لسع العقارب .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

 

لسع العقارب .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

لسع العقارب .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988


أنا يا سيدي شاب في العشرين وطالب بأحد المعاهد المتوسطة وأعيش في الإسماعيلية وأبي موظف محدود الدخل يعول 5 أبناء أنا أكبرهم .. لذلك فقد تعودت منذ 4 سنوات على أن انتهى من امتحاناتي ثم أسافر إلى الصحراء الغربية لأعمل في كافيتريا تتبع إحدى شركات التنقيب عن البترول في قلب الصحراء .. فاعمل طوال شهور الصيف هناك ثم أعود إلى بلدتي بعد انتهاء الإجازة بما كسبته من عملي فاشتري احتياجات العام الدراسي لي ولإخواتى من كتب وملابس ويبقى معي ما سأصرفه خلال شهور الدراسة الجافة.

ورغم قسوة العمل حيث اعمل لمدة ١٢ ساعة متوالية في لهيب الصحراء إلا إنني كنت سعيدا به وحريصا على أن أعامل الجميع بالحسنى والتطوع لخدمتهم فأحبني الجميع إلى حد أن المقاول الذي اعمل معه كان يتأثر حين أودعه في نهاية الإجازة ويشدد علي أن أعود إليه مع أول الصيف ويصفني بأنني رجل وأمين ومكافح فأشكره وأعود مشتاقا إلى أسرتي لاستمتع بلذة لا توصف وأنا اشتري احتياجاتي واحتياجات إخوتي وأحس أني قد خففت عن أبي بعض أعبائنا .. وفي العام الماضي مضت شهور العمل كالمألوف ثم حدث ذات ليلة أن تسلمت العمل في وردية الليل وطلب مني المقاول أن احمل الشاي من كافيتريا الموقع إلى المهندسين عند بريمة الحفر على بعد كيلو متر كان علي أن أمشيها في الرمال وهو ما فعلته مرارا من قبل فحملت إبريق الشاي والأكواب وتحسست طريقي في الظلام إلى البريمة فما أن مشيت عدة مئات من الأمتار حتى أحسست فجأة بلسع النار في قدمي فأدركت على الفور أن عقربا قد لسعني فصرخت من أعماقي فجاء إلي مسرعا من حملني إلى كرفان طبيب المعسكر الذي فحصني بسرعة وحقنني بالمصل المضاد لسم العقرب وأدوية تناولتها لمدة ثلاثة أيام فشفيت والحمد لله من هذا الأذى.

 

وخلال كل ذلك كان الجميع حولي كأنهم أسرتي ولم يخصم المقاول الكريم أكرمه الله أجر هذه الأيام الثلاثة التي رقدتها من مرتبي .. واستقبلني بعد الشفاء مرحبا ومشجعا فعدت للعمل وأنا أكثر سعادة بمحبة زملائي ورؤسائي لي .. وواصلت العمل بهمة ونشاط حتى بدأت الدراسة وعدت إلى بلدتي .. وتكتمت الأمر طبعا عن أسرتي .. لكن أحد زملائي الذين كانوا يعملون معي في الموقع أفشى لأبي السر بعد عودته فبكت أمي طويلا إشفاقا علي مما تحملته واقسم أبي بأغلظ الأيمان أنه لن يسمح لي بالعودة للعمل في هذا المكان مرة أخرى ولم أشأ مجادلته فقد كنا في بداية العام الدراسي الماضي ومازالت الشهور طويلة إلى أن يأتي الصيف فلعله ينسى ما حدث ويسمح لي بالسفر لكن المشكلة يا سيدي انه لم ينس فلقد انتهت الدراسة وبدأت الإجازة منذ حوالي شهرين ومازال أبي يرفض السماح لي بالسفر للعمل في الصحراء خوفا علي من لسع العقارب فلجأت إلى أمي فأيدته في موقفه وحاولت إثناءه عن رأيه فلم أوفق ووسوس لي الشيطان أن أسافر خفية لكني تراجعت في اللحظة الأخيرة خوفا من غضبهما علي وحرصا مني على طاعتهما .. فرضخت للأمر الواقع وبدأت البحث عن عمل في مدینتي دون جدوى .

لهذا اكتب إليك يا سيدي لتوجه كلمة لأبي الذي يقرا لك ليسمح لي بالسفر إلى الصحراء لأني في حاجة إلى عملي هناك ولتقول له إن رب هنا هو رب هناك .. وأن الموت يدرك الإنسان ولو كنتم في بروج مشيدة ، فالأيام تجري وأخشى أن تنتهي الإجازة وأنا بلا عمل فأصبح عالة على الأسرة طوال العام الدراسي والحال كما تعلم وسأكون شاكرا لك جدا لو فعلت .

 

ولكاتب هذه الرسالة أقول :

إنك شاب جدير حقا بالإعجاب والاحترام ليس فقط لكفاحك النبيل في الحياة إلى حد التعرض للسع العقارب والسعي للعودة إلى نفس الموقع طلبا للعمل وما يدره عليك من رزق حلال وإنما أيضا لحرصك على طاعة أبويك مدركا لما في تصرفهما من رحمة بك والإشفاق عليك رغم حاجة الأسرة إلى ما تعود به بعد رحلة العمل من مال .

 والحق إني حائر بينكم فأنت على حق في رغبتك العادلة في العمل وتخفيف بعض الأعباء عن أبيك المثقل بأعباء خمسة أبناء الذي يلاطم الحياة هو الآخر في معركة لا تقل قسوة أحيانا عن لسع العقارب وأبوك أيضا على حق في حرصه عليك و إشفاقه مما أصابك .. لهذا فإني سأخرج من حيرتي بأن أناشد أصحاب الأعمال والمسئولين بالإسماعيلية قائلا لهم : ألا يستحق مثل هذا الشاب المكافح الأمين عملا موفقا لمدة شهر في مدينتكم .. فإذا أثمرت دعوتي ثمارها سوف اتصل بك في أسرع وقت أما إذا خاب رجائي فسوف أدعوك للحضور إلى بريد الأهرام لتتولى بعض أعباء العمل الإداري فيه خلال الفترة الباقية من الإجازة ولولا إشفاقي عليك من أن تستنزف تكاليف الإقامة في القاهرة معظم عائد عملك لدعوتك من البداية للحضور والانضمام إلى أسرتنا الصغيرة مرحبا بك وسعيدا بزمالتك في هذه الفترة القصيرة ، والله المستعان على ما تصفون.



نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1988

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات