سر الحياة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

 سر الحياة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

سر الحياة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

 

السعادة  "إرادة وقدرة " قبل أن تكون أسبابا، لهذا يعجز البعض عن استشعار السعادة فى أكثر الظروف مدعاة لها، و"يقدر" البعض على الإحساس بها فى أقل الظروف تهيؤاً لها، والفارق هنا هو فى حكمة الإنسان وإيمانه بالله وقدرته على فهم الحياة التى تطالبنا دائما بأن نكيف أنفسنا مع الواقع الذي لا نستطيع له تبديلا، وأن ننظر دائما إلى الجانب البهيج من حياتنا لكى يعادل ما أصابنا من آلام، وبأن نتطلع دائما إلى نصيبنا من السعادة بقلب يخفق دائما بالأمل.

عبد الوهاب مطاوع

قرأت رسالة "العشرة القديمة" التي تروي فيها زوجة معذبة عن مرض طفلتها الوحيدة، ثم رحيلها ورفض زوجها الإنجاب مرة أخرى خوفا من أن يكون المرض الذي أنهى حياة طفلته وراثياً ويتعرض لنفس المحنة من جديد، قرأت هذه الرسالة يا سيدي ففجرت داخلي طوافاً من المشاعر والذكريات، وأحسست أنى أريد أن أتحدث مع زوج هذه السيدة الفاضلة، وأن أروي له تجربتي وقصتي مع الحياة لعله يغير رأيه ويستجيب لرغبة زوجته ورحمة بها وإشفاقا عليها مما عانته.

فأنا يا سيدي شاب تزوجت منذ 7 سنوات من زوجة ليست من أقاربي، ووفقني الله معها فعشنا أيامنا سعداء منذ اللحظة الأولى .. وكنت فى ذلك الوقت أعمل فى إحدى الدول العربية، وأدرس فى نفس الوقت منتسبا فى كلية الحقوق بجامعة عين شمس، وأعود كل سنة لأداء الامتحان، وبعد أن حصلت على الشهادة الجامعية قررت العودة لبلادي .. وفور عودتي منذ 6 سنوات وجدت عملا ملائما فى شركة استثمارية، وسعدت به جدا وبحياتي الزوجية وبعودتي لبلدي بعد 5 سنوات من الاغتراب عنها، وأتم الله نعمته على بعد أقل من عامين من الزواج فأنجبنا طفلة جميلة جدا، أسميتها (رشا) وسعدت بها أكثر وطارت بها زوجتي فرحا، ومضت حياتنا هادئة سعيدة والحمد لله.. وذات يوم لاحظت زوجتي شيئا غريبا يلمع فى عين طفلتنا اليسرى، وبقلب الأم أثارت هذه اللمعة الخاطفة قلقها واهتمامها فأسرت إلي بها، فنظرت فى عينها فلم أرى شيئا.. فلما حدثتني بمخاوفها مرة أخرى قلت لها إن ابنتنا كالوردة المفتحة، ولا داعي للقلق، وانتهى الموضوع عند هذا الحد، وبعدها بفترة ذهبنا فى أجازة صيف إلى الإسكندرية، وقمت بتصوير رشا على البلاج وجاءت الصورة جميلة كصاحبتها لكني حين دققت النظر فيها وجدت فى عين الطفلة اليسرى نقطة بيضاء صغيرة جدا كرأس الدبوس، ظننتها فى البداية عيبا فى طبع الصورة لكنى وجدتها فى باقي الصور، فانقبض قلبي وأحسست بشىء ثقيل يجثم على صدري، وبدأت أفكر فى استشارة طبيب لمعرفة سر هذا الشىء اللامع فى عين ابنتي، وذهبت بها إلى طبيب كبير ففحصها بدقة، ثم نظر إلي وقال بعد لحظات من الصمت الثقيل إن هناك وحشا يسكن بعين ابنتي اليسرى، وأنه نما وتضخم خلال الفترة الماضية، ولم يعد هناك حل سوى استئصالها.. وعلاج العين الأخرى بالكوبالت فدارت الدنيا بى وأنا أسمع حكم الطبيب على ابنتي البريئة ، وعرفت سر هذا الشىء اللامع الذى يطل أحيانا من عينها.. ويتوارى أحيانا أخرى عن الأنظار.. إنه المرض اللعين جاء واستقر فى عينها اليسرى، ونحن غافلون ثم أعلن عن نفسه فجأة وزلزل حياتنا الهادئة، وكدت فى غمرة انفعالي فى هذا اليوم الكئيب أن أفقد زوجتي نفسها، لكن رحمة الله تداركتني وألهمتني الصبر والجلد، فتوجهت بابنتي إلى عدد كبير من الأطباء إلى  أستاذ كبير للعيون لأستشره فيكون رأيه هو القول الفصل فى المسألة، فحملت إليه ابنتي وفحصها بعناية ثم قرر ضرورة استئصال العين اليسرى وعمل عملية بالكوبالت للعين اليمنى على وجه السرعة، فسلمت الأمر لله وأدخلت ابنتي المستشفى تحت إشرافه. ودخلت ابنتي غرفة العمليات لينتزع الطبيب إحدى عينيها وتم إجراء عملية الكوبالت للعين الأخرى.. وعادت ابنتنا إلى غرفتها كالوردة الذابلة ودموعنا لا تجف مما عانته من أهوال، ومما حكمت به عليها المقادير، ومع مرور الأيام بدأت رشا تسترد صحتها.. ونضارتها وعادت إلى الحياة لتطل عليها من عينها الوحيدة وبدأت أنا فى تجهيز عين صناعية تحفظ لها منظرها.. وتم تركيب العين وبدأت رشا تتعود عليها.. وتعود إلى مرحها القديم.. وبدأنا نحن نطمئن إلى ذلك مع الاستمرار فى علاج عينها اليمنى لكي نحافظ على ما بقى لها من شعاع النور وترددنا بانتظام على الطبيب الكبير ثم بدأت زوجتي تهمس لى من بين دموعها بأن البنت لا تكاد ترى بالعين اليمنى.. وأنها تتعثر فى الأثاث فى شقتنا .. ولا تميز الأشياء جيدا، فهرولت بها إلى الطبيب فأعاد فحصها ثم صارحنا بالحقيقة المرة وهى أن المرض اللعين نفسه قد أطل مرة أخرى من العين اليمنى، ولابد من جلسات إشعاع عليها حتى لا يستمر وينتشر إلى بقية أجزاء الجسم .. فقمنا بعمل الجلسات المطلوبة وعدنا للطبيب فقرر أن تبدأ جلسات العلاج الكيماوي لحماية جسمها من الزائر اللعين، وتقرر لها 30 جلسة وبدأنا هذه الجلسات مرة كل أسبوعين، وفى الأسبوع الحالي يتم تحليل دمها لنعرف مدى تحملها للجلسة القادمة.

وذات يوم قرر المستشفى أنها فى حاجة لنقل دم، وتم نقل دم لها فكاد يقضى عليها إذ تبين أنه ملوث، وأصيبت ابنتي بمرض الصفراء كأنها كانت فى حاجة إلى مزيد من العذاب، وتوقف علاجها كيماويا لمدة شهرين إلى أن شاء الله لها أن تشفى من الصفراء ولن تنجو من خطرها.

وواصلنا رحلة العناء لمدة 7 شهور، وبعد 15 جلسة من العلاج فوجئنا بشعر ابنتي يتساقط كله حتى لم يتبق برأسها شعرة واحدة، فأصيبت زوجتي بهلع شديد، وتمزق قلبي وأنا أرى ابنتي الجميلة فى منظر كئيب، وتوجهت بقلبي إلى الله واستخرته ثم قررت وبصفة نهائية أن أضع الأمر كله بين يديه وأن أفوضه فيه وحده.

و هكذا قررت وبإصرار التوقف عن جلسات العلاج الكيماوي وليفعل الله بعباده ما يشاء، وتوقفت عن الذهاب بها إلى الجلسات، ومضت الأيام وقلبي واجف.. لكن شيئا فى داخلي كان يعيدنا إلى الطمأنينة كلما ألح علي الخوف.. وبدأ شعر ابنتي ينمو من جديد حتى عاد إلى ما كان عليه.. وبدأت هى تتعود على حياتها كطفلة من أطفال النور، واستعادت جمالها القديم وخلال هذه الملحمة .. كانت فكرة الإنجاب مرة أخرى تراودني من حين إلى آخر وترددت أمامها وتسلطت على نفس المخاوف التى تسلطت على زوج السيدة الفاضلة، لكنى نفضت عنى المخاوف وسلمت الأمر لصاحبه، واتفقت مع زوجتي على الإنجاب ورزقنا الله ونحن فى هذه المأساة بالطفلة (دينا) فشكرنا الله كثيرا على ما أعطى، وبعد شهرين من ولادتها حملتها إلى الطبيب الرحيم الذى سار معنا مشوار العذاب، ليفحص عينيها ويرى هل زارها نفس المرض أم لا؟ فبشرنا بأنها خالية منه والحمد لله، والآن يا سيدي فقد بلغت طفلتي الثانية حوالي العامين وهى فى أتم صحة وعافية، ولم يطل الزائر اللعين من عينيها، ولن يحدث بأمر الله، أما رشا الجميلة الكفيفة فهي أيضا فى أتم صحة وقد مضى الآن على توقفها عن العلاج عام أو يزيد ، وهى فى تمام العافية وفى غاية السعادة والمرح والنشاط.. وهى تذهب كل صباح بسيارة الحضانة إلى المركز، وتلتقي بأطفال فى نفس سنها وظروفها فتتعلم وتلعب وتسمع الحكايات ، وتعود إلينا فى منتهى الحيوية لتروى لنا القصص الطريفة، وقد وهبها الله ذكاء يفوق سنها وممتازة علميا، وأنا فخور وسعيد بها واصحبها معي إلى كل مكان أذهب إليه، وبين دينا ورشا تمضى حياتنا ونحن سعداء بها وزوجتي التي عانت كثيرا وتحملت كثيرا، سعيدة وراضية مثلي بما أعطانا الله ونحمده عليه ونشكره على كل شىء ، وقد أردت أن أعطي درس حياتي لزوج هذه السيدة الفاضلة ليتخلص من مخاوفه، وليكون على ثقة من أن الله لا يتخلى عنه، وليتوكل عليه ويستجب لرغبة زوجته التي تحبه واكتوت بفقد طفلها، وسوف يعطيه الله ما يريد ويحفظ له أبناءه القادمين من كل سوء إن شاء الله .

جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"

abdelwahabmetawe.blogspot.com

 

ولكاتب هذه الرسالة أقول:

يا سيدي إنك لم تقدم درس حياتك لزوج هذه السيدة الفاضلة وحده، وإنما ألقيت علينا جميعا درسا بليغا فى الإيمان بالله، وتسليم الوجه إليه، وتقبل كل ما تحمله لنا أمواج الحياة بنفس راضية وفى القدرة على استشعار السعادة فيما منحه الله لنا من أسباب مهما كانت مساحتها، ولقد صدقت فى كل ذلك يا صديقي فالسعادة " إرادة وقدرة " قبل أن تكون أسبابا، لهذا يعجز البعض عن استشعار السعادة فى أكثر الظروف مدعاة لها، و(يقدر) البعض على الإحساس بها فى أقل الظروف تهيؤاً لها، والفارق هنا هو فى حكمة الإنسان وإيمانه بالله وقدرته على فهم الحياة التى تطالبنا دائما بأن نكيف أنفسنا مع الواقع الذي لا نستطيع له تبديلا، وأن ننظر دائما إلى الجانب البهيج من حياتنا لكى يعادل ما أصابنا من آلام، وبأن نتطلع دائما إلى نصيبنا من السعادة بقلب يخفق دائما بالأمل.

لهذا قال أحد المفكرين يوماً "إن معظم آلام الإنسان من صنعه هو" ليس لأنه يريد إيلام نفسه، وإنما لأنه قد يسمح لآلام الحياة التى لا تخلو منها حياة بشر بأن تشقيه، وهو قادر على أن يجنب نفسه ذلك إذا وضع كل الأمور فى حجمها الصحيح ، وآمن بصدق بأن مالا حيلة لنا فيه لا طاقة لنا به، وإذا حاول دائماً أن يداوى جراحه بالصبر والأمل، وأدرك أنه لكل حال جمالها، ولكل جرح دواء، ولكل إنسان من حظه ما يسعده ومن همه ما يشقيه، وعليه أن يهنأ بأسباب السعادة ويصبر على أسباب الشقاء.

وأنت يا صديقى قد أدركت كل ذلك بحكمتك، {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}    فلم تسمح لتجربتك الأليمة بأن تسجنك فى إسارها، ولا بأن تحرمك من حقك العادل فى السعادة وأنت جدير حقا أنت وزوجتك الكريمة بكل خير وكل سعادة، لأن من عانى أعظم الألم أحق بأن ينال أيضا أعظم السعادة، فلتطب لك الحياة مع زوجتك التى لا شك فى أنها كانت خير عون لك على المحنة. أعانها الله على ما عانت وما لاقت. ولتهنأ بزهرتيك الجميلتين رشا ودينا أقر الله بهما أعينكما، وهيأ لكما من أمركما رشدا، ولعل زوج كاتبة رسالة (العشرة القديمة) يقرأ رسالتك القيمة هذه ويستفيد بدروسها ويتعلم ما ينبغي أن نتعلمه جميعاً منها وهو (سر الحياة) الذى قال عنه الشاعر:

وما سر الحياة سوى احتمال

 سواء للهنى وللشقى

وشكرا لك يا سيدى أن أردت – نبلاً منك وكرماً- أن تخفف (بآلامك) عنه وعن غيره من المعذبين بعض آلامهم.

رابط رسالة العشرة القديمة

رابط رسالة طائر الأمل تعقيبا على هذه الرسالة

رابط رسالة هموم الآخرين تعقيبا على هذه الرسالة

نشرت في جريدة الأهرام باب بريد الجمعة سنة 1988

كتبها من مصدرها / ياسمين عرابي
راجعها وأعدها للنشر/ نيفـين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات