العشرة القديمة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

بريد الجمعة 1988 مشاكل تأخر الانجاب

العشرة القديمة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988


إن طمأنينة القلب لا تتحقق إلا بالتسليم بإرادة الله فى كل شىء، وتقبل الحقيقة مهما كانت قاسية، هو كما قلت مراراً، طريقنا الوحيد لتخطى الآلام والصعاب.. فدع الأمر لصاحب الأمر يصرفه كيف يشاء، ويختار لك ما فيه خيرك وسعادتك بإذن الله، ، ولا يدرى أحد من يعيش غدا، ومن ينزل الستار على رحلة حياته .. ونحن نعيش حياتنا ونحن نعرف أن الله سوف يسترد ودائعه فى أية لحظة، فهل يعنى إدراكنا لهذه الحقيقة ألا نعيش حياتنا، فليس من الحكمة ألا نساعد أنفسنا على نسيان التجارب الأليمة بكل طريقة مشروعة، وفى طاقتنا.
عبد الوهاب مطاوع


  

 أكتب إليك لأستشيرك في أمر أقف أمامه عاجزة، وأريد أن أستعين برأيك عليه. أنا سيدة في الخامسة والثلاثين من العمر، بدأت قصتي وأنا في سن التاسعة أو العاشرة حين كنت أعيش بين أبوين عطوفين ومع شقيق أصغر لي، نذهب معاً إلى مدرسة خاصة معاً كل يوم، ولأننا كنا في المدرسة الابتدائية فقد كنا نتلقى الدراسة في فصول مختلطة تجمع بين الأطفال والبنات ، ونذهب إليها في أتوبيس المدرسة الذي كان دائما مزدحماً، ويركبه معنا تلاميذ المرحلة الإعدادية التي تضمها مدرستنا أيضا، فكنا نتعرض دائما لعدوان طلبة الإعدادية الكبار علينا ، الذين يستولون على المقاعد ويتركوننا للوقوف طوال الطريق. وبدافع غريزي للدفاع عن النفس اقتربنا تلقائيا من تلميذ آخر يركب معنا الأتوبيس مع أخته الصغيرة ويدرس معي في الفصل نفسه، في حين تدرس أخته مع شقيقي في فصل واحد، فوجدنا أنفسنا نلتصق ببعضنا البعض في الأتوبيس، ونحتمي بهما ويحتميان بنا ، فنشأت بيننا صداقة حميمة يعززها الكتب والكراسات والمساعدة في بعض الأحيان، واستمرت بنا الحال هكذا طوال المرحلة الابتدائية ، وانتقلنا إلى المرحلة الإعدادية ففرقت بيننا الفصول، ولكن ظل الأتوبيس يجمع بيننا، وظلت الصداقة عميقة بيننا حتى انتهت المرحلة الإعدادية، فالتحقت بمدرسة وأخي بمدرسة أخرى، ولم نعد نرى هذين الصديقين بانتظام. لكن الود لم ينقطع بيننا أبدا. فقد كنا نحرص على دعوتهما في أعياد ميلادنا ويحرصان على دعوتنا فى مناسباتهما، ورغم أننا قد وصلنا إلى مرحلة المراهقة، فإن العلاقة بيننا لم تنحرف أبدا إلى أمور المراهقة.

وظلت دائما أخوية، وإن كان قد استقر في أعماقي أن هناك رباطا وثيقا يربطني بهذا الصديق ، لكنه لا يعبر عن نفسه من جانبه أو جانبي، وبعد أن حصلنا على الثانوية العامة تفوق هو علي في المجموع فالتحق بكلية عملية، في حين التحقت أنا بكلية نظرية، وشغلتنا الحياة عامين أو ثلاثة حتى وجدت نفسي ذات مرة في الحرم الجامعي أمام زميلي القديم .. وينظر إلي وقد تغير شكله وربى شاربه وأصبح شابا مكتمل الرجولة ورحبت به بشدة وسألته عن أخته وسألني عن أخي، وتواعدنا على لقاء جماعي كأيام زمان.

وفى اليوم التالي جاءني مع شقيقته وجددنا صداقتنا مرة أخرى. وبعد أيام عاد شقيقي من موقع عمله حيث كان قد التحقق بكلية عسكرية وتخرج، وأبلغته بما حدث وتم اللقاء فعلا بعدها بأيام، وتواصل اللقاء بيننا على فترات متباعدة ولاحظت أنني مازالت أشعر فى قربه بنفس الأمان الذي كنت أشعر به قديماً ونحن أطفال محشورون في زحام الأتوبيس، وتخرجت في كليتي وأديت الخدمة العامة .. وبعد عام وجدت عملا في شركة استثمارية بمساعدة بعض أقاربي، وانقطعت أخبار زميلي السابق لفترة شهور، وتقدم لي خلالها شاب من أقاربي ليخطبني وتحمس له أهلي، وطالبوني بقبوله لأنه شاب ممتاز وجاهز. إلخ .. ففكرت في الأمر ووجدت نفسي غير مرتبطة بأحد، فقبلت خطبته بلا أية مشاعر عاطفية تجاهه، لذلك لم تطل الخطبة طويلا .. ورغم عدم ترحيبي بها منذ البداية فإنني وجدت نفسي عقب فسخها فى حالة نفسية سيئة لعدة أسابيع، وجدتني خلالها أتجه بأفكاري نحو زميلي القديم، وأكاد أحس باللوم تجاهه لأنه لم يحميني من هذه التجربة كما كان يحميني زمان من المضايقات، لكني عدت لنفسي سريعا حين تذكرت أننا لم نتبادل أبدا كلمات الحب ولم نتعاهد على شىء، ومع ذلك فقد أحسست برغبة فى رؤيته ورؤية شقيقته، فاتصلت بها وتحادثنا وتواعدنا على اللقاء .. وسألتها عن شقيقها فعرفت أنه سافر ليعمل في إحدى الدول العربية، وأنه يطمئن منها على أخباري وأخبار شقيقي وأنه سيعود في أجازة قريبا.

وبعد شهور وجدته أمامي في الشركة يبتسم ويقدم لى نفسه بأنه "الألفة" القديم على فانتفضت فرحا حين رأيته، ودعوته للجلوس وانتظاري حتى انتهى من عملي، وصممت فى داخلي بجرأة غريبة على أن أفاتحه بما فى صدري إن لم يتشجع هو ويفاتحني ونزلنا من الشركة معا، وفى الشارع فتحت فمي لأتكلم فوجدته يقول لى إنه يحبني ويريد أن يتزوجني، وبدلا من أدعى الخجل أو المفاجأة وأطلب مهلة للتفكير وجدت لساني يقول له بصراحة واضحة كشمس أغسطس وبكل هدوء لقد سبقتني فيما كنت أريد أن أقول لك! فرقص طربا لهذه الإجابة الصريحة، واعترف لي بأنه يحبني منذ زمن بعيد، وأنه تأكد من ذلك خلال اغترابه، وسلمت له بنفس الحقيقة، واتفقنا على الزواج فى أسرع وقت، لأننا لسنا فى حاجة إلى تعرف طويل أو اختبار للمشاعر، وتم عقد القران خلال أجازته، وسافر إلى مقر عمله واتفقنا على أن يعود بعد نهاية عقده، وأن نجهز الشقة خلال هذه الفترة، وساعدني أبى بكل ما يستطيع ، وساعدنا أبوه أيضا بما في طاقته وبكل ما تجمع في يدي مما أرسله من مال، حصلت على شقة تمليك في أحد الأحياء الجديدة بمقدم معقول وقسط محتمل .. وقمت بتجهيزها وإعدادها وانتهت فترة عمله بالخارج وبعد 10 شهور، فعاد إلي على جناح الحب وبدأنا حياتنا معا .. وبعد شهور قليلة استطعت أن أتوسط له فى الشركة التي أعمل بها وتم تعيينه فيها، ومضت أيامنا جميلة سعيدة وضحكت من أعماقي حين ركبنا معا لأول مرة أتوبيس العاملين بالشركة إلى مقر العمل، وتذكرنا أتوبيس المدرسة وكيف كان يقفز إليه ليحجز لي مكانا فيه، أو كيف كان يصد عني زحام التلاميذ بظهره لكي يحميني وأخته منهم، وعرف زملاؤنا في العمل قصتنا وتندروا بها طويلا وأسمونا (التلامذة) ، كلما أشاروا إلينا أو تحدثوا عنا ومضت أيام السعادة سريعة، وبعد عامين أنجبت طفلة جميلة طار بها زوجي فرحا، وحصلت على أجازة طويلة لرعاية الطفلة، وقسم هو وقته بين العمل وبين أسرته الصغيرة وانتهت أجازتي وعدت إلى عملي، فبحثنا عن حضانة قريبة من العمل لنترك الطفلة فيها، واضطررنا للتخلي عن الأتوبيس واشترينا سيارة صغيرة قديمة لنذهب بها إلى الحضانة كل صباح، واستمرت حياتنا جميلة كأغنية طويلة من الحب والسعادة، ساعد على استمرارها أن زوجي هادىء الطباع قليل الكلام، وفى أعماقه قدر هائل من الحنان والفهم لكل الأشياء. فضلا عن أننا كنا كما يقولون عشرة قديمة.

وهكذا مضت بنا الحياة، أسعد أوقاتنا فيها حين نلتقي نحن الأصدقاء الأربعة القدامى على العشاء فى بيتي أو فى بيت شقيقة زوجي، التي تزوجت من زميل لها ، أو بيت أسرتي مع شقيقي الذي تزوج إحدى قريباتي، وأقام مع أبى وأمي، لكن جميلتي الصغيرة نغصت علينا فجأة صفو حياتنا بكثرة تعرضها للأزمات الصحية بطريقة غير عادية، ورغم معرفتنا بأن المتاعب الصحية للأطفال كثيرة، فإنها زادت بشكل ملحوظ بعد أن تخطت سن الرابعة وبدأت تشتد بلا سبب مفهوم.. وتنقلنا بها بين عدد كبير من الأطباء، إلى أن اكتشف أحدهم حقيقة مرضها بعد فوات الأوان ، فما إن عرفنا مرضها والطريق الصحيح لعلاجه حتى كنا قد فقدناها فى لمح البصر، وهى لم تكمل الخامسة من عمرها، وارتج بيتنا الصغير بهذا الزلزال القاسي.




وأشفقت عليه مما عاناه، فلم ألح عليه، لكنى عدت بعد فترة لمناقشته فى الأمر، وأكدت له أن أسرتينا خاليتان من هذا المرض، وأن التأكد من ذلك سهل، وأن مخاوفه فقط من تكرار الكارثة هي التي تدفعه لهذا الاعتقاد، وأن كل شىء بيد الله ، فلماذا يعترض على مشيئته؟ فاستمع إلى حديثي صابرا لأول مرة بعد أن كان يضيق به ولا يحتمل الكلام فيه، لكنه لم يغير رأيه. فأقنعت نفسي بأن الأيام كفيلة بأن تغرس الطمأنينة في قلبه، وضاعفت من رعايتي له وحناني عليه، فهدأت نفسه قليلا لكنه لم يغير رأيه، وفشلت شقيقته وأمه فى إقناعه وفشل شقيقي صديقه القديم فى زحزحته عن رأيه، وزاد الأمر حدة أنه أصبح يتجنبني نهائيا فى فترات الخطر المحتمل فيها حدوث الحمل، ولم أشعر بخطورة الأمر إلا حين صارحني لأول مرة إذا حدث خطأ ما وحملت فإن حملي سوف يعنى بالنسبة له شيئا واحدا لا رجعة فيه، هو طلاقي والبعد عنى رغم حبه الشديد لى ، لأنه لا يستطيع كما يقول أن يواجه المحنة التى عاشها من قبل!


ورغم قسوة هذا التهديد الذي لم أسمع منه مثله طوال سنوات زواجنا، فإنني لم أغضب منه لأني أعرف دوافعه وأعرف أنه نابع من الجحيم الذي عاشه، ولأني أعرف عن يقين أنه يحبني ولا يطيق الحياة بعيدا عنى، وتركت المشكلة للأيام لكن الأمر طال يا سيدي ، فلقد مضت حوالي 4 سنوات الآن على رحيل ابنتنا الغالية بغير أن يتنازل عن رأيه أو يتخلص من مخاوفه، رغم أنه رجل مؤمن بالله ويؤدى فروض دينه ويعامل الناس جميعا بالحسنى، وهو مثال للأخلاق الطيبة ومحبوب من أسرتي ومن كل زملائه، وكلما شكوت لشقيقته طلبت منى الصبر عليه، وأنا صابرة فعلا ولن أتخلى عنه أبدا، لكن الأيام تجرى وأنا أتقدم فى العمر وبعد فترة طالت أو قصرت لن أصبح قادرة على الإنجاب، ولقد عانيت مثلما عانى وأكثر حين ثكلت فى ابنتي، لكنى مؤمنة بالله وراضية بقضائه وقدره وأرى الفرصة أمامنا لكي نعوض ما راح منا بطفل ينشأ بين أحضاننا، وينسينا آلامنا. فهل تقف إلى جواري وتحاول إقناعه بأنه ليس من حكم الضرورة أننا نشرب من الكأس نفسها لمجرد أننا شربنا منها مرة قبل ذلك، إنه يقرأ بريد الجمعة ويعجب بأرائك ويجد في بعض قصصه السلوى عما عاناه فهل توجه إليه كلمة تطمئن بها نفسه المعذبة.


ولكاتبة هذه الرسالة أقول:

بكل تأكيد يا سيدتي سوف أقف إلى جوارك، وأؤيد موقفك بكل ما أملك لأنك على حق فى كل ما تقولين، ولأن أمنيتك هي الأمنية العادلة فى مثل هذه الظروف المحزنة، فليس من الحكمة ألا نساعد أنفسنا على نسيان التجارب الأليمة بكل طريقة مشروعة، وفى طاقتنا، ولقد أخلص لك الأهل والأصدقاء النصيحة حين أشاروا عليك بالإنجاب بعد ما جرى ، فهكذا فعل كل المجروحين من أمثالكما فالتمسوا السلوى والعزاء فى زهور جديدة تتفتح فى حدائقهم عوضا عن زهورهم التي اقتطفتها يد القدر، والحياة من حولنا مليئة بمن امتحنوا بمثل هذه المحنة، فعوضتهم الحياة بمن آسوا جراحهم، ونعموا بصحبتهم إلى نهاية الطريق، ولم يقل عالم ولا طبيب إن من فقد طفلا بمرض ما فى طفولته سوف يفقد كل من ينجبه بنفس المرض بحجة الوراثة، لأن التحقق من وجود المرض الوراثي أمر ميسور ويمكن للأطباء التأكد منه بسهولة. وثانيا وهو الأهم لأن الوراثة ليست العامل الوحيد فى المرض الذي أشرت إليه فى رسالتك، ولا فى أي مرض آخر فى حدود علمي، وإنما هي عامل من العوامل المساعدة على الإصابة ببعض الأمراض وليس كلها، وهى أيضا ليست حقيقة رياضية لا تقبل الاحتمالات، إذ كثيرا ما تتخطى جيلا وتتنتقل إلى جيل بعده والعكس صحيح، وكثيرا أيضا ما تصيب ابنا وينجو منها شقيقه، وإرادة الله فوق كل الاعتبارات والعوامل وعلمه فوق علم كل عليم. ولو قبل زوجك فإنني على استعداد لأن أرتب له فى مكتبي لقاء مع طبيب متخصص فى هذا المرض ليشرح له كل أسراره ويهدىء من روعه، فمخاوف زوجك من الإنجاب فى ظني هي نوع من (الفوبيا) أو المخاوف المرضية التي لا أساس لها من الواقع، والناجمة عن القلق النفسي العميق، وهو مرض معروف وله علاجه العضوي والنفسي، والمخاوف المرضية تقود إلى الخطأ والخلط، لهذا فهو يربط بين أسباب ونتائج لا وجود لعلاقة حقيقية بينها، ويعذب نفسه بذلك ويقلل من فرصته للنجاة من آثار محنته السابقة. فلماذا لا تسلم بمشيئة الله يا صديقي وتفوض الأمر إليه .. إن طمأنينة القلب لا تتحقق إلا بالتسليم بإرادة الله فى كل شىء، وتقبل الحقيقة مهما كانت قاسية، هو كما قلت مراراً، طريقنا الوحيد لتخطى الآلام والصعاب.. فدع الأمر لصاحب الأمر يصرفه كيف يشاء، ويختار لك ما فيه خيرك وسعادتك بإذن الله، فمخاوفك لا أساس لها من العلم ولا الحقيقة، و لا يدرى أحد من يعيش غدا، ومن ينزل الستار على رحلة حياته ونحن نعيش حياتنا ونحن نعرف أن الله سوف يسترد ودائعه فى أية لحظة، فهل يعنى إدراكنا لهذه الحقيقة ألا نعيش حياتنا، وألا ننجب ونضيف إلى الحياة زهورا جديدة؟

 

لا يا سيدي بكل تأكيد .. فلماذا تسمح لهذه الوساوس بأن تفسد عليك وعلى زوجتك حياتكما وأنتما الأحق بالتماس السلوى والتعويض فى زهرة جديدة تضىء حياتكما؟ إن الإنجاب بعد سن السادسة والثلاثين ليس أمرا مستحبا من الناحية الصحية، لكنه فى ظروفك وظروف زوجتك الثكلى الحريصة عليك والمتمسكة بك إلى النهاية أمر مستحب ومستحب جدا من الناحية النفسية والإنسانية  فلا تحرمها من فرصتها الوحيدة يا سيدي وأنت أكثر الناس رفقا بها، ولا تحرم نفسك أيضا من هذه الفرصة وأنت فى أشد الحاجة إليها، وثق فى الله فليس أمامنا باب للرجاء غير بابه، وسوف تؤكد لك الأيام كذب مخاوفك وسوف تعوضك عما فقدت خيرا عميما. ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون، وسوف تعلمون وتسعدون بما يؤتيكم الله سريعا وسريعا جدا إن شاء الله.


كتبها من مصدرها / ياسمين عرابي
راجعها وأعدها للنشر/ نيفـين علي
Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات