلة الخفية
التي تربط بين البشر والتي تحول التجهم إلى ابتسام عند التعامل مع من يحتاجون
للعون والمساعدة .. وتسعد الأهل والأصدقاء والمعارف بنجاح ابنتك واطراد تقدمها في
التعليم كأنما قد أصابهم خير كالذي أصابها .
لقد علمنا مجتمع الصغار في
قصتهم مع ابنتك درسا قيما فيما ينبغي أن يكون عليه مجتمع الكبار من تعاطف وتكافل
وتراحم , فهل نكمل نحن ما بدأوه ونيسر لها طريق التعليم الذي يتناسب مع ظروفها ..
أم نتحجر ونعجز عن الارتقاء لمستوى فهم وحضارة هؤلاء الصغار ؟
إنه ومن أسف أن ما يحتاج منا
إلى "بيان وخطاب" لا يحتاج في مجتمعات أخرى إلا لمقابلة قصيرة مع مدير
المدرسة , تجد المشكلة بعدها حلها مهما كانت لوائح هذه المدرسة وشروطها .. والنظم
واللوائح انما وضعت أساسا لتيسير الحياة وتنظيمها وليس لتعقيدها وزيادة وطأتها على
البشر , ويستطيع دائما الذين ينفذونها أن يجعلوا منها عونا للناس على الحياة ,
ويستطيعون أيضا أن يجعلوا منها عونا لغوائل الحياة على البشر .
وكل ما نطمح إليه فى حالتك هذه
هو أن نكون عونا لابنتك على الحياة وعلى مواصلة التعليم والاندماج في المجتمع وليس
العكس بإذن الله .
فاكتبي إلي يا سيدتي بكل بيانات
ابنتك .. أو اتصلي بي تليفونيا مساء الاثنين القادم لعل الله قاض أمرا ولعلنا نسعد
معك ومعها بالتأكيد من جديد من أننا مازلنا "بشرا " قادرين على الفهم
الانساني لظروف الأخرين .. ولم نتحول بعد إلى شئ آخر , وشكرا لك على رسالتك القيمة
ودعاء من الاعماق لابنتك العزيزة بموفور الصحة واطراد التقدم , ولك ولأسرتك بكل
السعادة في ظل طائر الأمل والأمان دائما بإذن الله .
طائر الأمان والسعادة
بعد نشر رسالة الأسبوع الماضي
.. "طائر الأمان" عن الفتاة التي أجريت لها أربع جراحات في المخ بين سن
الثانية , والخامسة عشرة من عمرها , والتي تأمل أمها كاتبة الرسالة في استثنائها
من شرط المجموع , للالتحاق بإحدي المدارس المتوسطة الفنية مراعاة لحالتها الصحية ,
وأسوة بحالات شلل الأطفال , وأمراض الدم .. حمل إلي التليفون صوت السيد وزير
التعليم الدكتور حسين كامل بهاء الدين , واستمعت إليه يقول لي إنه قرأ هذه القصة
الانسانية .. وأنه لن يتردد في إلحاق هذه الفتاة بالمدرسة التي ترغبها مراعاة
لظروفها , ثم يطلب مني أن أرسل إليه أسرة هذه الفتاة مع أوراقها إلى مكتبه , بوازة
التعليم العالي مع خطاب مني , مؤكدا أنه سوف يستقبلها , وينهي مشكلتها بإذن الله ..
ووجدت نفسي أشكره بحرارة , وإنفعال وأبلغته أني لا أعرف عنوان أسرة الفتاة , لكن
كاتبة الرسالة ستتصل بي مساء الاثنين , كما طلبت منها في تعليقي على رسالتها ..
وكررت الشكر فأجابني بتواضع أصيل فيه .. أنه طبيب أطفال قبل أن يكون وزيرا , ولن
يتردد في تحقيق هذه الرغبة العادلة لتلك الأسرة .. وفي اليوم التالي اتصلت بي
كاتبة الرسالة , وأبلغتها بمبادرة الدكتور حسين كامل بهاء الدين .. فكانت سعادتها
بما سمعت طاغية .. وكتبت الخطاب , وجاءت الأسرة للقاهرة وتسلمته , وتوجهت به
لمقابلة وزير التعليم , فاللهم حمدا لك , وشكرا لمن أجريت مشيئتك على يديه ,
فالشكر واجب لمن يستحقه , وفي الحديث القدسي : "عبدي لم تشكرني إذ لم تشكر
عبدي الذي أجريت نعمتي على يديه "
فاللهم اجعلنا من الشاكرين
الذاكرين .
رابط رسالة طائر الامل من كاتبة الرسالة سنة 1988
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" أغسطس 1992
كتابة النص من مصدره / بسنت
محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر